مصر صوب السودان.. استعادة النيل والدور الأفريقي

مصر صوب السودان



تستعد مصر للذهاب عميقاً مخترقة أدغال القارة الأفريقية في محاولة لاستعادة دورها التاريخي، حتى ولو كلّفها هذا الاتجاه عكس تيار النيل الممتد من الجنوب إلى الشمال.

فباتجاهها جنوباً تدعّم مصر وجودها الأفريقي وتختصر المسافة التي خلّفتها أعباء السياسة، كما يمكنها أن تطمئن على أمنها المائي الذي يتحقق به أمنها القومي، واضعة على طول امتداد النهر العديد من المشاريع التنموية وألوية السلام.

"
يعتبر وجود مصر الأفريقي حتمية تاريخية مثلما هو واقع جغرافي أهملته الدولة المصرية خلال العقود الثلاثة الأخيرة، ولكنها عادت لتلحق بركبه أخيراً
"

ومصر كما يعلن خبراؤها ليست دولة متوسطية أو عربية فقط وإنما أفريقية أيضاً، لذا يعتبر وجودها الأفريقي حتمية تاريخية مثلما هو واقع جغرافي أهملته الدولة المصرية خلال العقود الثلاثة الأخيرة ولكنها عادت لتلحق بركبه أخيراً.

لم تتراجع مصر مؤخراً عن المقولة الفانتازية الخالدة للمؤرخ الإغريقي هيرودوت "مصر هبة النيل"، ولكنها ازدادت يقيناً بأن نهر النيل العظيم ليس بتلك الدرجة من القداسة التي تجعل مياهه منسابة بغير ما يعكر صفو توزيع حصصه على دول المنبع والمصب معاً، وبشكل يهدد تدفقه إلى مصر.

وإن كانت لمصر علاقات إقليمية أفريقية ملزمة بضرورة التعاون ومهمة لأمن مصر القومي، فإن علاقتها المتبادلة مع السودان هي الأكثر إلزاماً.

وقد وعى هذه الحقيقة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وخطا خطوات واسعة باتجاه مشروع دولة وادي النيل الكبرى. ذلك المشروع المجمّد منذ استقلال السودان عام 1956م، مروراً بعبد الناصر ثم السادات الذي عمل مع الرئيس السوداني الأسبق جعفر النميري على توقيع ميثاق التكامل بين مصر والسودان، وبميثاق الإخاء في عهد الديمقراطية الثالثة عام 1987م، إلى أن جاء انقلاب الإنقاذ ورمى بكل المواثيق والعهود الأخوية إلى مزبلة التاريخ، بعد محاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك عام 1995م في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا.

وهكذا سجلت مصر خروجاً آخر من علاقاتها مع السودان وبقية دول القارة الأفريقية، مكملة انسحابها التاريخي من المشهد العربي منذ توقيع اتفاقية كامب ديفد عام 1979م.

وكما لم يخضع النيل في ربطه بين الدول لعوامل السياسة، فإن على مصر ألا تقع في خطأ السؤال والتوقعات التي يكونها الوجود الحالي لدولة السودان المنقسمة إلى شمال وجنوب: أي من الدولتين المكونتين لشمال وجنوب السودان مؤهلة أكثر لخطاب السودان أفريقياً؟.

فعندما تراخت مصر عن التعامل مع السودان الموحد، وانسحبت بثقلها الإقليمي عن لعب دور حقيقي تجاه قضايا السودان، دارت عجلة الزمان وفرضت عليها الآن التعامل مع دولتين بدلاً عن دولة واحدة.

وهذا ما جاءت به الزيارة الرسمية الأولى خارجياً منذ تغيير نظام الحكم في مصر بعد ثورة 25 يناير، والتي قام بها رئيس الوزراء المصري د.عصام شرف، فشملت الزيارة شمال وجنوب السودان معاً.

فباتجاه السودان الشمالي شمالاً لتجديد هويته العربية الإسلامية، وباتجاه الجنوب السوداني جنوباً موغلاً في العمق الأفريقي لتتضح هويته الأفريقية أكثر، لم تترك الدولتان مساحة للتحرك إلا عند نهر النيل الذي لا يمكنه تغيير مجراه من المنبع إلى المصب.

وقد أدرك المصريون هذا السر، فمهما تقسم السودان وانفصل جنوبه عن شماله، فإن هناك ما هو باقٍ عصيٌّ على الانفصال أو التغيير.

ومن هنا كذلك خاطب المصريون السودانيين في الشمال والجنوب بهذه اللغة، لينضم الأمن المائي بالنسبة لمصر والسودان إلى جملة محققات الأمن الوطني، من احترام كيان الدولة ودستورها وشعارها الوطني وعلمها وعملتها الوطنية، إلى الحفاظ على هويتها واستقرار نظامها السياسي ثم سيادتها داخل أراضيها.

تقدم الجانب المصري أخيراً خطوة بشأن طي صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة في علاقات البلدين. هذا التحرك نابع من الخطر المحدق بالحقوق التاريخية لمصر والسودان كدولتيْ مصب في مياه النيل.

وبانفصال جنوب السودان ليصبح الدولة رقم 11 في حوض النيل، ما زال يطالب منذ عام 2009م بإعادة توزيع حصص مياه النهر بين الدول الأعضاء، بناء على واقع انضمام الدولة الوليدة لدول الحوض.

أما لقاء رئيس الوزراء المصري عصام شرف والوفد المرافق له فإنه لم يهمل هذا الجانب، ولكنه ركز عوضاً عن ذلك على بحث عدد من المشروعات الإنمائية التي تقدمت بها مصر لتحسين الخدمات في الجنوب، ومن بينها مشروعات التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي ستقوم بتنفيذها شركات مصرية في الولايات الجنوبية، في مجالات الصناعة والنفط والغاز الطبيعي والنقل والزراعة والثروة الحيوانية والسمكية.

وكما ركز لقاء وزيريْ الموارد المائية والري المصري حسين العطفي والسوداني كمال علي، ابتداء على بحث تنسيق المواقف بين مصر والسودان في التعامل مع الجوانب الخلافية بين دول المنبع والمصب لنهر النيل، خصوصاً بعد توقيع ست دول من حوض النيل على الاتفاقية الإطارية، ختماه بالتحرك مستقبلاً بشأن ملف النيل.

وكان نفس اللقاء بين وزيريْ الري المصري والجنوبي بول ميوم قد ختماه بالتوقيع على بروتوكول التعاون في مجال الموارد المائية والري بين مصر وجنوب السودان، وتفعيل التعاون بعد إعلان دولة الجنوب رسمياً في التاسع من يوليو/تموز من هذا العام.

"
توزيع المياه بين دولتيْ السودان شماله وجنوبه من جهة، وبين هاتين الدولتين ومصر من جهة أخرى، سيقف معضلة أساسية لها ما لها من آثار على بقية دول حوض النيل
"

ومن هذا الوضع الجديد المتولد من استقلال دولة الجنوب فإن تساؤلات عن كيفية توزيع المياه بين دولتيْ السودان شماله وجنوبه من جهة، وبين هاتين الدولتين ومصر من جهة أخرى، سيقف معضلة أساسية لها ما لها من آثار على بقية دول حوض النيل.

ويتضح موقف دولة الجنوب بعد انفصالها وإعلان الدولة رسمياً، برجوع الخبراء إلى اتفاقية فيينا لعام 1987م في بندها الخاص بخلاف الدول في المعاهدات، والذي ينص على أن علاقة الدولة الجديدة التعاقدية تبدأ بعد استقلالها أو انفصالها.

وهذا يقتضي من مصر والسودان كشريكين في اتفاقية مياه النيل السابقة لعام 1959م أن يوفرا نصيباً من المياه لدولة الجنوب مناصفة بينهما. وكانت مصر قد انسحبت فيما سبق من هذه القضية بحجة عجزها عن سد احتياجاتها المائية، ومطالبتها دول الحوض في مؤتمرات الاتفاقية الإطارية بما يساوي 11 مليار متر مكعب من المياه.

لم يصرّح الوفد المصري في زيارته للجنوب بخشيته الفعلية على المياه، ولم يزد سلفاكير رئيس حكومة الجنوب بأكثر من أنّ "حصة مصر من المياه لن تُمس". هذا يعني أن كلا الجانبين لم يغلقا القضية، وإنما تركا الباب موارباً للأقدار لعلها تأتي بمعالجة من لدن القانون الدولي باتفاقيات تضمن الحقوق المكتسبة لكل دولة.

قد يصلح وصف دولة جنوب السودان بأنها دولة منبع ومصب معاً فبتكونها من أعالي النيل والاستوائية وبحر الغزال، وبتميز طبيعة مناخها بسافنا غنية إلى استوائية فهي تكون مصدر مياه لستة أشهر من السنة آتية من الأنهار القادمة من حوض بحر الغزال والهضبة الإثيوبية والاستوائية.

وعلي ذلك فهي ليست في حاجة ملحة لمياه النيل للزراعة إلا في فترة معينة يمكن الاتفاق على سد نقص المياه فيها، كما يمكن العمل على الاستفادة من المياه المتدفقة من بحر الغزال والمياه الواصلة من البحيرات الاستوائية والمتبخرة من مستنقعات بحر الغزال والزراف، والتعاون كذلك مع السودان الشمالي ومصر لاستغلال المياه في توليد الطاقة والصناعة والخدمات والنقل النهري.

وبالنظر إلى الاحتياجات المائية لدول حوض النيل، فإن مصر تعتمد على أكثر من 95% من احتياجاتها من المياه، في حين تحتاج أثيوبيا 1% من مياه النهر وكينيا 2% تقريبا وتنزانيا 3% والكونغو 1% وبوروندي 5% والسودان 15%.

وتحصل مصر بموجب اتفاق تم توقيعه بين القاهرة والخرطوم عام 1959 على 55.5 مليار متر مكعب من مياه النيل، فيما يحصل السودان على 18.5 مليار متر مكعب من مياه النيل البالغة 84 مليار متر مكعب سنوياً، أي أن البلدين يحصلان على حوالي 87% من مياه النهر. وتعترض إثيوبيا وتنزانيا وأوغندا وكينيا وجمهورية الكونغو على الاتفاقيات السابقة، وتطالب هذه الدول بما وصفته بتقاسم أكثر عدلاً لمياه النهر.

ووفقاً لهذا الشعور من دول المنبع بالتوزيع غير العادل لمياه النيل، فإنها قامت بعرض سياسات التنمية الزراعية والصناعية، التي تتطلب بناء سدود على البحيرات وعلى بعض روافد النهر، والتي ظهرت في الأفق عام 1995م، خاصة بعد أن شرعت إثيوبيا بمساعدة إسرائيل في بناء خزانات في الهضبة الإثيوبية، مما يهدد بتخفيض حصص المياه المكتسبة لمصر.

هنا ازداد قلق مصر على حصتها من مياه النيل، ومن منطلق الإيمان بهذا الحق فإن إعادة النظر في الاتفاقية يعد بمثابة مكسب للسودان، لأنه أيضاً في حاجة إلى كميات إضافية من المياه.

أدركت مصر مؤخراً أنها لا بد من أن تتحرك بعدما أدارت ظهرها لأفريقيا ومصالحها في القارة السمراء زمناً طويلاً، فتم عقد اجتماع لوزراء المياه لدول حوض نهر النيل في أبريل/نيسان 2010م في منتجع شرم الشيخ المصري.

وظهر في ذلك الاجتماع اختلاف كبير في وجهات النظر ما بين دول المنبع ودول المصب. ففي حين أعلنت دول المنبع التوقيع على الاتفاقية الإطارية للتعاون الفني بين دول الحوض، رفضت دول المصب ذلك وطالبت بإنشاء مفوضية عليا للتعاون فيما بين دول المنبع ودولتيْ المصب.

أما دول المنبع فمنها خمس دول وقعت على اتفاقية عنتيبي بأوغندا في مايو/أيار 2010م، وهي: "إثيوبيا، وأوغندا، ورواندا، وتنزانيا، وكينيا"، ولحقتها فيما بعد دولة بوروندي من دول حوض النيل لتكون العضو السادس في دول المنبع الموقعة على الاتفاقية، ولتشكل دول المنبع أغلبية تمكنها من عدم الالتزام بحصتيْ مصر والسودان.

وينص الاتفاق الذي تم توقيعه في مدينة عنتيبي الأوغندية "على أن مرتكزات التعاون بين دول مبادرة حوض النيل تعتمد على الاستخدام المنصف والمعقول للدول، بأن تنتفع دول مبادرة حوض النيل انتفاعاً منصفاً ومعقولاً من موارد مياه المنظومة المائية لنهر النيل، وعلى وجه الخصوص الموارد المائية التي يمكن تطويرها بواسطة دول مبادرة حوض النيل وفق رؤية لانتفاع معقول"، وهو تفسير لمطالبة صريحة يمكنها أن تنسف حصص مصر والسودان التاريخية في مياه النيل.

"
يتعين على مصر ما بعد ثورة 25 يناير مراجعة دورها الأفريقي الذي وصّل بقصوره الملموس المفاوضات مع دول حوض النيل إلى حافة الفشل
"

وبإدراك المسؤولين المصريين في مرحلة ما بعد ثورة 25 يناير لخطورة إهمال النظام السابق لأفريقيا عامة والسودان خاصة -الذي يمثل جزءاً لا يتجزأ من أمن مصر القومي، بالإضافة لعوامل النيل والتاريخ والجغرافيا المشتركة- فإنه يتعين على مصر مراجعة دورها الأفريقي الذي وصّل بقصوره الملموس المفاوضات مع دول حوض النيل إلى حافة الفشل.

وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن مصر اليوم ليست في استطاعتها استعادة دورها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، ذلك الدور الذي قدمته مصر عبد الناصر إلى حركات التحرر الأفريقية، فإنه يمكنها أن تلعب دوراً آخر أكثر حيوية.

فلا يكفي أن تصل التسريبات من الخرطوم بأنها قد لا تصمد طويلاً على موقفها الرافض لاتفاقية مياه حوض النيل (عنتيبي) حتى يتم التحرك المصري جنوباً.

فمصر لم تضم الهوية الأفريقية إلى هوياتها العربية والمتوسطية إلا في تعبيرات المثقفين البعيدة عن الحياة السياسية. ففي حين تنتفي لهجة الاستعلاء المصري تجاه الأفارقة ثقافياً، تعلو سياسياً، مما يسبب مشاعر مختلطة من الاستياء والحساسية.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان