الأردن والمَلكية المطلقة

الأردن والمَلكية المطلقة - الكاتب: أيمن شحادة



ظللتُ منذ بدأت الثورة العربية العظمى في تونس قبل أسابيع عدة، أتابع الجرائد الأردنية لأرى -وأنا في غربتي عن البلد- ما يحصل فيها من حراك. والغريب جدا أني وجدت أولئك المعارضين للإصلاح -عدا السطحي منه- المدافعين عن بقاء الأمور كما هي، ما زالوا على ديدنهم كأنهم لم يتعلموا أي درس من نظرائهم في تونس ومصر وليبيا.

والغريب كذلك أن المعارضة التقليدية لم تفارق خمولها هي أيضاً، إذ ما زالت على مطالبها الضئيلة الضبابية في الإصلاح السياسي المبهم، وفي السماح بالمظاهرات والمهرجانات كأنها صارت غاية في ذاتها، وفي تعديل قانون الانتخاب كأن مكمن المشكلة في حرمان بعضهم من مقاعد مجلس النواب، وكأن لهذا المجلس وزناً أو دوراً -فعلياً كان أو نظرياً- بعد ما لحقه من تخريبٍ عمد. لكنني متفائل في هذه الأيام الأخيرة لظهور مبادرات متنورة جريئة تطالب بالإصلاح الحقيقي.

"
المعارضة التقليدية لم تفارق خمولها، إذ ما زالت على مطالبها الضئيلة الضبابية في الإصلاح السياسي المبهم، وفي السماح بالمظاهرات والمهرجانات كأنها صارت غاية في ذاتها
"

ليست نيتي ها هنا أن أخوض في أي تفاصيل هامشية، ولا أن أخوض في الإشاعات عن فلان وفلان، ولا عن كذا وكذا من تهم الفساد والتجاوزات واستغلال السلطة وثروات البلد لصالح شريحة ضيقة، مع أن كل هذا جدير أن يخاض فيه، ومع أن لي ولغيري الحق في ذلك.

فما يهمني هو النقد الإصلاحي للتركيبة السياسية في الأردن، وهو ما يحتاج إليه البلد في هذه المرحلة، وما ينبغي على الأردنيين التمسّك به، سواء المطالبون منهم بالإصلاح والقائمون على أمور النظام والبلد.

فالمشكلة السياسية في حقيقة الأمر هيكلية كلية عميقة جدا، ولا تكمن في جزئيات ضئيلة، كقضايا فساد بعينها، أو كأشخاص الوزراء ورؤساء الوزارة بأعيانهم من زيد وعمرو، أو كقانون كذا وكذا.. بل مشكلة البلد الرئيسية تكمن في أن منظومته السياسية عفا عليها الزمن حتى باتت أليق بالقرن التاسع عشر -على أفضل تقدير- منها بعصرنا الحالي.

والطامة أنها بدلاً من أن تتطور على مر السنين إلى منظومة سياسية أكثر حداثة وعقلانية ومؤسساتية، تخلفت بالفعل من نواح عدة، وكأنها منظومة تحن إلى العصور الوسطى وتطمح إليها. وليس هذا التخلف السياسي نتيجة الجهل والترهل والتكاسل عن الإصلاح، وإنما لملاءمته جهات ما. هذا في بلد يريد أصحاب السلطة فيه أن يظهروا أنهم عصريون ينبذون التخلف.

المشكلة الأولية في هذه المنظومة أنها تقوم على مَلكية مطلقة تدور في فلكها أجزاء النظام والدولة، كالسياسة والإدارة والقضاء والاقتصاد والأمن وغيرها. لا أقول المشكلة في الملكية في مفهومها الضيق فحسب، بل في قيام النظام على ملكية مطلقة ودورانه في فلكها، حتى صارت منظومة الدولة تتشعب أول الأمر على أساس الوصولية والانتفاع والخدمة والمحسوبية من أسفل، والتفضل بأنواع المكافآت من أعلى. وحتى غابت الوطنية الحقة، وغاب الولاء للشعب وخدمة الناس والوصول إلى المناصب والمكاسب عن استحقاق.

والمشكلة الرئيسية هذه تتشعب عنها مشاكل أخرى، بعضها يتجسد صراحة في نصوص الدستور والقوانين، وبعضها لا يتجسد في نصوص وإنما يلزم ضرورة في واقع حال منظومة سياسية كهذه وفي ثقافتها وأعرافها. وليس خصامي ها هنا -بالمناسبة– مع النصوص من حيث هي، بل من حيث إن فيها تجسيداً لواقع الحال وتعليلاً وتكريساً له.

أما المشكلة الأولى التي تتشعب عن المشكلة الأصل فهي أن الإرادة الملكية مطلقة تجتمع فيها كل السلطات اجتماعاً لا مجال معه لأي فصل حقيقي أو ذي معنى للسلطات، فالمادة 26 من الدستور تقول "تناط السلطة التنفيذية بالملك ويتولاها بواسطة وزرائه وفق أحكام هذا الدستور"، والمادة 35 منه في الفصل المتعلق بالسلطة التنفيذية كذلك تقول "الملك يعيّن رئيس الوزراء ويقيله ويقبل استقالته ويعين الوزراء ويقيلهم ويقبل استقالتهم بناء على تنسيب رئيس الوزراء". كما أن المادة 98 من الفصل المتعلق بالسلطة القضائية تقول "يُعيَّن قضاة المحاكم النظامية والشرعية ويُعزلون بإرادة ملكية وفق أحكام القوانين". بل حتى السلطة التشريعية، للملك سلطة فوقها يمارسها فعلاً، إذ تعطيه المادة 34 من الدستور حقاً مطلقاً في إصدار الأوامر بإجراء الانتخابات النيابية وفي حل مجلس النواب وتأجيله.

ورغم هذه الحقوق المطلقة التي يعطيها الدستور لمنصب الملك، فهو يعفيه مطلقاً من أي مسؤولية، ويجعل الإرادة الملكية غير خاضعة لإرادة الشعب ولا لأي نقد أو شفافية على أسس القانون. فإن كانت المادة 49 من الدستور تنص أن "أوامر الملك الشفوية أو الخطية لا تخلي الوزراء من مسؤوليتهم"، فالمادة 30 تقول إن "الملك هو رأس الدولة وهو مصون من كل تبعة ومسؤولية".

"
رغم الحقوق المطلقة التي يعطيها الدستور لمنصب الملك، فهو يعفيه مطلقاً من أي مسؤولية، ويجعل الإرادة الملكية غير خاضعة لإرادة الشعب ولا لأي نقد أو شفافية على أسس القانون
"

والمعلوم طبعاً أن مثل هذه المنظومة مخالفة لأبسط مبادئ النظام السياسي الحديث الذي لا يجيز أن يكون لأي صاحب منصب في الدولة -كائناً من كان- أن تجتمع في يده كل السلطات، أو أن تكون مرجعيتها إليه، وأن يكون مصوناً عن أي مسؤولية كانت.

ولعل هذا يجوز -فلنقل- إن كان صاحب مثل هذا المنصب لا ينطق عن الهوى، أو لا يُسأل عما يفعل. أما من لم يكن كذلك، فلا أساس -بأي حال- لأن يعطى مطلق السلطة، ثم يعطى مع ذلك حق الصون عن المساءلة. وفي ما يذكر من قول أبي بكر -وعمر بعده- للناس "قوّموني"، إشارة إلى هذا.

ولا يمكن تبرير مثل هذه النمط الشمولي المطلق من أنظمة الحكم في هذا الزمن بأن يقال هو ضروري، أو إن فيه فائدة للبلد، بل إن مثل هذا النمط ببساطة غير عقلاني، قد انتهت صلاحيته منذ أمدٍ بعيد، اللهم إلا في العالم العربي حيث هو الآن آيلٌ إلى الزوال.

وإن كان الدستور يعطي الملك حماية عن المساءلة القانونية، فإن قانون العقوبات يعطي الملك خصوصية تمنع بالفعل أي مساءلة شعبية أو إعلامية لأفعاله وقراراته. وفي هذا المنع حرمان للمواطنين من حقين من حقوقهم، فوق حرمانهم من حق حكمهم لأنفسهم.

أولاً هم محرومون من حرية التعبير التي تتيح لهم نقد ما يرونه مخالفاً لمصالحهم وإرادتهم دون لفّ ودوران تجنباً للمحرمات. وليست حرية نقد الحكومة حرية ذات معنى وقيمة، فالمعلوم أن الحكومة ليست هي النظام على حقيقته، بل واجهة تنفيذية تقف عازلاً بين الشعب وخطوطه الحمراء. ثم المواطنون محرومون ثانياً من حق معرفة ما يعنيهم ويخصهم من أمور البلد وحكمه، وذلك أن الإرادة الملكية لكونها مطلقة وفوق كل السلطات- غير خاضعة للرقابة ولا للشفافية.

ومع أني ها هنا لم أتكلم إلا عن سلطات الملك، فالمشكلة -كما ذكرت سابقاً- ليست في هذه السلطات بذاتها ومفهومها الضيق وحسب، بل في التركيبة السياسية والمنظومة الأوسع التي تلحق بهذه السلطة وتتعلق بها وتدور في فلكها، حتى صار معيار الوطنية خدمة النظام لا خدمة الوطن، وإرضاء النظام لا إرضاء المواطنين، وحتى صارت أبجديات المنظومة السياسية الاجتماعية في البلد مصالح ومنافع ووصولية ومحسوبية وفساد، وحتى بلغ الاستخفاف بالمواطنين مبلغاً بعيداً.

لا شك أن في مثل هذا الوضع تهميشاً للشعب الأردني وجوراً عليه وسلباً لإرادته، وهذه الإرادة لا شك في وجودها، لكنها مكبوتة، كما كانت في أهل تونس ومصر. فأي وطنية تكون في قلوب أبناء بلد يحرمهم حقوقهم ويستخف بهم؟ وأي انتماء يجدونه في أنفسهم إلى نظام سياسي يقصيهم ويستثنيهم كالقاصرين؟

لا شك -وقد قامت ثورة التحرر والوعي والديمقراطية العربية- أن الإصلاح الفوري واجب، وأنه لا مفر من أن يبدأ الإصلاح بأسس النظام السياسي وهيكله لا بمظاهره، وبأسبابه لا بأعراضه، وبمتنه الدستوري لا بحواشيه وهوامشه.

"
لا بد من إصلاح حقيقي جريء دائم في المنظومة السياسية الأردنية -بتركيبتها ومؤسساتها- يتيح لها الصيرورة إلى ما يليق بدولة حضارية متطورة، أو على الأقل ما يليق بدولة تطمح أن تكون كذلك
"

لا بد من إصلاح حقيقي جريء دائم في المنظومة السياسية الأردنية -بتركيبتها ومؤسساتها- يتيح لها الصيرورة إلى ما يليق بدولة حضارية متطورة، أو على الأقل ما يليق بدولة تطمح أن تكون حضارية متطورة، إن لم تكن كذلك.

لا جدال في ضرورة بقاء المؤسسة الملكية كجزء أساسي من هذه التركيبة السياسية، وأن يكون لها مكانتها ودورها في المجتمع على النحو الصحيح. ولنا أسوة بمؤسسات العرش في بريطانيا والنرويج والدانمارك وإسبانيا والسويد مثلاً.

لكن الوقت قد حان لإصلاح سياسي دستوري حقيقي دائم، يعيد السلطات والصلاحيات إلى الشعب، ويجعل المنظومة السياسية بمؤسساتها وقوانينها وثقافتها تدور حول الشعب وتحتكم إليه وتخدمه، ولا تبتغي إلا رضاه ومصالحه.

لا بد من حكومة منتخبة يختارها الشعب ولا يقيّم أداءها إلا الشعب، وقضاء مستقل كل الاستقلال عن نظام الحكم، ولا بد من إصلاح المؤسسة النيابية، ورفع القيود عن حرية التعبير، ولا بد من الشفافية التامة حتى تجري على كل الأفراد وكل مرافق الدولة.

وينبغي أن يسير البلد إلى حال سياسي اجتماعي أكثر تحضراً وعصرية وتنوراً، فالشعب الأردني ليس متخلفاً يُخاف منه على نفسه، ولا يقل طموحاً ولا وعياً عن غيره من الشعوب، ولا أحقيةً في تقرير كيفية حُكمه وولاية أمره منها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.