حول الربيع الديمقراطي العربي.. الدروس المستفادة

الكاتب: خير الدين حسيب

 


-1-
حدثت في الأشهر الثلاثة الأخيرة موجة ثورات وانتفاضات واضطرابات في عدد كبير من الأقطار العربية، تهدف إلى تحقيق الديمقراطية بمفاهيمها الرئيسية، ابتدأت بثورة سلمية غير عنيفة في تونس، ثم امتدت إلى مصر، ونتيجة لذلك سقط النظامان فيهما، وهما تخطوان خطوات هامة من أجل استكمال مقومات الثورة وإقامة نظام جديد فيهما، رغم بعض المخاوف التي لا تزال موجودة، ولكنها متناقصة، وكان ذلك ربيعها.
 
ثم انتقلت هذه الانتفاضة السلمية إلى اليمن، حيث بدأت بمطلب تحقيق إصلاح جذري لم يستبعد "المفاوضات" مع النظام وسيلة لتحقيق هذا الهدف، ثم تطورت بعد استخدام السلطة للعنف في مواجهتها إلى مطلب إسقاط النظام القائم، وتقدم النظام يوم 23، وبعد فوات الأوان، بعرض يوافق فيه على ما عُرِضَ عليه سابقا ورفضه في حينه، كما أعلن حالة الطوارئ، وهي توشك أن تتحوّل إلى ثورة. وحدثت "مظاهرات" في سلطنة عُمان، استطاع النظام، بحكمة، تطويقها والاستجابة لمطالب رئيسية لها، واحتواءها حتى الآن.
 
كما حدثت "انتفاضة" سلمية في البحرين، قامت بها أساسا فئات مهضومة الحقوق تمثّل غالبية الشعب البحريني، وتبنى الفصيل الأكبر فيها (جمعية الوفاق)، طلب إدخال تعديلات جذرية في النظام وتحويله إلى ملكية دستورية، وقوبلت بعرض النظام للحوار مع إجراءات قمعية دفعت فئات أخرى من المعارضة إلى رفع شعار إسقاط النظام، لتتطور الأحداث بعد ذلك إلى طلب النظام الدعم العسكري من السعودية والإمارات، وهو ما تمّ، حيث أعلنت حالة الطوارئ والأحكام العرفية، وتم استعمال العنف المُفرط من قبل النظام، من خلال جيش هجين في غالبيته، مع تأييد بدون تحفّظ من أنظمة مجلس التعاون الخليجي للنظام في البحرين.
 
وكانت هناك إرهاصات لمظاهرات واعتصامات محدودة في السعودية والكويت، تم تطويقها حتى الآن من خلال منح عدة إجراءات ذات طابع مادي، ولكنه جرح يلتئم مؤقتا. 
 
كما انتقلت هذه الظاهرة إلى الأردن، ولكنها ما زالت بشكل محدود حتى الآن، وتباينت مطالب المتظاهرين بين طلب "ملكية دستورية" وطلب "إسقاط النظام"، ولكن النظام يحاول تطويقها بجرعات تسكينية، وتشكيل لجنة حوار لمعالجة المطالب المشروعة لها.
 
وتشهد سوريا مظاهرات في مدن سورية مختلفة، معظمها ذو مطالب ديمقراطية، والقليل منها ذو مطالب اجتماعية واقتصادية محلية.
 
وامتدت هذه المظاهرات إلى العراق بمعظم مكوناته، حيث لا تزال معظم المطالب خدماتية، وبعضها الآخر سياسيا، كما شملت مناطق عربية وكردية.
 
وفي بلدان المغرب العربي، وتحديدا في المغرب، استبق ملك المغرب المظاهرات بتشكيل لجنة لإعادة النظر في الدستور لزيادة صلاحيات رئيس الحكومة ومجلس الوزراء وأمور أخرى بهدف تخفيف طبيعة "الملكية المطلقة" حاليا إلى "ملكية دستورية"، غير أن المظاهرات ما لبثت أن اندلعت يوم 21/3/2011 في أكثر من 60 مدينة مغربية للمطالبة بإصلاحات سياسية ودستورية واقتصادية، شارك فيها عشرات الآلاف من المغاربة وتهدف إلى تحقيق "ملكية دستورية" بصيغ مختلفة في التعبير عنها.
 
أما في الجزائر فقد حصلت بعض المظاهرات التي قمعت بالقوة، ولكن الوضع فيها يختلف إلى حد كبير عما حدث في الأقطار العربية الأخرى التي تمت الإشارة إلى أحداثها، حيث إنه، كما يقال، "إذا كانت لكل دولة جيش، فإن لجيش الجزائر دولة".
 
ويمثل ذلك امتدادا لجيش التحرير الجزائري الذي أوصل الجزائر إلى التحرير والاستقلال، وهو منذ الاستقلال يمارس السلطة بشكل مباشر أحيانا، من خلال بعض قادته (بن بلا – بومدين … إلخ)، وبصورة غير مباشرة، ومن خلف الستار في أحيان أخرى.
 
وتحاول القيادة الحالية للجزائر استباق الأحداث، وما يمكّنها من ذلك إمكانياتها المالية الكبيرة من عوائد النفط والغاز، وذلك باتخاذ إجراءات سياسية واقتصادية لاحتواء المطالب المحتملة، وذلك بإلغاء حالة الطوارئ، مع إجراءات اقتصادية واجتماعية أخرى. أما موريتانيا فإن "تسونامي" لم يصلها بعد بشكل مؤثر.
 
وأما لبنان، فهو موضوع آخر يتعذر فيه القيام بعمل شعبي يتجاوز الخطوط الطائفية والمذهبية والمصالح المادية لبعض الطبقة الحاكمة.
 
ويشهد لبنان حاليا محاولات أولية محدودة، ولكنها متسعة، لمظاهرات أسبوعية (يوم الأحد من كل أسبوع، وهي يوم العطلة الرسمية في لبنان) شبابية تدعو إلى إلغاء الطائفية والمذهبية، وإلى إصدار قانون انتخاب ديمقراطي، وقانون موحد للأحوال الشخصية، وهي تتسع عدديا، ويتوقف مستقبلها على طول نَفَسِها إلى حد كبير، غير أنه لا يتوقع أن يصل التسونامي الديمقراطي الهائج عربيا إلى لبنان بسبب تركيبته الاجتماعية والسياسية.
 
-2-

"
من المهم التأكيد على الطابع السلمي وغير العنفي لكل هذه الثورات والانتفاضات، حتى في حالات الدفاع عن النفس، فيما عدا حالات المعارضة الليبية التي اضطرت إلى استعمال العنف أحيانا دفاعا عن النفس
"
أما حول الدروس المستفادة، فيمكن ملاحظة ما يلي:

 
1- هناك تعميم خاطئ ومبالغ فيه، في إطلاق تعبير "الثورة" على جميع الأحداث التي أشير إليها آنفا. وكثيرا ما يستخدم مصطلح "الثورة" بدون التأكد من الدلالة الصحيحة لهذا التعبير، إذ غالبا يستعمل هذا التعبير لوصف انقلاب عسكري أو انتفاضة أو هبّة شعبيّة مؤقتة، تقود إلى تغيير تجميلي ومحدود في نظام الحكم السائد، بينما المعنى الدقيق للثورة يصف "مجمل الأفعال والأحداث التي تقود إلى تغييرات جذرية في الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي لشعب أو مجموعة بشرية ما، وبشكل شامل وعميق، وعلى المدى الطويل، ينتج منه تغيير في بنية التفكير الاجتماعي للشعب الثائر، وفي إعادة توزيع الثروات والسلطات السياسية".
 
ويصر العديد من علماء الاجتماع على تعريف "الثورة" بأنها عبارة عن "تغيير شامل وجذري في توزيع مصادر الثروة وعمليات الإنتاج في المجتمع"1.
 
وإذا كان هذا التعريف ينطبق إلى حد كبير على ثورتيْ مصر وتونس، وقد ينطبق قريبا على انتفاضة اليمن، إذا ما استطاعت اقتلاع نظام الرئيس علي عبد الله صالح، الذي يبدو حاليا أنه أصبح مسألة أيام، كما ينطبق على الوضع في ليبيا، إذا ما استطاعت المعارضة هناك اقتلاع ما تبقى من نظام القذافي، وهي مهمة يبدو أنها قد تطول نسبيا مقارنة بما تم في مصر وتونس.
 
وحتى يتم ذلك، من الصعب أن يوصف ما يحدث حاليا في اليمن وليبيا بالثورة، بل هي أقرب إلى وصف "الانتفاضة" حتى الآن، التي يمكن أن تتحول إلى ثورة إذا ما استطاعت اقتلاع النظامين ونتج منها تغييرات جذرية في طبيعة النظامين. وأما ما يحدث في الأقطار العربية الأخرى فهي لا تتعدى حتى الآن إرهاصات انتفاضات محدودة الاتّساع الأفقي دون استبعاد إمكانية تحولها إلى انتفاضات شاملة، وربما إلى ثورات حقيقية.
 
ومن المهم التأكيد على الطابع السلمي وغير العنفي لكل هذه الثورات والانتفاضات، حتى في حالات الدفاع عن النفس، ما عدا حالات المعارضة الليبية التي اضطرت إلى استعمال العنف أحيانا دفاعا عن النفس.
 
ويمثل ذلك تطورا نوعيا هاما في الوسائل التي تلجأ إليها المعارضات العربية، والتي ما كان يمكن أن تحقق ما تحقق حتى الآن لو أنها سلكت أو جرت إلى سلوك العنف لتحقيق مطالبها.
 
2- ثبت بالتجربة العملية، وفي تجربتيْ تونس ومصر، وخلافا للقناعات السابقة عكس ذلك لدى الكثيرين، وهو أن التغيير الجذري من الداخل ممكن وبدون حاجة إلى الخارج، كما حاول البعض تبرير الاستعانة بالخارج للتغيير في العراق مثلا.
 
3- تبين أيضا أن إسقاط نظام أسهل كثيرا ونسبيا من بناء نظام جديد، كما تشير إلى ذلك تجربتا مصر وتونس. فالاتفاق بين القوى المعارضة، أفرادا وجماعات، على إسقاط نظام مستبد أسهل كثيرا من الاتفاق على طبيعة النظام الجديد وخريطة الطريق للوصول إليه، بل إن إقامة نظام جديد معرض لمخاطر ومخاوف الاختلافات بين أطراف الثورة وإعطاء الفرصة لقوى الثورة المضادة للنشاط وعرقلة إقامة النظام البديل.
 
وقد استطاعت ثورتا مصر وتونس تخطي بعض هذه العقبات حتى الآن، ونجحتا في فرض جدول زمني لإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية وتشريع دستور جديد في كل منهما، ولكن لا تزال أمامهما عقبات ومخاطر تحتاج إلى تخطيها.
 

"
إن من أهم ما حدث عربيا حتى الآن هو الثورة في مصر، بسبب ثقلها ودورها الإقليمي العربي الذي غاب لفترة طويلة، وكان غياب هذا الدور هو أحد أسباب تدهور النظام الإقليمي العربي
"

4- وتوضيحا واستكمالا لما ورد في الفقرة السابقة، فان تحقيق الأهداف الاجتماعية والاقتصادية للثورات التي تحققت حتى الآن وما يتوقع استكماله في اليمن وليبيا، من تحقيق العدالة الاجتماعية وتحقيق تنمية حقيقية تعالج مشاكل البطالة فيها لا يمكن تحقيقها جميعا من خلال إقامة نظام ديمقراطي فقط، فـ"الديمقراطية شرط ضرورة وليست شرط كفاية" وهي ضرورية لتحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية لكل ثورة، ولكنها لا تكفي وحدها.

 
ولا يمكن تحقيق هذه الأهداف للثورة دون تنمية اقتصادية واجتماعية مستدامة مع عدالة اجتماعية أي "زيادة الإنتاج وعدالة التوزيع"، وهي مسألة أكثر تعقيدا وصعوبة من إسقاط نظام مستبد وفاسد.
 
ناهيك عن أن الثورة في مصر وتونس قد حرمت القطرين مؤقتا من إيرادات السياحة وانخفاض الإنتاج والخدمات في بعض القطاعات، وهروب بعض الأموال إلى الخارج وغيرها من الآثار السلبية، وهذا يتطلب توعية الشعوب بعدم المبالغة في توقعاتها الاقتصادية والاجتماعية حتى لا تصاب بإحباط كبير.
 
5- يجب أن يسجل لتونس براءة الاختراع في المبادرة إلى الثورة، وذلك من خلال كسر حاجز الخوف الذي كان عقبة رئيسية في تفجير الغضب الشعبي تجاه الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتردّية التي كانت بحاجة إلى إطلاق شعلة تفجيرها، وهو ما قامت به ثورة تونس، ثم انتقل إلى مصر وغيرها.
 
ورغم الأهمية المحدودة لتونس في النظام الإقليمي العربي، كان دورها في كسر حاجز الخوف له أهمية كبيرة يجب عدم التقليل منها أو الاستهانة بها، وهي تتجاوز أهميتها الإقليمية.
 
6- إن من أهم ما حدث عربيا حتى الآن هو الثورة في مصر، بسبب ثقلها ودورها الإقليمي العربي الذي غاب لفترة طويلة، وكان غياب هذا الدور هو أحد أسباب تدهور النظام الإقليمي العربي.
 
وإذا كان من المفهوم والمقبول مؤقتا ألا تطرح الثورة في مصر بعدها العربي، حتى لا تثير خصوما في مرحلة هي أشد ما تكون حاجة إلى تقليل و/أو تجميد الخصوم.
 
ولذلك غاب أي نقد جدي عربي لعدم إعلان الثورة في مصر عن البعد العربي لها، والإعلان عن تمسكها بالاتفاقات الدولية (التي تشمل ضمنا اتفاقية كامب ديفيد)، غير أنها بحاجة الآن إلى توجيه رسائل تطمينية للعرب حول رؤيتها العربية بدون أن تفتح على نفسها مشاكل دولية جديدة. 
 
ومن بين هذه الرسائل المطلوبة فتح معبر رفح بين مصر وغزة، ليس بشكل مؤقت وللأشخاص فقط كما حصل حتى الآن، بل أن يكون الفتح دائما وللأشخاص وللسلع معا.
 
كما أن الرسالة الثانية المطلوبة هي إيقاف ضخ الغاز المصري إلى إسرائيل أيا كان المخرج الذي ستتبناه لذلك، حيث نشرت تقارير متضاربة حول الموضوع، علما بأن الاتفاق بين مصر والشركة الإسرائيلية لا يقع ضمن الاتفاقات الدولية.
 
كما أن من الرسائل المطلوبة تصفية المشروع المشترك للإنتاج الصناعي بين مصر وإسرائيل وعلى الأراضي المصرية والذي يطلق عليه "الكويز"، لأن الكويز يشكل نوعا من التطبيع وهو غير ملزم لمصر في اتفاقية كامب ديفيد.
 
7- يشير ما حدث من ثورات وانتفاضات وإرهاصات، وبشائر وبوادر نهضة عربية شاملة، إلى وحدة وتفاعل كبير في الوعي العربي، وإلا فلماذا لم ينتقل ما حدث عربيا إلى بعض البلدان الأفريقية جنوب الصحراء، التي يعاني بعضها مثلما يعاني الكثير من الأقطار العربية الاستبداد والفقر والفساد؟
 
8- من التعسف بمكان إطلاق تعبير "ثورة الشباب" على ثورتي تونس ومصر والانتفاضات والإرهاصات التي حدثت حتى الآن، فإذا كان الفضل يعود إلى الشباب في إطلاق الشرارة، فإن جميع أو معظم فئات الشعب التي كانت تعاني جور تلك الأنظمة في مصر وتونس واليمن ساهمت في تلك الثورات والانتفاضات. ولذلك من الموضوعي إطلاق تعبير "ثورة الشعب" في مصر وتونس و"انتفاضة الشعب" حتى الآن في اليمن وليبيا.
 

"
في حين لعبت الجزيرة دورا هاما بالنسبة إلى ثورتي تونس ومصر وانتفاضة المعارضة في ليبيا واليمن، إلا أنها مارست قدرا كبيرا من التعتيم على ما حدث ويحدث في أقطار مجلس التعاون الخليجي مما يؤثر في مصداقيتها عربيا وخارجيا
"

9- تبين من تجربة ما حدث حتى الآن أن الانتفاضات نجحت وتحولت إلى تحقيق ثورات، حيثما استطاعت تحييد الجيش من أن يقف ضدها وقمعها بعد عجز الأنظمة الأمنية الأخرى عن ذلك.

 
فقد نجحت ثورة تونس لأن الجيش التونسي صغير الحجم وغير مسيّس وضعيف التسلح. كما نجحت ثورة مصر لأنها استطاعت تحييد الجيش أولا عن قمعها ثم تقبل أهدافها عندما اتسع حجمها ونطاقها وبان أفق نجاحها.
 
ولكن التجربة اختلفت في اليمن والبحرين، حيث بدا أولا أن الجيش يقف وراء النظام، ثم ما لبث في الأيام الأخيرة أن انقسم وانتقل معظمه إلى تأييد الانتفاضة ما عدا الحرس الجمهوري، العائلي القيادة، الذي لا يزال يدعم الرئيس اليمني الحالي.
 
كما وقف الجيش البحريني، الذي يضم العديد من المرتزقة ومن غير البحرينيين، إلى جانب النظام ومارس القمع ضد الانتفاضة.
 
وتشير وسائل تحقيق هذه الثورات والانتفاضات إلى استبعاد اللجوء إلى الجيش ابتداء كوسيلة لإحداث التغيير، لأن التجارب العربية أثبتت تحول ذلك التغيير إلى "حكم عسكري"، لا يشير سجل إنجازته ما عدا ثورة يوليو/تموز، إلى ما يغري باللجوء إليه في التغيير.
 
10- تبين الأحداث خطأ تبني نفس شعارات ثورتي مصر وتونس حول إسقاط النظام في كل حالات التغيير. فحيثما كانت هناك أنظمة ملكية (أو ما يشابهها) فإن رفع شعار إسقاط النظام يعني إسقاط الملك والملكية، الذي يدفع هؤلاء الملوك إلى الاستعانة بكل ما لديهم داخليا وخارجيا بما فيه القواعد العسكرية الأجنبية، لإحباط تلك الانتفاضات. والأصح نظريا وعمليا هو المطالبة بـ"ملكية دستورية" وهو يمكن أن يحظى بتعاطف شعبي عربي وخارجي، وتحقيقه أسهل.
 
11- يمكن الاستنتاج، بقدر من الاطمئنان، أن دور التيارات الإسلامية في هذه الأحداث، عدا البحرين، لم يكن أساسيا، بدون التقليل من مشاركتهم حيثما وجدوا. لذلك لم يعد من الممكن أن تتذرع تلك الأنظمة والقوى الدولية الداعمة لها من مخاوف سيطرة الإسلاميين على هذه الأنظمة. كما أضعفت هذه الثورات والانتفاضات والإرهاصات تنظيم "القاعدة".
 
12- هناك مبالغة في دور وسائل التواصل الاجتماعي في تحقيق هذه الثورات والانتفاضات. صحيح أن هذه الوسائل (من إنترنت Facebook وTwitter وغيرها) ساعدت ابتداء في إشعال فتيل هذه الأحداث، إلا أن تلك الثورات والانتفاضات ما كانت لتضم كل هذه الفئات الاجتماعية لولا تراكم الوعي بضرورة الإصلاحات الجذرية والتي ساهمت فيها جهات مختلفة فكرية وسياسية على مدى الأربعين سنة الماضية، إضافة إلى حدوث ثورات في التاريخ المعاصر في إيران وإندونيسيا بدون توفر مثل وسائل التواصل الاجتماعي هذه.
 
13- تباين موقف الإعلام العربي، والفضائيات خاصة، تجاه هذه الثورات والانتفاضات والإرهاصات، ففي حين لعبت فضائية الجزيرة دورا هاما في ثورتي تونس ومصر وانتفاضة المعارضة في ليبيا واليمن، فإنها مارست قدرا كبيرا من التعتيم على ما حدث ويحدث في أقطار مجلس التعاون الخليجي، خاصة عُمان والبحرين والسعودية، مما يؤثر في مصداقيتها عربيا وخارجيا.
 
وينطبق ذلك على الفضائيات العربية وعلى إعلامها عموما، وبخاصة الإعلام الخليجي وإعلام المغرب والجزائر وغيرها، حيث كان السكوت و/أو الانحياز مكشوفا، وقد حدا ذلك بالمشاهد والقارئ العربي إلى اللجوء إلى إذاعة وفضائية الـBBC العربية والتي كانت أكثر موضوعية نسبيا في شمول تغطيتها، من الإعلام العربي عموما، وهو أمر مؤسف.
 
14- هناك مخاوف من ألا يتحقق الإجماع بين القوى الاجتماعية والسياسية المختلفة التي ساهمت في إسقاط النظام في مصر وتونس وتوشك أن تسقطه في اليمن، أي أن لا تتفق على مواصفات النظام الجديد التي تحاول إقامته، والذي قد يفسح المجال للثورة المضادة في استغلال هذه الاختلافات والفرقة لتعطيل تحقيق الأهداف العامة للثورة في النظام الجديد.
 
وهذا يتطلب قيام "كتلة تاريخية" أو "جبهة" أو "تجمع" تتفق من خلاله فيما بينها حول برنامج مرحلي لمدة 2-3 سنوات، وتلتزم به وتدخل انتخابات اختيار المجالس النيابية وتشريع دساتير جديدة وإقامة النظام الجديد عموما على أساسه.
 
وإضافة إلى خطر إفساح المجال لنشاط الثورة المضادة إذا لم يتحقق ذلك، فإن هناك أيضا الخطر من أن تتمخض الانتخابات البرلمانية الجديدة عن عدم تحقيق أغلبية منسجمة ومتفقة على برنامج مرحلي، وأن تتمخض هذه الانتخابات عن قيام كتل برلمانية صغيرة تجعل من الصعب على هذه البرلمانات المنتخبة تبني ما هو متوقع منها من تغييرات جذرية، وهي إحدى السلبيات الممكنة والمحتملة أحيانا في الانتخابات الديمقراطية البرلمانية.
 
15- تباينت، وتناقضت أحيانا، مواقف الأنظمة العربية والإقليمية من هذه الثورات والانتفاضات والإرهاصات، تبعا لطبيعة تركيبتها السياسية ومصالحها، وعبرت عن ازدواجية في المعايير تجلب الانتباه.
 
ففي حين سكتت الأنظمة الخليجية عما حدث في تونس ومصر واليمن والأردن وسوريا، أيدت حماس الانتفاضة الليبية، كما وقفت بجانب الأنظمة في عُمان والبحرين، وبخاصة تأييد النظام في البحرين ضد انتفاضة قطاع كبير من البحرينيين والتدخل العسكري من قبل السعودية والإمارات لدعم النظام في البحرين. كما تقف، عدا قطر، موقفا سلبيا من انتفاضة اليمن وتحرص على بقاء النظام الحالي.
 
كما اختلفت المواقف الإقليمية في كل من تركيا وإيران مما يحدث عربيا، ففي حين أيدت إيران كل ما حدث مع محاولة فاشلة لإطلاق تعبير "ثورة الشرق الأوسط الإسلامية" عليها، فإن موقف تركيا كان يغلب عليه التردد والحياد وبتأثير واضح من مصالحها الاقتصادية في المنطقة.
 
16- أما إسرائيل، فقد كان أن أصابها الذعر من التغييرات التي حصلت في مصر وتونس، وكان موقفها سلبيا منها. أما بالنسبة الموقف الدولي، وبشكل خاص موقف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والصين، فيجب إزالة الأوهام حول حقيقة موقف الولايات المتحدة بشكل خاص والاتحاد الأوروبي إلى حد ما من حقيقة موقفها من الأنظمة العربية ومدى رغبتها في تحولها إلى أنظمة ديمقراطية.
 
فبغض النظر عن بعض الشعارات التي ترفعها أحيانا، فإن جوهر موقفها الحقيقي هو الحفاظ على الأنظمة العربية المستبدة والفاسدة وغير الديمقراطية، لأنها هي التي تحقق مصالحها والتي تتناقض مع مصالح شعوب هذه الأقطار العربية.
 
فتحول هذه الأنظمة إلى أنظمة ديمقراطية تشارك شعوبها في اتخاذ القرارات الرئيسية فيها لن يسمح ببقاء أمنها القومي تحت رحمة الولايات المتحدة ومن معها وما يترتب عليه من شراء أسلحة مفروضة عليها بمليارات الدولارات وبدون تحديد العدو الحقيقي، وبقاء القواعد العسكرية الأمريكية البرية والبحرية التي فيها حاليا، والتي تتحمل بعض تلك الأنظمة الخليجية تكاليفها.
 
كما لن تسمح هذه الشعوب باستمرار حكامها الاستيلاء على عوائد النفط والغاز التي فيها وأن تخصص هي ما تشاء منها لميزانية شعوبها. ولن تبقي على استثمارات فوائضها الخاصة والعامة على ما هي عليه، بغضّ النظر عن مصالحها الحقيقية.
 
ولن تسمح بتغريب شعوب هذه الأقطار وتشويه هويتها العربية بفرض التعليم عليها بمراحله المختلفة باللغة الإنكليزية، إضافة إلى دور العمالة الأجنبية غير العربية في تشويه تلك الهوية.
 
كما ستطالب تلك الشعوب بأسعار "عادلة" لثروتها الناضبة من النفط والغاز، تتناسب مع الزيادات الحاصلة في أسعار السلع المختلفة في الغرب، ولن تسمح لأنظمتها باستمرار بيع النفط للغرب بالأسعار الحالية، التي لا تزال حتى بعد ارتفاعها تمثل تقريبا أسعار السبعينيات، بعد الأخذ بنظر الاعتبار التضخم الذي حصل في هذه الفترة.
 
أما روسيا والصين فتنطلقان أساسا من مصالحهما الاقتصادية في الوطن العربي، مع مراعاة التزاماتهما ومصالحهما مع الولايات المتحدة وأوروبا.
 
17- وعموما بانت ازدواجية المعايير بشكل واضح لدى كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من التغييرات الديمقراطية الحاصلة والتي يمكن أن تحدث عربيا.
 
فقد ظلت ساكتة ثم محايدة حتى بدا واضحا لها سقوط النظامين في مصر وتونس ليتحول موقفها تدريجيا إلى تأييد فاتر للثورة في كل منهما.
 
وفي حين أنها أيدت بحذر الانتفاضة الليبية ثم تبنّت تحت شعار أهداف إنسانية، وبغطاء من الجامعة العربية وبمبادرة خليجية، فرض حظر جوي في ليبيا لمنع قوات القذافي من الاعتداء على المدنيين، إلا أنها ظلت ساكتة عن اعتداءات النظام اليمني على المتظاهرين وسقوط ضحايا كثيرة منهم، كما أيّدت الأنظمة في عُمان والبحرين والسعودية في مواقفها من الانتفاضات فيها، مع الإشارة باستحياء إلى عدم استعمال العنف مع المتظاهرين.
 
أما روسيا والصين، فقد تجنبتا أخذ مواقف واضحة، انطلاقا من حرصهما على مصالحهما الاقتصادية، كما امتنعتا عن التصويت في مجلس الأمن عند التصويت على مشروع فرض حظر جوي على ليبيا، رغم أن اعتراض أي منهما (حق الفيتو) كان سيحول دون تمرير المشروع في مجلس الأمن.
 
-3-
أما عن المستقبل، فإن احتمال تطور الأحداث في الأقطار العربية ذات العلاقة وحاجاتها فيمكن إجمالها فيما يلي:
 
1- إن نجاح الثورة الديمقراطية في مصر وتونس، واليمن فيما بعد، يحتاج إلى دعم خارجي اقتصادي ومالي، من أجل تحقيق مهامها ووعودها الاقتصادية والاجتماعية لشعوبها، التي لا تمكنها مواردها الداخلية من تنميتها بالسرعة وبالقدر المطلوب.
 
ومن أجل عدم تركها لرحمة وشروط المساعدات الأميركية والأوروبية التي قد تأتي وقد لا تأتي، مع كل الضغوط السياسية والاقتصادية التي من المحتمل أن ترافقها، فإن هناك حاجة ملحة لإقامة صندوق دعم مالي عربي تتم إقامته سريعا من خلال مؤتمر قمة عربي اقتصادي تساهم الأنظمة العربية النفطية ذات الفوائض المالية (السعودية، الكويت، قطر، الإمارات والجزائر) في إقامته، لإبداء حسن نيتها وللتكفير عن مواقفها السلبية، لمعظمها، من تلك الثورات.
 
2- من المتوقع أن يستكمل الربيع الديمقراطي في مصر وتونس مسيرته بنجاح، وأن تستكمل الانتفاضة في اليمن ثورتها، وأن يسقط نظام الرئيس علي عبد الله صالح قريبا.
 
3- أما في ليبيا، فمن المتوقع للأسف أن يستمر حمام الدم الحالي لبعض الوقت، وأن يستمر العقيد القذافي في تدمير الحرث والنسل، ولكن النظام سيسقط وينتهي بعد كلفة إنسانية ومادية عالية. وعلى المعارضة، رغم تفهم ظروفها وحاجتها اضطرارا إلى المساعدة الخارجية في فرض الحظر الجوي على نظام العقيد القذافي، إلا أنها يجب أن تبتعد عن طلب دعم الغرب على الأرض في استكمال ثورتها، مهما ترتب على ذلك الرفض من طول الوقت وكثرة التضحيات، لأن الاستعانة بالغرب على الأرض يمثّل "قبلة الموت" لها.
 
4- أما في البحرين فلعل الحكمة تسود أخيرا، وينتقل النظام فيها إلى الحوار مع المعارضة جميعا لتحقيق إصلاحات دستورية جوهرية متدرجة ومستمرة تؤدي بالنتيجة إلى تحقيق "ملكية دستورية".
 
5- وأما في المغرب فمن المتوقع أن تسبق حكمة ملكها وما سينجزه من تغييرات تقترب حثيثا من ملكية دستورية سيغني الشعب المغربي عن الحاجة إلى الثورة.
 
6 – أما في الجزائر فإن رفع حالة الطوارئ فيها يشير إلى إدراك النظام لخطورة الوضع، ولكن ذلك سيعتمد على مدى قدرة يد الرئيس الجزائري المغلولة أن يستبق الأمور ويحقق الحد الأدنى من الخطوات الديمقراطية الحقيقية في الجزائر.
 
7- وأما في الأردن فالأمل أن يتصرف النظام بعقلانية تمكنه من تحقيق إصلاحات حقيقية على درب الملكية الدستورية، ولعل تشكيل لجنة من القيادات الوطنية في الأردن لاقتراح تللك التعديلات تمثل خطوة في هذا الاتجاه.
 
8- أما في سوريا التي يختلف وضعها إلى حد كبير عن الأنظمة العربية الأخرى، بسبب الموقف الأميركي منها وسياستها الفلسطينية، فإنها مضطرة إلى إدخال إصلاحات سياسية واقتصادية جدية ومكافحة الفساد فيها، والأمل أنها ستستوعب الدرس قبل فوات الأوان.
 
9- أما في السعودية فمن المشكوك فيه أن تمكنها طبيعة نظامها وعقلية حكامها من تحقيق قدر من الإصلاحات يمكن أن يعفيها من مغبة ما يحدث عربيا.
 
-4-
والخلاصة، يمكن القول، أيا كان قدر وصعوبة استكمال نجاح ما تم حتى الآن، فإن ما تحقق حتى الآن هو كثير، ومن الصعب العودة إلى الوراء، وأن النهضة العربية الجديدة تدق أبواب الأنظمة العربية جميعا، والخيار هو بين مبادرة الأنظمة نفسها إلى انتقال تدريجي سلمي ومنظم إلى الديمقراطية؛ وتغيير ثوري، نأمل أن يكون من دون عنف، تفرضه الشعوب التي لا تزال تحت نير الاستبداد.
 
وهكذا فإن بعض الأنظمة العربية المستبدة والفاسدة قد قضى نحبه، وفيها من ينتظر! وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. وقد دلت ثورتا مصر وتونس أن: الليالي حبالى تلدن كل عجيب!
 
 
(*) انتهيت من كتابة هذه المقالة صباح يوم 24/3/2011، وبذلك لم تلحظ التطورات التي قد تحصل بعد هذه الفترة.
 
(**) تمثّل الآراء الواردة في هذه الافتتاحية وجهة نظر الكاتب الشخصية، ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر مركز دراسات الوحدة العربية.
 
1- نصير عاروري، "استشراف لمآلات الثورات العربية،" الجزيرة.نت (الدوحة)، 18/3/2011
 
2- لا يبدو من المقابلات التي أجريتها في مصر أن شباب الثورة في تونس ومصر كانوا مطلعين على أدبيات جين شارب (Gene Sharp) حول "المقاومة السلمية غير العنيفة"، انظر: Gene Sharp, The Politics of Nonviolent Action, with the editorial assistance of Marina Finkelstein, Extending Horizons Books, 3 vols. (Boston, MA: Porter Sargent Publishers, 1984-2005).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.