الحركات الاحتجاجية في الجزائر (1-2)
الخلفية الاقتصادية
الغلق السياسي والإقصاء
تدهور الأوضاع الاجتماعية
تعيش المنطقة العربية في الآونة الأخيرة هبة شعبية استثنائية بكل المقاييس، حالة يميزها تصاعد الاحتجاجات الشعبية الناجمة عن درجة عالية من التذمر والغضب والإحباط.
وتعبر هذه الانتفاضات الشعبية والحركات الاحتجاجية التي تشهدها المجتمعات العربية عن حالة الاحتقان والانسداد وتردي الأوضاع الاقتصادية، وسوء الأحوال الاجتماعية، وبلوغ الإقصاء والتهميش السياسي مستويات غير مسبوقة، تجسده درجة التسلط والاستبداد التي تمارسها الأنظمة على الشعوب.
تعد هذه الاحتجاجات بمثابة مجس حرارة للجسم الاجتماعي بحيث يؤشر تزايدها، وتوسع نطاقها وكبر حجمها، وتنامي وتيرتها إلى معاناة الجسم الاجتماعي الذي دخل منطقة الخطر. كما أن تجاهلها وعدم الاهتمام بمسبباتها، أو القراءة غير الصحيحة لأعراضها، وبالتالي التعامل معها بشكل غير سليم يؤدي إلى اضطرابات عنيفة تصل حد السقوط في دوامة العنف والفوضى التي تهدد المجتمع في كيانه والدولة في مؤسساتها واستقرارها.
إن الحركات الاحتجاجية تنفجر في المجتمع مثلما تنفجر البراكين، أو تحدث الزلازل في الطبيعة، كلاهما يحدث بسبب الضغط الشديد وفي ظل غياب قنوات الاتصال أو انسداد الموجود منها، وهو ما يضعف قدرة الجسم الاجتماعي على الأداء السليم الذي يحفظ توازنه.
ورغم تعرض معظم البلاد العربية في الآونة الأخيرة لحركات احتجاجية كبيرة تعبر عن رفض الأمر الواقع الذي فرضته عليها الأنظمة الاستبدادية، وتدعو إلى التغيير الجذري لتلك الأوضاع، فإن طبيعة تلك الحركات وأسبابها ونتائجها تختلف من حالة إلى أخرى رغم ما بينها من تماثل وتشابه.
تحاول هذه الورقة تقديم قراءة تاريخية للحركات الاحتجاجية في الجزائر، بوضعها أولا في سياقها الزماني والمكاني، وثانيا باستيضاح دلالتها مقارنة بما حدث في تونس ويحدث الآن في مصر.
" الاقتصاد الجزائري لم يحقق قفزة نوعية حقيقية منذ نهاية السبعينيات عندما عرفت الجزائر في حكم بومدين حالة من النمو الاقتصادي والتطور الصناعي المرتبط ببرنامج طموح للتنمية الوطنية قادها نظام بومدين " |
يتميز الوضع الاقتصادي في الجزائر بحالة من الوهن والضعف رغم الزيادة المطردة في المداخيل المرتبطة بتصدير البترول والغاز. فالاقتصاد الجزائري لم يحقق قفزة نوعية حقيقية منذ نهاية السبعينيات عندما عرفت الجزائر في حكم بومدين حالة من النمو الاقتصادي والتطور الصناعي المرتبط ببرنامج طموح للتنمية الوطنية قادها نظام بومدين في ظل حالة من الانتعاش الاقتصادي، والاستقرار الاجتماعي النسبي، والطموح السياسي الكبير.
لكن منذ منتصف الثمانينيات ساءت الأوضاع الاقتصادية وتدهورت أكثر مع التراجع القوي في أسعار النفط التي تهاوت منتصف الثمانينيات لتبلغ تسعة دولارات للبرميل، مؤدية إلى حدوث أزمة حادة في قدرة الدولة على التكفل بالمطالب الاجتماعية الرئيسية والملحة مثل توفير المواد الغذائية الأساسية التي غابت عن الأسواق وارتفعت أسعارها بشكل جنوني، وقد ظهر كل ذلك جليا في ارتفاع معدلات التضخم بشكل غير مسبوق.
لقد كانت تلك الأزمة مؤشرا واضحا على الحدود الطبيعية للاختيارات الجديدة الني انتهجها النظام بعد وفاة بومدين والتحول نحو نمط ليبرالي أضعف تدريجيا سيطرة الدولة على دواليب الاقتصاد لصالح عصب متنفذة. كان التحول جزئيا ومشوها في آن، إذ يعكس تعدد مراكز القوة في أجهزة السلطة والحكم، كما يعبر عن تعدد جماعات المصالح والضغط التي نشأت في زمن حكم بومدين وبلغت أشدها في ظل حكم خلفه الشاذلي بن جديد.
وليس من قبيل الصدف أن يعرف النظام في الجزائر حينئذ بعضا من السمات المميزة لنظم الحكم السلالية. إذ برزت زوجة الرئيس الشاذلي وعائلتها وبعض من الحاشية المقربة سواء من الشاذلي نفسه أو من زوجته، وسطع بالخصوص نجم ضابط في الجيش هو مصطفى بلوصيف الذي أصبح الأمين العام لوزارة الدفاع الوطني في منتصف الثمانينيات من القرن العشرين، وأصبح لوقت ما الرجل القوي في نظام الشاذلي بن جديد قبل أن يتخلى عنه ويمثل أمام المحكمة العسكرية بتهم فساد وتعسف في استعمال السلطة، ويحكم عليه بالسجن لعدة سنوات.
وهو دليل، إن كانت هناك ضرورة لذلك، على القبضة القوية للجيش على النظام من وراء ستار. ولم تكن سطوة العائلة والمقربين على الدولة وخيرات البلاد الميزة الوحيدة التي تلتقي فيها الأنظمة في الجزائر وتونس ومصر، والبلاد العربية عموما، بل هنالك سمات أخرى عديدة منها:
• الجهوية، حيث كانت النخبة المتنفذة في النظام الجزائري متمركزة تقليديا في مؤسسة الجيش وكانت معظم زعامات الجيش، لظروف تاريخية مرتبطة بالنضال المسلح أثناء حرب التحرير، تنحدر من مناطق الشرق الجزائري (حيث شكلت حواضر باتنة، تبسة وسوق أهراس مثلث النخبة العسكرية)، بينما كانت الإدارة العمومية خاصة المناصب العليا في الدولة بيد فئات اجتماعية منحدرة من أسر ميسورة من منطقة القبائل البربرية، ومن حواضر غرب الجزائر. أما عن تونس فقد شكلت منطقة الساحل تقليديا المصدر الرئيس للنخب الحاكمة، بينما شكل الجنوب والغرب مناطق محرومة عرفت بمقاومتها للاستعمار، ثم بمعارضتها للنظام بعد الاستقلال.
• الانفتاح أو الليبرالية الاقتصادية: هذه سمة أخرى ميزت النظام في الجزائر مع بداية الثمانينيات بعد تسلم الشاذلي بن جديد مقاليد السلطة، وبدأ التنصل من النزعة الاشتراكية والتخطيط المركزي للاتجاه تدريجيا نحو الليبرالية والانفتاح الاقتصادي، لكنها ليبرالية مقيدة ومشوهة، حيث وقع تفكيك احتكار الدولة لصالح مجموعات متنفذة في السلطة معظمها من قيادات الجيش والأجهزة البيروقراطية، وقيادات حزب جبهة التحرير الوطني التي كانت تشكل بالإضافة للجيش والإدارة الأعمدة الحاملة للنظام في ذلك الوقت ولا تزال حتى اليوم.
" كان التوجه الليبرالي في التجربة الجزائرية متميزا بطابعه المتخلف والتابع (الكومبرادوري) الذي يميز التشكيلة الاجتماعية والنمط الاقتصادي العام ككل " |
لقد كان التوجه الليبرالي في هذه التجربة متميزا بطابعه المتخلف والتابع (الكومبرادوري) الذي يميز التشكيلة الاجتماعية والنمط الاقتصادي العام ككل. فالاقتصاد الجزائري اقتصاد ريعي "خراجي" بالأساس قائم على عائدات النفط والغاز بشكل كلي.
وبالتالي فالبرجوازية الناشئة كانت ضعيفة ومهمشة منذ بداية الاستقلال تحت هيمنة جماعات متنفذة نشأت في دواليب الدولة ومؤسساتها، أو ما عرف حينها ببرجوازية الدولة في ظل نمط تنموي سمي حينا برأسمالية الدولة، وأحيانا باشتراكية الدولة، وهو نمط تعود جذوره إلى التجربة السوفياتية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى انهيار ذلك المعسكر في بداية التسعينيات.
ما ميز ذلك الانفتاح الليبرالي هو ضعف الدولة في مواجهة الزمر وجماعات الضغط الجديدة التي انتقلت من السيطرة على مؤسسات الدولة (الجيش والإدارة) إلى الاقتصاد. وقد صاحبت عملية الانفتاح ظواهر مثل الندرة الكبيرة في معروض السلع والخدمات، وبالتالي المضاربة في السلع، وتنامي السوق السوداء، ما أدى إلى حالة من الاضطراب ليس على مستوى تلبية الحاجات الأساسية واليومية للناس فحسب، بل إلى أزمات حادة في توفير المواد الغذائية الرئيسية مثل السميد والخبز والحليب والزيت والسكر والقهوة والماء والخضر والفواكه، وقد صاحب ذلك بالطبع حالة قصوى من الاضطراب في الأسواق وارتفاع فاحش في الأسعار.
لقد كانت فترة منتصف الثمانينيات من أصعب الفترات التي عرفها الشعب الجزائري تحت وطأة نظام قائم على سيطرة أقليات بسطت نفوذها على أجهزة الدولة-الحزب وتشكلت بفضل تقاطع عوامل عدة مثل: المصالح الاقتصادية والانتماءات الجهوية والمصاهرة مكونة مجموعات من العصب العائلية والجهوية التي تحكمت في مقاليد الدولة والاقتصاد، وهي حالة تفاقمت وترسخت بحيث صارت واقعا معيشا يعرفه العام والخاص.
نفس الحالة عاشها ويعيشها النظام الملكي في المغرب الأقصى لاعتبارات تتعلق بطبيعة نظام الحكم الملكي السلالي المتحالف مع الإقطاع في مرحلة أولى، ثم مع البرجوازية الناشئة في مرحلة ثانية. كما عرفتها تونس منذ السنوات الأخيرة من حكم الرئيس بورقيبة، ثم بشكل أوضح طيلة فترة حكم بن علي في العقدين الأخيرين، وتعرفها مصر منذ حكم السادات ثم في الثلاثين سنة الأخيرة مع حسني مبارك.
الغلق السياسي والإقصاء
تميزت التجربة الجزائرية غداة الاستقلال بالإضافة إلى السمات السابقة بغلق المجال السياسي أمام كل منافسة، فالنظام اعتمد أسلوب الحزب الواحد، وهو نموذج رائج فرضته ظروف مرحلة التحرر الوطني من جهة، و"نجاح التجربة السوفياتية" من جهة أخرى. وقد شكلت تلك التجربة حينها نموذجا لعدد من التجارب الكبرى ضمن بلدان العالم الثالث، بما في ذلك بلدان عربية مثل تجربة حزب البعث في العراق وسوريا، وحزب الاتحاد الاشتراكي في مصر، وحزب جبهة التحرير الوطني في الجزائر، وحزب الاستقلال في المغرب الأقصى، والحزب الدستوري الجديد في تونس.
لعل ما ميز فترة السبعينيات والثمانينيات في الجزائر تلك الهيمنة القوية لحزب جبهة التحرير الوطني على الحياة السياسية وتماهي مؤسسة الدولة وجهاز الحزب بشكل قوي. رغم أن الحياة الحزبية في الجزائر تميزت خلال فترة قصيرة -منذ الاستقلال في 1962 وحتى مجيء بومدين للحكم عقب انقلاب 19 يونيو/حزيران 1965- بديناميكية فكربة قوية وبسيادة نقاش أيديولوجي حاد بين أجنحة الحزب ومثقفيه، وكان للتيار اليساري داخل الحزب وزن وتأثير معتبر في رسم سياسات الدولة الفتية، كما تمتع حزب جبهة التحرير الوطني بكامل الشرعية كونه حامل لواء الثورة ومحقق الاستقلال الوطني.
لكن كل ذلك بدأ يتآكل في الفترات اللاحقة عندما حول بومدين الحزب إلى جهاز بيروقراطي قوي وذراع لخدمة النظام وأهدافه في السيطرة وبسط النفوذ. تفاقم الوضع واتسم بمزيد من التصلب في فترة حكم الشاذلي بن جديد 1979-1991 خاصة في العشرية الأولى حتى سنة 1988.
في تلك الفترة بلغ نفوذ الحزب وبيروقراطية الدولة حدودهما القصوى متجسدة في غلق المجال السياسي، وإلغاء الحياة الحزبية، وتحويل الحزب إلى جهاز بيروقراطي متصلب، ووصلت عملية التماهي بين الدولة والحزب درجة متطرفة بإجراء تعديل في قوانينه الأساسية وإضافة المادتين 120-121 اللتين تقصران تولي أي مناصب قيادية في الدولة على المنخرطين في حزب جبهة التحرير الوطني.
" اتسمت فترة الثمانينيات على الصعيد السياسي بالغلق الكامل للساحة السياسية، والتضييق على الحريات بحيث كانت جميع "المنظمات الشعبية" وعلى رأسها الحركة النقابية القوية تحت القبضة الكاملة للحكومة " |
اتسمت فترة الثمانينيات على الصعيد السياسي بالغلق الكامل للساحة السياسية، والتضييق على الحريات، بحيث كانت جميع "المنظمات الشعبية" وعلى رأسها الحركة النقابية القوية تحت القبضة الكاملة للحكومة من خلال فرض سيطرة الحزب الكاملة على جميع التنظيمات وإلحاقها به هيكليا وأيديولوجيا وتنظيميا وماليا.
في نفس الوقت، انتهج النظام سياسة الانفتاح الاقتصادي التي أدت إلى تفكيك البنية الاقتصادية وتدمير القطاعات والمنشآت المنتجة التي وقع تشييدها في السبعينيات ضمن خطط تنموية وطنية، وتحويل الاقتصاد تدريجيا إلى اقتصاد "بزار" قائم على الاستيراد، والأهم من ذلك إلغاء احتكار الدولة لصالح احتكار الأقليات المتنفذة من بيروقراطية الدولة المتمركزة في الجيش والإدارة العمومية والحزب، فضلا عن المجموعات الطفيلية من زبانية النظام وحاشيته التي بدأت تتوسع وتكبر من حيث الحجم والنفوذ على حد سواء.
كانت هذه السمات المتعارضة والمتناقضة: الانفتاح الاقتصادي الشكلي، والغلق السياسي القوي علامات فارقة للنظام في الجزائر في فترة الثمانينيات، كما شكلت علامات مميزة لبقية الأنظمة العربية بما في ذلك المغرب الأقصى في عهد الحسن الثاني، وتونس في عهد الحبيب بورقيبة خاصة خلفه بن علي، ومصر في عهد السادات ثم حسني مبارك.
من الواضح أن النتائج المترتبة عن كلتا العمليتين مدمرة للحياة الاجتماعية والسياسية على حد سواء، فالمصاحبات الأساسية لعملية الانفتاح الاقتصادي كانت تفكيك البنية الاقتصادية المحلية، وزيادة وتيرة المضاربة، والربح السريع وغير المشروع، وندرة المواد الغذائية الرئيسية، والارتفاع الجنوني للأسعار، وارتفاع معدلات البطالة، وما تبع ذلك من مصاعب الحياة.
أما الغلق السياسي فشكل طوقا خانقا على جميع الحريات الفردية والجماعية، وفتح المجال واسعا أمام كل أشكال المحسوبية والتعسف والظلم الاجتماعي الذي تفننت في ممارسته مجموعات متنفذة من زبانية النظام وحاشيته التي تنمو كالفطر في مختلف أرجاء الهياكل الخاصة بالدولة الوطنية التي لم يبق من وطنيتها سوى الاسم، وقد تحولت إلى مؤسسة عائلية بامتياز، وهي لا تزال على فكرة اليوم.
في مثل تلك الظروف عرفت الجزائر وبقية بلدان شمال أفريقيا من المغرب إلى مصر سلسلة احتجاجات اجتماعية وعصيان مدني سميت حينها بحركات الاحتجاج من أجل الخبز التي ميزت عقد الثمانينيات بأكمله، وإن على فترات متقطعة.
بالنسبة للجزائر، كانت أهم تلك الاحتجاجات، ثورة الشباب التي عرفت بأحداث 5 أكتوبر/تشرين الأول 1988 التي لا تزال ملفوفة بالغموض، وقد كانت بمثابة انتفاضة اجتماعية عمت كل أرجاء الوطن قمعها الجيش في حمام من الدم، وراح ضحيتها أكثر من 500 شاب في عمر الزهور، حسب التقديرات الرسمية، وهي تقديرات جد متحفظة، فضلا عن آلاف الجرحى والمسجونين.
وحملت تلك الانتفاضة علامات وسمات كثيرة مما جاءت به ثورة الشباب في تونس بعد عشرين سنة. دفعت تلك الأحداث السلطة لإجراء إصلاحات على النظام السياسي في الجزائر بإنهاء سيطرة الحزب الواحد وفتح المجال السياسي للتعددية، وتحرير مجال الإعلام، وفك القيد عن حرية التنظيم الاجتماعي والمهني مؤدية إلى ترسيخ التعددية. ومن المعروف اليوم أن النظام قد نجح في الالتفاف على تلك الإصلاحات وإفراغها من محتواها واستعادة سيطرته شبه الكاملة على المجتمع.
هناك دروس عظيمة يمكن استخلاصها من تلك الحركات الشعبية، أولها التذكير بأن درجة تحمل الناس للظلم الاجتماعي لها سقف، وأن الأنظمة التسلطية لا يمكنها المضي في تعسفها وجبروتها إلى ما لا نهاية دون أن تتعرض لهزات عنيفة قد تذهب بها كلية، أو تفرض عليها تغييرات جوهرية تبعا للظروف والأوضاع وموازين القوى السائدة في كل بلد. والدرس الثاني هو أن النجاح في إحداث تغيير جذري للنظام رهين بدرجة الوعي والتماسك والتنظيم الجيد للقوى الاجتماعية الحاملة لشعار التغيير.
" ظلت الجبهة الاجتماعية معرضة لمخاطر كبرى جراء السياسات الاقتصادية الفاشلة، وبسبب أساليب الحكم المستبد القائم على شكل من السلالية الحديثة التي انتهجتها النخب الحاكمة منذ بداية الثمانينيات وحتى اليوم " |
أدت الأوضاع الاقتصادية والسياسية السابقة الذكر إلى تدهور الأوضاع الاجتماعية لقطاعات كبيرة من المجتمع وبشكل مثير للقلق. ولم تطل حالة التدهور الجماهير الشعبية الفقيرة لتزيدها فقرا فحسب، بل طالت أيضا الطبقة الوسطى التي فقدت مواقعها تدريجيا وتفككت بسبب تضافر عوامل عدة مثل تراجع أهمية التعليم، وقيم النجاح والتفوق والتميز والكفاءة لصالح قيم جديدة مثل الوصولية والمحسوبية والعشائرية والزبونية التي صارت عنوانا لمرحلة كاملة من مراحل تكوين المجتمع الجزائري.
كانت الجبهة الاجتماعية معرضة لمخاطر كبرى جراء السياسات الاقتصادية الفاشلة، وبسبب أساليب الحكم المستبد القائم على شكل من السلالية الحديثة التي انتهجتها النخب الحاكمة منذ بداية الثمانينيات حتى اليوم.
وقد تمثلت تلك المخاطر في تفكك الكيان الاجتماعي، وارتفاع معدلات البطالة، وتدني مستوى الخدمات الاجتماعية، مثل التعليم والصحة والنقل والمواصلات وتفاقم أزمة السكن. والأهم من كل ذلك انتشار الفساد والرشوة والمحسوبية بشكل لم تعرفه البلاد طيلة تاريخها، بما في ذلك أثناء الحقبة الاستعمارية المظلمة.
إذ لم يعد بالإمكان القيام بأي شيء، أو الحصول على أدنى خدمة في أي من المؤسسات العمومية للدولة دون اللجوء إلى دفع الرشوة ولأكثر من طرف. لقد صار الموظفون في سلك المؤسسات العمومية، أيا كانت طبيعتها وحجمها ومجال نشاطها، يضغطون على المواطنين بشكل علني وصريح لدفع الرشوة من أجل قضاء مصالحهم اليومية مثل استخراج أوراق الحالة المدنية، أو القيام بأي معاملات إدارية عادية بما في ذلك تحصيل مرتباتهم.
نفس الوضع طال الخدمات الصحية في المستشفيات العمومية التي تحولت إلى مؤسسات بيروقراطية تتحكم فيها مجموعات من المتسلطين على رقاب الناس، حيث يمكن لأي موظف بسيط أن يحول حياة المواطن إلى جحيم، أو يفتح أمامه أبواب الخلاص تبعا لموقف العميل ومدى استعداده لقبول قواعد اللعبة، وهي بسيطة ومعروفة لدى الجميع: من يدفع يحصل على الخدمة التي يريد، ومن يرفض عليه تحمل العواقب، وهي ليست مسرة بالطبع.
أما قضايا الفساد التي تحصل في مؤسسات الدولة الكبرى مثل البنوك وشركات التأمين والمنشآت الإنتاجية والتجارية، فإن الحديث عنها صار من القضايا اليومية التي تعرضها الصحف وتلوكها الألسن يوميا، بداية بفضيحة مجموعة الخليفة قبل عدة سنوات، وهي لا تزال معلقة حتى اليوم، إلى فضائح البنوك الوطنية التي جرى فيها التلاعب بمليارات الدينارات، (تمثلت واحدة فقط من تلك الفضائح في تحويل 32 مليار دج)، ثم فضيحة الشركة الوطنية للمحروقات (سونطراك)، وفضيحة الطريق السريع شرق-غرب وكلاهما يعد من أكبر قضايا الفساد التي تورطت فيها شخصيات كبيرة ومعروفة في النظام (وزراء، وكلاء وزارات، أعضاء من غرفتي البرلمان، ضباط سامون في الجيش ومصالح الأمن، الولاة، فضلا عن آلاف الموظفين المتوسطين والصغار في الوزارات والمصالح الإدارية في كل ربوع البلاد).
ـــــــــــ
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.