سوريا وسيناريوهات الكارثة

سوريا وسيناريوهات الكارثة


سوريا تَنْجَرُّ وتُجَرُّ وتَجُرُّ لا نفسها فحسب، بل كذلك كل المنطقة معها، إلى فوضى عاتية مدمرة. وما قرار الجامعة العربية بتعليق عضويتها، ورفض طلبها لعقد اجتماع قمة عربية طارئة، ومن ثمّ امتناعها عن الذهاب إلى مؤتمر الرباط العربي التركي إلا مقدمات للفوضى، أو قل الانفجار المحتمل في المنطقة كلها.
 
لا شك أنه لا يسيء عاقلا عربيا أن تُفَعَّلَ الجامعة العربية وأن تُصَوّبَ بوصلتها لتكون متسقة مع نبض الشعوب، ولا شك أن جُلَّ الشعوب العربية، إن لم يكن كلها، محزونة مهمومة لما يجري في سوريا، كما أن الجلَّ غاضب على نظام الأسد البعثي الذي ولغ في دماء شعبه الذي يطلب كرامة وحرية حرم منهما منذ أمد بعيد.
 

"
ساهم النظام السوري بوحشيته وغروره وصلفه وقصر نظره في تمكين خصومه لا من رقبة نظامه فحسب، بل كذلك من رقبة سوريا نفسها
"

غير أن هذا كله لا ينفي أن ثمة مؤامرة تتعرض لها سوريا. هذه المؤامرة لها امتدادات عربية وغربية. وللأسف فقد ساهم النظام السوري بوحشيته وغروره وصلفه وقصر نظره في تمكين خصومه لا من رقبة نظامه فحسب، بل وكذلك من رقبة سوريا نفسها. قد يقول قائل، ولماذا إهمال الدور التركي هنا؟ والجواب أن تركيا سعت في البدء لحماية نظام الأسد عبر دفعه إلى استباق الأحداث وإصلاح بنيته ذاتيا، ولكن النظام لم يرفض ذلك فحسب بل انقلب على تركيا التي كانت حليفته في المنطقة في الأمس القريب.

 
أما كون أن سوريا تتعرض لمؤامرة فهذا أمر واضح لا يحتاج إلى عبقري لإدراك كنهه. فسوريا مستهدفة لأنها من دول المركز العربي، ولأنها، نعم، في ظل نظامها الحالي، كانت لها مواقف عروبية قومية تحسب لها، بغض النظر عن الخلفيات والحسابات التي كانت تقف وراءها. ولذلك، فإنه عندما مكن هذا النظام خصومه من رقبته فإنهم لن يسعوا إلى جزّها فقط، بل إنهم سيحاولون كذلك جزَّ رقبة سوريا الدولة والدور والثقل كذلك.
 
ومن هنا، فإن موقف الجامعة العربية القاضي بتعليق عضوية سوريا وتصعيد الضغوط عليها، وإن بدا في ظاهره متسقا ومتناغما مع نبض الشارعين السوري والعربي، فهو أيضا لا يخلو من نفاق سياسي كبير وبعد تآمري وراءه ما وراءه وله ما بعده. وإلا فلماذا تعلق عضوية سوريا ولا تعلق عضوية اليمن؟ هل يا ترى أن السبب يكمن في أن طاغية سوريا أكثر إجراما وسفكا للدماء من طاغية اليمن؟ أم ربما لأن دماء سوريا الزكية المسفوحة ظلما وعدوانا أزكى وأطهر من دماء اليمن الزكية والطيبة أيضا؟
 
لا شك أن حسابات جلِّ من صَوّتَ على تعليق عضوية سوريا لا تعترف بحرمة الدمين السوري واليمني. ولكن في السياق السوري فإن ثمة تصفية لحسابات قديمة مع سوريا من قبل أنظمة أغضبتها مواقف سابقة لسوريا اتسقت فيها مع نبض الشارع العربي (كموقفها من العدوان على العراق، ولبنان، وغزة… مرة أخرى مع ضرورة التأكيد على أن هذا ليس تصديقا وتبريئا لنوايا وحسابات النظام في كل تفاصيلها ودوافعها حينئذ).
 
فتلك الأنظمة التي وقف كثير منها في "محور الاعتدال" العربي مع أميركا وإسرائيل أغضبتها حينئذ المواقف السورية التي انتمت إلى "محور الممانعة" في المنطقة، وهم اليوم يردون الصاع صاعين إلى النظام الذي أزعجتهم مواقفه في الأمس، ووصل الحد برئيسه، بشار الأسد، إلى أن يصف بعض زعماء أنظمة "الاعتدال" العربي حينئذ بأشباه الرجال.
 

"
الانتقام من بشار الأسد ونظامه تصفية لحسابات قديمة لا ترتبط بحرمة الدم السوري الزكي والغيرة عليه أمام بطش آلة القمع الإجرامية لنظام بشار
"

وضمن هذا المعطى، يغدو الانتقام من بشار الأسد ونظامه تصفية لحسابات قديمة لا ترتبط بحرمة الدم السوري الزكي والغيرة عليه أمام بطش آلة القمع الإجرامية لنظام بشار. أضف إلى ذلك طبعا، أن سوريا، أحببنا أم كرهنا نظامها، مارست دور المناكف للسياسات الأميركية والإسرائيلية في المنطقة، وساهمت في تقوية بعض أضلاع محور الممانعة خصوصا في الفضاءين الفلسطيني واللبناني.

 
ولا شك أن هذا المعطى حاضر أيضا في مقاربة تصفية الحساب مع سوريا. كما أنه من الواضح أن ثمة توجها غربيا، أميركيا بالتحديد، لإحداث إزاحات في مواقع الثقل العربية وإعادة تموضعها.
 
بالمقارنة مع ذلك فإن يمن علي عبد الله صالح، كان يمنا مداهنا لمراكز قوى "الاعتدال" العربي، متواطئا مع أميركا في حربها على "الإرهاب"، خادما مطيعا لأجندتها في المنطقة، معاديا لإيران الطامعة في تمديد نفوذها في بلده وفي الخليج العربي كله، وحارسا أمينا لمنافذ الطاقة إلى العالم. وبالتالي، فإن تكلفة التخلص من صالح ونظامه دون ضمان خليفة مُرْتَهِنٍ ومتواطئٍ مثله مع أجندة الغرب و"المعتدلين" العرب تغدو كبيرة لأولئك. 
مسألة أخرى هامة، هل يستقيم أن تصوت أنظمة عربية لا تقل دكتاتورية عن نظام سوريا على عزل ومعاقبة الأخير لأنه ولغ في دماء شعبه!؟ أوليس جُلُّهُم طغاة من ذات الطينةّ؟ وهل يا ترى لو تحركت الحشود الشعبية في دولهم لإسقاط أنظمتهم أما كانوا سيقابلونها بذات القمع والإجرام!؟ إن هذا لقمة النفاق السياسي.
 
لذلك كله، فإن معاقبة نظام سوريا وإن اتفقت مع نبض الشارع العربي هي خطوة أقرب ما تكون إلى كلمة حق أريد بها باطل.
 
للأسف، فإن قرار الجامعة العربية سيفتح المجال عاجلا أم آجلا أمام التدخل الأجنبي في المنطقة. فالجامعة العربية تملك رفع الغطاء عن نظام سوريا، ولكنها لا تملك القدرة على إلزامه باحترام إرادة شعبه. وهكذا، فإننا نقترب أكثر فأكثر من الأنموذج الليبي، وذلك عندما رفع عنه الغطاء عربيا ليتم سحقه بعون غربي، ولتدخل ليبيا اليوم في أتون معركة جديدة لتثبيت استقلالها وسيادتها في مواجهة غرب متحفز للسطو على مقدراتها.
 

"
أيّ تدخل غربي في سوريا والمنطقة لن يكون لنصرة شعبها، بقدر ما أنه سيسعى إلى إعادة رسم خريطة القوى وتموضعاتها في المنطقة
"

وبالمثل، فإن أي تدخل غربي في سوريا والمنطقة لن يكون لنصرة شعبها، بقدر ما أنه سيسعى إلى إعادة رسم خريطة القوى وتموضعاتها في المنطقة. فضلا عن السعي لخنق قوى المقاومة والممانعة في المنطقة. فسوريا نفسها هي المستهدفة، لا نظامها فحسب.

 
إذن، بعض الأطراف العربية رضيت أن تكون ناعق خراب في المنطقة، وهي بلا شك تتحمل جزءا كبيرا من المسؤولية في جرّ المنطقة نحو فوضى كبيرة.
 
فنظام سوريا، فيما يبدو-على الأقل في حساباته-لن يسقط دون أن يحدث دويا في المنطقة كلها أولا. ولكن الحديث عن المسؤولية، يستلزم موضوعيا أن نقول اليوم كما قيل في ليبيا القذافي في الأمس، إن أكبر من يتحمل مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في سوريا، وما ستؤول إليه، هو النظام السوري القمعي الإجرامي.
 
فلولا أن هذا النظام مارس الكبت والقمع والقتل والتدمير في حق شعبه الذي خرج في البدء مطالبا بالحرية والكرامة لمَا وصلنا إلى هذه النقطة الحرجة أبدا. لقد أبى النظام إلا أن يعيش رهينة أنانيته، فإما سوريا به وله، وإما لا سوريا لأحد من بعده.
 
تطورات الأوضاع في سوريا اليوم تشي بأن الأسد ونظامه ربما يكونان في طور الاندثار، فالمعلومات تقول إنه حتى إيران، حليف النظام السوري الأوثق، بدأت تسعى لمدّ خطوط من الاتصال مع بعض تيارات المعارضة السورية. نعم، قد تكون هذه الخطوة الإيرانية محاولة لعقد صفقة تنقذ النظام، ولكنها في كل الأحوال تعبير عن حالة الضعف واليأس التي وصلها نظام الأسد.
 
فحتى إيران، من المشكوك في أن تخوض حربا من أجل إنقاذ نظام الأسد، سواء باسم المذهبية (معها حزب الله وشيعة العراق وكذلك الخليج)، أم بذريعة حماية أحد أضلاع محور الممانعة. فحرب لأسباب طائفية ومذهبية ستعني فقدانا للعمق الإسلامي الأوسع وكشف ظهر إيران وحزب الله.
 
يبدو أن خيارات نظام الأسد أصبحت محدودة، فهو إما أن يسقط في حرب إقليمية يدخلها إلى جانب إيران وحزب الله، وذلك إذا ما هاجمت إسرائيل إيران، وهو أمر مستبعد (أي مهاجمة إسرائيل لإيران آنيا) في هذه المرحلة على الأقل. وإما أن يسقط بانقلاب عسكري، سواء من داخل العائلة/الطائفة/النظام نفسه، أم من خارجه. وهو أمر محتمل.
 
ويبقى خيار ثالث، وهو أن يُؤثِرَ الأسد وأركان نظامه السلامة وأن يبحثوا لهم عن ملاذات آمنة تؤويهم، كالرئيس التونسي الهارب، زين الدين بن علي، قبل أن يلقوا مصير الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، أو الليبي المقتول معمر القذافي. وهو أمر لا أظنه قائما في حسابات النظام والأسرة الحاكمة، على الأقل حتى اللحظة الراهنة، ذلك أن صلف القوة وغرور السطوة والكبر لا تزال تعمي بصائرهم.
 
ومن هنا، فإن الأوضاع في سوريا تبقى مفتوحة على كل الاحتمالات، مع ثابت واحد فيما يبدو، ألا وهو أن نظام الأسد يقترب يوما بعد يوم من نهاية عمره الافتراضي. فمسألة أن ينجح في سحق مطالب شعبه في الحرية والكرامة تبدو أمرا مستحيلا، والمعادلة الآن تبدو كأنها إما شعبه وإما هو، وإذا كان هذا هو الحال فعلا، فإن الشعب هو من سيبقى قطعًا.
 

"
بقاء الأسد وأعوانه في الحكم سيعني عاجلا أم آجلا تدخلا أجنبيا سيدمرهم أولا، وسيدمر سوريا ثانيا، ويدمر المنطقة ثالثا ويجعلها عرضة لأصابع العبث الخارجي
"
ليت بشار الأسد ومن حوله، يفهمون أن زمانهم قد انتهى أو أنه قد شارف على ذلك، ومن ثمّ يسعون للنجاة بأنفسهم وترك سوريا لأهلها وشعبها. فبقاؤهم في الحكم سيعني عاجلا أم آجلا تدخلا أجنبيا سيدمرهم أولا، وسيدمر سوريا ثانيا، ويدمر المنطقة ثالثا ويجعلها عرضة لأصابع العبث الخارجي. بل إن احتمال تجزيء سوريا وخلق محميات فيها أمر وارد، حتى لو استمر نظام الأسد لفترة طالت أو قصرت.
 

غادر يا بشار، فإن وقت الصفقات قد ولى بعد أن ولغت إلى هذا الحد الرهيب في دماء شعبك.. أنج بنفسك، فماذا سيفيدك تدمير سوريا، إذا كان أهلك ونظامك وطائفتك سيكونون من وقود ذلك الدمار. ليتك أنت ونظامك وطائفتك تعتبرون قبل أن تنادوا ولات حين مناص.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.