الثورات تغيّر المحيط الإستراتيجي لإسرائيل

العنوان: الثورات تغيّر المحيط الإستراتيجي لإسرائيل


 
على رغم غلبة الهمّ المحلّي على الثورات الشعبية العربية، والمتمثّل بتغيير النظم السياسية، وخلوّ هذه الثورات من شعارات "قومية"، تمسّ قضية فلسطين والصراع العربي الإسرائيلي بخاصّة، فإن إسرائيل لن تسلم من تداعيات هذه الثورات عليها، وعلى مختلف الصعد الإستراتيجية: السياسية والأمنية والقيمية، وكذلك بما يتعلّق بمكانتها الإقليمية، وصورتها على الصعيد الخارجي.
 
لعلّ ذلك يفسّر أن إسرائيل تبدو وكأنها أكثر من يخشى التحولات الجارية والعاصفة في البيئة السياسية العربية، لا سيما أنها وجدت نفسها فجأة في مواجهة وضع غير متوقّع،  لم يكن بحسبانها، ولم ترصده دوائر استخباراتها ولا مراكز البحث والتحليل فيها. ونتيجة ذلك فقد تعاملت كثير من التحليلات الإسرائيلية مع ما يجري في بعض البلدان العربية باعتباره بمثابة هزة أرضية، بالنسبة لإسرائيل.
 
مثلا، فمن وجهة نظر ناحوم برنياع فإن "الثورات في العالم العربي هزّت الاستقرار الإقليمي، وأضعفت الحكومات، وأطلقت إلى الشارع الكراهية والإحباط، بما فيها الكراهية لإسرائيل أيضا.. هذه فترة محملة بالمصائر أيضا بالنسبة لمكانة إسرائيل في العالم.
 
الولايات المتحدة توجد في نقطة سفلى لم تشهد لها مثيلا منذ الثلاثينيات من القرن الماضي. ولا يمكنها أن توفّر لإسرائيل حماية مطلقة.. الشرخ مع تركيا، الاضطرابات في مصر، والتعاطف الذي لاقاه التوجه الفلسطيني إلى الأمم المتحدة، كل هذا يوضّح أننا وصلنا إلى نهاية عصر… أسرة الشعوب، بأغلبيتها الساحقة تدير لإسرائيل ظهرها"، (يديعوت أحرونوت 21/9). أما حامي شاليف فيقول: "لا حاجة لأن تكون عبقرياً في الجغرافيا لتفهم أن الهزّة الأرضية في العالم العربي ستخلق في نهاية المطاف تسونامي سياسياً قد يغرق أيضاً الفرضيات الأساسية لنا ولنزاعنا"، (إسرائيل اليوم 4/3).
 

"
الثورات العربية التي تتوخّى الحرية والعدالة والكرامة للشعب في بلدانها، لا بد أن تتمثل هذه القيم في سياستها الخارجية، لا سيما بما يتعلق بتحجيم مكانة إسرائيل ووضع حد لغطرستها في هذه المنطقة
"

حضور الشعب على مسرح التاريخ

هكذا ثمة لإسرائيل الكثير مما تقلق بشأنه ومما تخشاه من تداعيات التحولات في البيئة السياسية العربية المحمولة على رياح الثورات الشعبية عليها، وهو ما يمكن إجماله في جوانب عديدة، أهمّها:
 
1- لقد أدخلت الثورات الشعبية المجتمعات العربية في معادلات الحرب والسلام وفي موازين القوى في الصراع الدائر مع إسرائيل لأول مرة في تاريخ هذا الصراع، بعد أن كان هذا العامل مغيّبا بحكم تهميش هذه المجتمعات وتعطيل دورها، من قبل الأنظمة التسلّطية السائدة.
 
ويتّضح من ذلك أن إسرائيل هي التي كانت مستفيدة من الوضع السابق، الذي أتاح لها ابتزاز الأنظمة، والاستفراد بها والتغطرس عليها، فضلاً عن أنه جبى لها تعاطف العالم بادعاء فرادتها كدولة ديمقراطية في المنطقة.
 
ماذا يعني ذلك الآن؟ هذا يعني أن معادلات الصراع مع إسرائيل لم تعد محكومة بأمزجة الحكام، وإنما باتت في مجال الرأي العام، وفي نطاق تحكّم المجتمعات التي بات لها رأيها في مداخلات وتفاعلات الصراع العربي الإسرائيلي. ومثلا فإن هذا يعني أن مصر الجديدة، المحمولة على رياح ثورتها الشعبية، لن تحتمل عدوانية إسرائيل، التي تحطّ في الواقع من قدر مصر وكرامتها ومكانتها في إقليمها (الذي يشمل فلسطين والشرق الأوسط).
 
المعنى، أنه -وبغض النظر عن الشعارات- فإن الثورات العربية التي أعادت الشعب إلى مسرح التاريخ، وجعلته سيد مصيره، والتي تتوخّى الحرية والعدالة والكرامة للشعب في بلدانها، لا بد أن تتمثل هذه القيم في سياستها الخارجية، لا سيما بما يتعلق بتحجيم مكانة إسرائيل ووضع حد لغطرستها في هذه المنطقة، ودعم حقوق الشعب الفلسطيني.
 
تغيّر البيئة الأمنية الإقليمية
2- بديهي أن الثورات الشعبية الحاصلة (من تونس إلى اليمن مروراً بمصر) غيّرت البيئتين السياسية والأمنية المحيطتين بإسرائيل، فمصر قبل الثورة هي غيرها في ما بعدها، أي أن علاقات الخنوع والاستجداء والتملّق التي وسمت علاقة نظام مبارك بإسرائيل لم تعد مقبولة، لا في السياسة ولا في الاقتصاد ولا في الأمن.
 
طبعا لا يمكن الاستنتاج من ذلك أن مصر ستتحوّل من علاقات التعايش مع إسرائيل إلى الحرب معها، ولكن ذلك يفيد بأن استعادة مصر لدورها، ولمكانتها الإقليمية، ستسهم في لجم عدوانية إسرائيل، وكبح جماحها في الشرق الأوسط، وتحجيم مكانتها؛ بمعنى أن إسرائيل التي كانت تستخدم قوتها العسكرية لشنّ الحرب هنا وهناك لن تعود للاشتغال بنفس الطريقة، بعد التغيّر الحاصل في مصر.
 
وثمة بشائر في هذا الاتجاه تتمثّل برفض مصر للحسابات والادعاءات والحساسيات الإسرائيلية، ومضيها في عقد المصالحة بين الفلسطينيين، وسعيها إلى رفع الحصار المفروض على غزة، واعتبارها الحدود المصرية مع القطاع شأناً فلسطينياً مصرياً، كما يأتي في ذلك مراجعتها للعلاقات المصرية الإسرائيلية، بمختلف جوانبها؛ وهذا ينطبق على تسعيرة بيوع الغاز لإسرائيل.
 
ومشكلة إسرائيل تكمن، أيضا، في أن الثورات العربية حصلت بالتزامن مع لحظة ضعف تاريخية للولايات المتحدة الأميركية، وبالتزامن مع مسار نزع الشرعية الدولية عنها. وبحسب ألوف بن فإن "الجهد… بعيد المدى لانخراط إسرائيل كجار مقبول في الشرق الأوسط انهار مع طرد السفيرين الإسرائيليين من أنقرة والقاهرة… المنطقة تلفظ من داخلها دولة اليهود… رئيس الوزراء مطالب الآن بأن يدفع ثمن التغييرات في الشرق الأوسط: أفول القوة العظمى الأميركية، صعود تركيا… تقدم البرنامج النووي الإيراني وتعزّز الجماهير في الدول العربية"، (هآرتس 16/9).
 

"
الصراع العربي الإسرائيلي بعد الثورات الشعبية لن يبقى حكرا على الأنظمة، التي كانت تديره أو توظّفه، بحسب سياساتها، وإنما سيشمل المجتمعات في البلدان المعنية أيضاً
"

الصراع بوسائل أخرى
3- إن استبعاد عودة حال الصراع بالحرب، أو بالوسائل العسكرية (النظامية أو غير النظامية)، مع إسرائيل لا يعني البتة القبول بالتعايش معها كدولة استعمارية وعنصرية ودينية في هذه المنطقة، بقدر ما يرجّح الدخول معها في اشتباك حقيقي، لكن بالوسائل السياسية، وبالطرق السلمية المتاحة والممكنة والمشروعة. وبديهي أن ذلك يمكن أن يشمل مواجهة التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والثقافية التي يفرضها وجود إسرائيل على العالم العربي.
 
تبقى نقطة أخرى مهمة، وتتمثّل في أن الصراع العربي الإسرائيلي بعد الثورات الشعبية لن يبقى حكرا على الأنظمة، التي كانت تديره أو توظّفه، بحسب سياساتها، وإنما سيشمل المجتمعات في البلدان المعنية أيضاً؛ أي أنه سيشمل الإطارات غير النظامية، أو غير الدولتية، أيضا.
 
فمما لا شكّ فيه أن التحوّل نحو الديمقراطية وإرساء دولة المواطنين، سيفضيان إلى انتهاج سياسات واضحة، عقلانية وواقعية تُوازِن بين الحقوق والقدرات، وبين المأمول والممكن في مجال الصراع مع إسرائيل.
 
مع ذلك ينبغي أن يكون مفهوما أن هذه السياسات، التي ستحفظ الحد الأدنى من الحقوق والكرامة والعدالة، في مواجهتها للسياسات الإسرائيلية المتعنتة، لا تقارَن بسابقاتها التي استمرأت العيش على الادعاءات والتوهمات والمزايدات، أو تلك التي استمرأت الخنوع والاستجداءات والتنازلات.
 
هذا يعني تحييد الترسانة العسكرية الإسرائيلية، وإخراجها من دائرة الصراع، مما يفتح على معادلات صراعية جديدة، يدخل ضمنها تعزيز عوامل القوة في الدول العربية، والاشتغال على تناقضات إسرائيل، واستثمار نقاط ضعفها وافتراق الرأي العام الدولي عنها وحث المقاومة الشعبية ضدها. 
 
4- سيكون من فضائل الثورات الشعبية العربية، التي تحثّ الخطى نحو إقامة دولة المواطنين وتعزيز نظم الحكم الديمقراطية، الإسهام في كشف إسرائيل على حقيقتها باعتبارها دولة استعمارية وعنصرية وعدوانية ودينية، وتبيين واقعها باعتبارها بمثابة ظاهرة رجعية في المنطقة، مما يُنهي الأسطورة التي طالما روّجتها هذه الدولة المصطنعة عن نفسها باعتبارها بمثابة "واحة" للحداثة والديمقراطية والعلمانية في "صحراء" الشرق الأوسط.
 
معلوم أن إسرائيل لا تعتبر نفسها دولة لكل مواطنيها (يهودا وعربا)، وحتى إنها لا تعتبر نفسها دولة لليهود الإسرائيليين فقط، وإنما كدولة لليهود في كل العالم (بحسب "قانون العودة" خاصّتها)، على كل ما في ذلك من تمييز على أساس الدين (ضد المواطنين الأصليين من الفلسطينيين)، وعلى ما في ذلك، أيضا، من دلالة على أن حدودها البشرية مفتوحة (تماما كحدودها الجغرافية)؛ إلى حد يمكن القول معه بأنها الدولة الوحيدة في العالم، ربما، التي لم ترسّم حدودها، لا الجغرافية ولا البشرية.
 
ولعل هذا يفسّر سعي إسرائيل المحموم للاعتراف بها، وبحقها بالوجود، لا باعتبارها دولة إسرائيلية، أو كدولة مدنية، وإنما بالضبط باعتبارها دولة يهودية (دينية).
 
هكذا وبينما يحثّ العالم الخطى نحو تعميم قيم الحداثة، المتأسّسة على العقلانية والعلمانية والليبرالية والديمقراطية، ونبذ الأصولية والتطرف الديني والتسلط، ويتجه نحو دولة المواطنين الديمقراطية الليبرالية، تذهب إسرائيل على الضد من التاريخ العالمي، وحتى على الضد من التاريخ الجديد للشرق الأوسط، لتبرير ذاتها، وتبرير واقعها كدولة استعمارية وعنصرية ودينية في القرن الحادي والعشرين! مما يمكّن من عزلها ونزع شرعيتها السياسية والأخلاقية.
 

"
الثورات العربية غيّرت من صورة العرب في الرأي العام العالمي، وكرّست التعاطف مع قضايا الشعوب العربية، ومع الفلسطينيين، وقوّضت ادعاءات إسرائيل بشأن عدم قابلية الشعوب العربية للديمقراطية
"
في مقابل ذلك لنلاحظ أن الثورات العربية غيّرت من صورة العرب في الرأي العام العالمي، وكرّست التعاطف مع قضايا الشعوب العربية، ومع الفلسطينيين، وقوّضت ادعاءات إسرائيل بشأن عدم قابلية الشعوب العربية للديمقراطية، مما وسّع وعمّق من مسار ما تسميه إسرائيل "نزع الشرعية" عنها على الصعيد الدولي، وهو الأمر الذي تنظر إليه بعين الخطورة.
 
وعن ذلك يقول ناحوم برنياع: "كل هذا كان جيداً وجميلا إلى أن خرجت الديمقراطية للاحتفال في ميدان التحرير. فقد شخّص نتنياهو الخطر على الفور: الوضع في الشرق الأوسط غير مستقر. الحكومات قد تسقط.. لا يعرف أحد إلى أين ستتدحرج هذه القصة.. الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط تريد أن تبقى الدولة الديمقراطية في الشرق الأوسط. لا عيش دونها.. والأسوأ من هذا، مؤامرة لإبادة دولة إسرائيل"، (يديعوت أحرونوت 7/3/2011).
 
إسرائيل في مفترق طرق
ويستنتج من كل ما تقدم أن الثورات الشعبية في المنطقة، والتي تغذّ الخطى نحو مسارات الحداثة وبناء مستقبلات جديدة لبلدان ومجتمعات المنطقة، تتأسّس على الدولة المدنية والديمقراطية ودولة المواطنين، بالوسائل السلمية، باتت بمثابة تحدٍّ جديد، غير معهود وغير مسبوق لإسرائيل، فدول على هذا الشكل هي وحدها التي تشكل النقيض الحقيقي والتاريخي لإسرائيل الاستعمارية والعنصرية والدينية.
 
أيضا فإن نجاح هذه الثورات في التأسيس لهكذا دول لا بد سيضفي مشروعية على الخيار المتمثل بحلّ الصراع العربي الإسرائيلي على أساس من إقامة دولة واحدة ديمقراطية علمانية للفلسطينيين والإسرائيليين.
 
الآن، وأكثر من أي وقت مضى، وبينما المنطقة العربية تتّجه نحو التغيير، على الرغم من كل المعاناة وآلام الولادة، فإن إسرائيل تقف أمام مفترق طرق، فإما أن تواكب عملية التغيير هذه، بالتخلّي عن كونها دولة استعمارية وعنصرية ودينية، وقبول حل الدولة الواحدة المدنية الديمقراطية، أو أي حل آخر يؤدي أو يمهّد له، أو مقاومة عملية التغيير الجارية، الأمر الذي يكرّسها كدولة استعمارية وعنصرية وكظاهرة رجعية في هذه المنطقة، مما يعزّز من مسار نزع الشرعية عنها؛ وفي كلا الحالين فإن إسرائيل تقف في مواجهة عملية تغيير تاريخية.
 

"
إسرائيل تقف أمام مفترق طرق، فإما أن تواكب عملية التغيير بالمنطقة بالتخلّي عن كونها دولة استعمارية وعنصرية ودينية، أو مقاومة عملية التغيير الجارية
"

لذا من المثير ملاحظة كيف ستتعامل إسرائيل القديمة هذه مع عالم شرق أوسطي جديد، ومن المثير أكثر ملاحظة ردّات فعل المجتمع الإسرائيلي على ما يجري من تطورات في مجتمعات البلدان العربية المحيطة.

 
في الأعوام الماضية، وفي ذكرى قيامها، كانت إسرائيل تتبجّح بازدهارها، وبتقدمها وتفوقها على العالم العربي، أما في هذا العام فهي تبدو أكثر تشكّكاً بوضعها، وبالمحيط الجديد والمغاير المتشكّل من حولها. إسرائيل اليوم باتت حقاً تشعر أن عالماً عربياً جديداً على وشك النهوض، وأن ما كان لن يبقى كما كان.
 
وحقاً ثمة ما يؤكد أن التغيير الديمقراطي واكتشاف المجتمعات لذاتها ولقوتها، عبر مواطنيها الأحرار، وإعادة الاعتبار للدولة في هذه المنطقة، هي أكثر ما تخشاه إسرائيل لأنها كانت تتعيّش وتقوى وتتفوَّق على واقع عربي هو على خلاف ذلك.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان