تحديات على طريق بناء الديمقراطية

تحديات على طريق بناء الديمقراطية - الكاتب: محمد فال ولد المجتبى


 
لا جدال أن الحراك الشعبي في العالم العربي استطاع خلال الأشهر العشرة الماضية أن يتجاوز معوقات كثيرة ويحقق نجاحات معتبرة، لكنه رغم النجاحات الباهرة –وربما بسببها- يواجه اليوم تحديات لا تجوز الاستهانة بها ويقف على عتبة استحقاقات سيكون لها ما بعدها.

 
ولأن منشأ البلاء في المجتمعات العربية المعاصرة هو الاستبداد بالسلطة والتعسف في استخدامها وشيوع الإقصاء والقهر، فإن أكثر مهام المرحلة إلحاحا هي تلك المتصلة بإرساء الأسس اللازمة لقيام نظم سياسية مفتوحة تمتلك مقومات الشرعية وتتيح فرصا للمشاركة والتناوب السلمي على السلطة.
 
هذه المهمة التي لا تحتمل التأجيل أو التسويف تعترض تحقيقها، في الواقع، تحديات عديدة، بعضها مصدره قوى أجنبية وإقليمية لا يُتصور أن تتخلى بسهولة عن مواقع النفوذ والتأثير التي طالما تمتعت بها، شأنها في ذلك شأن فلول الأنظمة المنهارة التي لا تزال تملك كل الإرادة وشيئا من القدرة على وضع العصي في دواليب التغيير.
 
غير أن هناك -فضلا عن ذلك كله- تحديات ذاتية لا يقل تأثيرها خطرا، منها ما يعود إلى تحديد مضامين مشروع التغيير وترتيب أولوياته والمحافظة على قوة الإقناع والدفع التي يتمتع بها لدى الجماهير، ومنها ما يرتبط بسلوك واختيارات القوى التي تقود المشروع وعلاقاتها فيما بينها.
 
مناورات احتواء الثورة
تواجه الثورات العربية مزيدا من مناورات وتآمر أعدائها الذين عجزوا عن إجهاضها أو وأدها في المهد، لكن ذلك لم يحملهم على اليأس من احتوائها أو عرقلة مسارها. ويمكن رصد ثلاث دوائر تتعاضد مساعيها وتتكامل أدوارها رغم ما قد يبدو من تنافر أو تباين بين مصالحها وأهدافها.
 

"
تعمل دوائر غربية عديدة، رسمية وغير رسمية، على تصور السيناريوهات وصياغة السياسات العملية الرامية إلى احتواء الثورات العربية على نحو يحفظ مصالح الغرب ونفوذه في المنطقة
"

هناك، أولا، الحضن المزعج لبعض "الأصدقاء" والحلفاء الغربيين الذين يظهرون حماسا غير معهود لدعم التغيير في بلدان عربية دون أخرى لأغراض لا يحتاج المرء إلى ذكاء استثنائي ليدرك أنه لا علاقة لها بما تتطلع إليه الشعوب العربية من استعادة لكرامتها وتغيير أوضاعها نحو الأفضل.

 
لا يتعلق الأمر فقط بالحكومات الغربية، التي لا تكاد تهتم بإخفاء الدوافع الاقتصادية والإستراتيجية لمواقفها وتصرفاتها حيال ما يجري في المنطقة، وإنما هنالك أيضا منظمات وشخصيات تتحرك تحت عناوين مختلفة لا يقل حضورها في المشهد العربي الراهن تأثيرا وخطرا.
 
ويفرض نفسه كمثال على هذا الصنف من "الصداقة" التي تؤذي ولا تُشَرف الحضور الاستعراضي الذي يحرص عليه منذ بداية الأحداث في ليبيا الكاتب الفرنسي برنار هنري ليفي المعروف بمواقفه المتطرفة في العداء للحقوق الفلسطينية ودفاعه المنهجي المستميت عن جرائم إسرائيل.
 
المشكلة مع هؤلاء ترجع إلى تعاليهم الفج ونزعتهم المرضية للوصاية وسعيهم بإلحاح إلى تكريس تصوراتهم الخاصة لما ينبغي أن تكون عليه الأمور، سواء فيما يتعلق بمضامين مشروعات التغيير وأولوياتها، أو ما يخص تحديد الأطراف التي يسمح لها بالمشاركة في صنع المستقبل وتلك التي يتعين إقصاؤها أو تهميشها.
 
هكذا تعمل الآن دوائر غربية عديدة، رسمية وغير رسمية، على تصور السيناريوهات وصياغة السياسات العملية الرامية إلى احتواء الثورات العربية على نحو يحفظ مصالح الغرب ونفوذه في المنطقة.
 
تضم ثاني تلك الدوائر الشانئين من ذوي القربى، ويشمل ذلك أغلب الأنظمة العربية التي تنقسم بهذا الخصوص إلى ثلاث فئات: فئة وصلت نقطة اللاعودة في قمعها لثورات برهنت على صلابة عودها وتصميمها على تحقيق الأهداف، وفئة لا تخفي تربصها بدعاة التغيير وضيقها بمظاهره من حولها، وثالثة تحاول تأجيل استحقاقات التغيير لديها بالالتفاف على مطالبه.
 
أما القاسم المشترك بين هذه الفئات كلها فهو رغبتها في أن لا ينتظم مسار انتقال المجتمعات العربية نحو الديمقراطية، ومن ثم فإنها لن تألوَ جهدا في التشويش على التجارب الديمقراطية الناشئة والتآمر ضدها في الداخل والخارج، وفي الحد الأدنى سيحجم كثير من هذه الأنظمة عن التعاون بفعالية مع السلطات المنبثقة عن الثورات، إن لم تعمل على إثارة المشاكل معها أو من حولها لشغلها عن الانصراف إلى إنجاز أهدافها.
 
أخيرا هناك فلول الأنظمة الساقطة، وهؤلاء بحكم استبدادهم بالأمر ردحا من الزمن وخبراتهم العتيدة في التلاعب والمراوغة -وأساسا لأنهم مردوا على الفساد– ربما يتصورون أنهم ما زالوا يحتفظون بمواقع للتأثير يمكن توظيفها في مواجهة الأوضاع الجديدة. وليس بمستبعد أن يستسلموا لإغراءات الرجوع إلى عاداتهم القديمة، تماما مثل بعض رجال البوربون الذين عادوا مع لويس الثامن عشر بعد عشرين سنة من المنفى دون أن يتعلموا شيئا أو ينسوا شيئا.
 

"
أولى الأولويات هي بناء نظام سياسي يحترم كرامة الإنسان ويضمن مشاركة المواطنين ويفتح آفاق التناوب السلمي السلس على السلطة، وتسيير الثروة وتوزيعها
"

ترشيد التطلعات وترتيب الأولويات 

تأتي التحولات التي تعرفها المجتمعات العربية الآن بعد عقود ساد فيها القمع والكبت وغيرهما من صور امتهان كرامة الإنسان، سبقتها عصور متطاولة من تغييب الناس عن المشاركة في الشأن العام، حيث ظل الاستمتاع بأي حق من الحقوق الأساسية بما فيها حرية التعبير امتيازا محصورا في دائرة ضيقة من ذوي القربى أو الحظوة لدى صاحب الشأن.
 
هذه التجربة المريرة مع الإقصاء والتهميش أنتجت بالضرورة صعوبات فيما يتعلق بالتكيف الملائم مع أجواء الحرية الطارئة والاستغلال الأمثل لفرص الحوار التي لا عهد للناس بها. إذ يلاحظ أن التباس الوعي بالاحتياجات والتعبير الخاطئ عن التطلعات سمة ملازمة لبدايات أي تحول من وضع منغلق قائم على الإقصاء إلى نظام مفتوح يتوخى بسط فرص المشاركة.
 
يترتب على هذا النقص في المِران على ممارسة الحوار أن الطرف الذي يملك كل فرص القول يُظهر عادة قدرا من الضجر بالرأي المخالف ويميل إلى فرض رأيه، وفي المقابل يعاني الطرف الذي لم يعتد التعبير عن نفسه من صعوبات استثنائية في صياغة مواقفه بشكل دقيق ومناسب وكثيرا ما يفرط في التعصب لها حتى دون وجود دواع موضوعية لذلك.

من مخاطر وضع كهذا أن الخطاب السياسي المنتَج في سياقه يتسبب أحيانا، دون قصد، في خلق تطلعات وهمية أو تشجيع مطالب ذات سقف عال جدا يتعذر الوصول إليه، بما ينشأ عن ذلك من أسباب انهيار الثقة بين القوى السياسية والرأي العام، فضلا عن كونه سببا لتوليد مشاعر الإحباط وداعيا للعزوف عن الاهتمام بالشأن العام.

 
لذلك كله يتعين الاهتمام بتحديد أولويات المرحلة على أسس عقلانية وبيانها بشكل يرفع الالتباس والعمل على إنجازها بحكمة ومسؤولية. وفي هذا الإطار فإن أولى الأولويات هي بناء نظام سياسي يحترم كرامة الإنسان ويضمن مشاركة المواطنين ويفتح آفاق التناوب السلمي السلس على السلطة، مع إرساء قواعد لممارسة السلطة وتسيير الثروة وتوزيعها وإقرار ضوابط لمراقبة أداء المسؤولين ومحاسبتهم.
 
بموازاة هذا الهدف المحوري يتعين الاهتمام بالسياسات الاقتصادية والاجتماعية. أولا، لأن هناك حاجة ماسة وملحة لتحسين ظروف الناس المعيشية وتحقيق حد مقبول من التطور في مجالات مثل التشغيل والصحة والتعليم، حيث لم تكن الأنظمة البائدة تستبد بأمر الناس فحسب بل إنها كانت أيضا تستأثر بأقواتهم، وثانيا حتى لا يتسبب الانشغال بالجوانب السياسية في نظرة الناس إلى الديمقراطية باعتبارها بلاء وعبئا على أوضاعهم الاقتصادية.
 
إدارة التنوع والتنافس
مثلما توجد أطراف لديها رغبة أكيدة في إجهاض التغيير أو احتوائه فإن هناك قوى ذات مصلحة بينة في إنجاح عملية التغيير ويجب أن تعي ذلك وتتصرف على أساسه ومن منظور إستراتيجي. ويضم معسكر قوى التغيير هذا أطرافا متنوعة من الطيف السياسي والفكري أسهمت جميعا كل من موقعه في مقارعة الاستبداد وتهيئة الظروف لقيام الثورة وتوفير أسباب نجاحها، وتلك سمة إيجابية ينبغي الحرص على أن تظل قائمة.
 

"
يتطلب ترشيدُ التنافس وضمانُ الحدِّ المطلوبِ من التوافق توافرَ حس وطني مرهف ونفس إصلاحي لا يعرف الفتور
"

إن هناك فرقا جَليا بين التنافس المسؤول في كسب قلوب وعقول المواطنين والمغالبة البَنَّاءة في الميدان السياسي، وكلها من متطلبات الحيوية الديمقراطية وشروط نضج الممارسة السياسية، وبين الصراع والتكالب على السلطة.

 
من هنا يلزم ترشيد التنافس بين هذه القوى وضبطه بسقف عالٍ من التوافق على معالم نظام سياسي جامع يجد فيه الجميع مكانه. فبدون مثل هذا التوافق الذي تتأكد الحاجة إليه في هذه المرحلة بالذات يمكن أن يمثل التعدد القائم الآن كعب أخيل بالنسبة للثورات العربية، أو المأمن الذي منه يؤتى الحذِر.
 
يتطلب ترشيدُ التنافس وضمانُ الحدِّ المطلوبِ من التوافق توافرَ حس وطني مرهف ونفس إصلاحي لا يعرف الفتور. وفي هذا السياق ربما تحتاج قوانا السياسية للاستماع بعناية لماكس فيبير حين يقرر أن السياسي الحق يلزم أن يتسم بثلاث صفات يعتبرها المفكر السياسي الكبير شروطا لا غنى عنها هي الحماس الصادق للفكرة والتحلي بروح المسؤولية واكتساب ملكة حسن التقدير.
 
إن أحوج ما تحتاج إليه المجتمعات العربية اليوم وهي ترتقي مدارج الديمقراطية اعتماد القوى السياسية الرئيسة مسلكا إيجابيا في التعاطي مع الشأن العام وفي التعامل فيما بينها، مسلكا يفيد الجميع ولا يضر أحدا.
 
فالتجربة الديمقراطية الناشئة تفرض تسامي الجميع على الخلافات الضيقة والانصراف إلى القضايا الكبرى والهموم المشتركة ووضع ما سوى ذلك من المسائل الجزئية ومسببات الخلاف في حجمها الطبيعي.
 
في هذا المقام يجب القول إن القوى التي أفرزتها الانتخابات التونسية مطالبة بأن ترتقي إلى مستوى النضج الذي أبان عنه الناخب التونسي باختياره قوى التغيير بمختلف تشكيلاتها ليحملها جماعيا مسؤولية العبور بالبلاد نحو الديمقراطية وتكريس ريادة تونس لتجربة التغيير الديمقراطي في العالم العربي. وهو إنذار لدعاة الاستقطاب السلبي في المشهد التونسي، لكنه أيضا درس للساحات العربية الأخرى أن اللحظة تقتضي تناسي الخلافات وتجاوز الانتماءات الضيقة للانشغال بالهموم الكبرى للأوطان.
 

"
قدمت الثورات العربية خدمة لدارسي العلوم السياسية، بما وفرت من براهين إضافية على بطلان الحتميات البنيوية وبتأكيدها على وجاهة المنظور الإستراتيجي كأساس لتحليل ظواهر التحول السياسي
"
طبعا ليس رفع هذه التحديات جملةً بالأمر اليسير، لكن قوى التغيير لا تستطيع أن تسمح لنفسها بترف التلكؤ في مسعاها لتحقيق هذه الغايات، إذا أرادت أن تكون فعلا على مستوى مسؤوليتها التاريخية بخصوص صيانة مكاسب الثورات والمحافظة على ديناميكية التغيير حتى تتسق مساراته في المنطقة، فأي إخفاق أو نكوص، على صعيد أو آخر في هذا البلد أو ذاك، سيكون له انعكاس سلبي على الجميع وعلى مستقبل التغيير في المنطقة برمتها.
 

وكما قدمت الثورات العربية خدمة لا تقدر بثمن لدارسي العلوم السياسية، بما وفرت من براهين إضافية على بطلان الحتميات البنيوية وبتأكيدها من جديد على وجاهة المنظور الإستراتيجي كأساس لتحليل ظواهر التحول السياسي، بالاعتماد على خيارات الناس وتطلعاتهم، فإن النجاحات التي حققتها حتى الآن على أكثر من صعيد جديرة بأن تشكل حافزا يدفع قوى التغيير نحو مزيد من الحماس والعطاء والتضحية حتى لا تُخيِّبَ الآمال التي تعقدها عليها اليومَ شعوب "هرمت" فعلا "في انتظار هذه اللحظة التاريخية".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.