ولم يكن بمستغرب أن تخرج الجماهير الثورية التي رفعت في بداية نجاح الثورة شعار "الجيش والشعب إيد واحدة"، لتصب جام غضبها على المجلس العسكري الحاكم وتطالبه بالتنحي فورًا وتسليم السلطة لمجلس رئاسي مدني أو لحكومة إنقاذ وطني لها مطلق الصلاحيات. فما الذي حدث خطأ للثورة المصرية؟ وهل نحن أمام حالة ثورية غير مكتملة؟ وكيف يمكن إنقاذ مصر وثورتها ليتم تأسيس الجمهورية الثانية على أسس سلمية؟
إشكالية الرومانسية الثورية
اتسمت الثورة المصرية وغيرها من ثورات الربيع العربي ولا سيما الثورة التونسية بأن الباعث لها والمفجر لطاقاتها المحركة هو العناصر الشبابية الطامحة إلى إحداث تغيير جذري في بنية النظام الحاكم. وقد اتضح أن النسبة الغالبة من هؤلاء الشباب ينتمون إلى شرائح الطبقات الوسطى المتعلمة التي تجيد فن التعامل مع أدوات التواصل الاجتماعي الحديثة مثل الفيسبوك والتويتر واليوتيوب. وعلى الرغم من عدم وجود إطار أيديولوجي موحد لهؤلاء الشباب فإنهم يحلمون جميعًا بمستقبل أفضل تسوده قيم الحرية والعدالة والمساواة للجميع.
" صحيح أن الثورة المصرية قد أحدثت تحولات سياسية واجتماعية فارقة في بنية المجتمع المصري, لكننا مع ذلك أمام حالة ثورية غير مكتملة الأركان " |
لم يكن للثورة المصرية إذن عقل يدبر أمرها ويقود مسيرتها من أجل تحقيق أهدافها المشروعة. ولعل ذلك هو ما دفع إلى أن تبحث الثورة عن حام لها ومسير لشؤونها. وفي ظل أزمة القيادة الثورية، لم يكن هناك من بد سوى اللجوء إلى جيش الشعب ليتولى هذه المهمة الانتقالية. وفي اعتقادي أن المسار الانتقالي الذي انحاز إليه العسكريون وقاموا باستفتاء الشعب المصري عليه قد عكس صدامًا حادًّا في الرؤى ولا سيما بين رومانسية ثوار "التحرير" وغيره من ميادين مصر الكبرى وبين واقعية من يدير أمور البلاد والعباد ومن سلك مسلكهم من القوى والتيارات السياسية التقليدية في مصر.
صحيح أن الثورة المصرية قد أحدثت تحولات سياسية واجتماعية فارقة في بنية المجتمع المصري. فقد تمت الإطاحة بالحاكم الفرعون (مبارك)، وذهب مشروع توريث الحكم إلى غير رجعة، كما أضحت الجماهير العريضة أكثر وعيًا وجرأة على المطالبة بحقوقها وعدم السكوت على الظلم والطغيان مرة أخرى، ومع ذلك فإننا أمام حالة ثورية غير مكتملة الأركان.
لقد حاجّ البعض بأن قانون الطوارئ لم يتم إلغاؤه، بل أعيد تفعيل العمل به بعد الثورة، كما أن تحويل المدنيين إلى المحاكم العسكرية لم يتوقف، حيث تشير بعض الإحصاءات إلى اعتقال نحو اثني عشر ألف مدني بمقتضى أوامر عسكرية. والأكثر من ذلك كله أنه لم يتم القضاء على بقايا النظام البائد، حتى إن مصطلح "فلول" أصبح من مفردات القاموس السياسي المصري بعد الثورة. ولعل ما يؤكد ذلك هو أن مؤسسة الأمن المصرية لم تتخلص بعد من أسلوبها العتيد في التعامل مع المواطن المصري، حيث لا تزال تتعامل بنفس منهج ما قبل الثورة.
الانتخابات وأزمة خريطة الطريق
لا يمكن القول بأن المواجهات التي شهدها ميدان التحرير وبعض الميادين الأخرى في باقي المحافظات المصرية في منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي وهو ما أفضى إلى سقوط عشرات القتلى وآلاف الجرحى، تمثل ثورة ثانية في مصر. إنها تعكس في حقيقة الأمر هذا الصدام الذي تحدثنا عنه بين رومانسية طوباوية يحلم بها ثوار التحرير وبين واقعية الحكم والسياسة التي يمثلها من بيده الأمر ومن يطمح إلى الحصول على السلطة.
لقد ضيّع ثوار التحرير من أيديهم فرصة تاريخية من خلال إصرارهم على مطالب غير واقعية لا تأخذ في الحسبان السياق الداخلي والإقليمي والدولي للثورة المصرية. وعلى سبيل المثال كيف يمكن المطالبة بالرحيل الفوري للمجلس العسكري؟ وكيف يمكن نقل السلطة؟ وكيف يمكن الحديث عن حكومة إنقاذ "غير منتخبة" ونعطيها صلاحيات مطلقة. أليس ذلك يعني إعادة إنتاج سلطة الاستبداد مرة أخرى؟
ويبدو أن جماهير الشعب التي دعمت وآزرت ثوار التحرير في 25 يناير قد ضاقت ذرعًا بتردي الأحوال وعدم الاستقرار فأضحى عقلها الجمعي ينظر إلى المسار الانتخابي باعتباره المخرج الآمن والمقبول لعملية تسليم السلطة. ولعل هذا ما تعكسه روح الدعابة السياسية المصرية التي قامت بدور مهم في الثورة المصرية. حيث إنها انقلبت اليوم على ثوار التحرير أنفسهم.
لقد انشغل الثوار بمطالبهم الثورية والدفاع عن جمهوريتهم المثالية وتركوا مجال التواصل بالقواعد الشعبية والانتخابية للقوى السياسية المنظمة والراغبة في جني ثمار الثورة لمصلحتها.
لقد أدت انتفاضة شباب التحرير في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي إلى إسقاط حكومة شرف وإسناد مهمة تشكيل حكومة جديدة لأحد رموز النظام القديم، وهو الدكتور كمال الجنزوري، بل والأكثر أهمية هو إعلان 30 يونيو/حزيران 2012 موعدًا نهائيًّا لإجراء الانتخابات الرئاسية وتسليم السلطة للرئيس المنتخب.
" القول بأن إجراء الانتخابات البرلمانية وحتى الرئاسية يعني تحولاً تلقائيًّا نحو الديمقراطية وتأسيسًا للجمهورية الثانية في مصر، هو مردود. فالانتخابات على الرغم من أهميتها واعتبارها خطوة مهمة في التحول الديمقراطي لا تعدّ كافية " |
ورغم ذلك فإن هذا الجدول الزمني الذي يبدو في ظاهره محددًا وواضحًا يثير كثيرًا من التساؤلات والإشكالات المهمة. إذ وفقًا للإعلان الدستوري الصادر في 30 مارس/آذار 2011 تجري الانتخابات البرلمانية أولاً خلال الفترة من 28 نوفمبر/تشرين الثاني حتى منتصف مارس/آذار 2012. ويقوم البرلمان المنتخب بعد ذلك باختيار مائة شخص يشكلون جمعية تأسيسية لوضع الدستور المصري الجديد الذي ينبغي استفتاء الشعب عليه بعد إقراره. ولا أظن أنه حتى في حالة التوافق على مبادئ الدستور ونصوصه العامة يمكن أن يتم إصدار الدستور الجديد وإجراء الانتخابات الرئاسية قبل يونيو 2012.
إن ثمة قضايا إشكالية لم يتم التوافق عليها بعد مثل ما عرف إعلاميا بوثيقة المبادئ الدستورية التي تهدف إلى المحافظة على الشكل الديمقراطي للدولة والتوكيد على وضع المؤسسة العسكرية الخاص الذي يتناسب وقيامها بمهمة حماية الدولة والدفاع عن أمنها القومي. بل والأكثر من ذلك فإنه لا يوجد توافق بين كافة القوى السياسية حول معايير انتخاب أعضاء الجمعية التأسيسية، وهو ما يضيف قدرًا من عدم الوضوح الشديد على المشهد السياسي المصري بعد مرحلة الانتخابات البرلمانية.
وعليه فإن القول بأن إجراء الانتخابات البرلمانية وحتى الرئاسية يعني تحولاً تلقائيًّا نحو الديمقراطية وتأسيسًا للجمهورية الثانية في مصر، هو مردود. فالانتخابات على الرغم من أهميتها واعتبارها خطوة مهمة في التحول الديمقراطي لا تعد كافية. إن مسألة التوافق الوطني تعد أساسية. إذ يتعين مشاركة الجميع في بناء مصر الجديدة، ولا سيما هؤلاء الشباب الذين ضحوا بدمائهم الزكية في سبيل مصر حرة ديمقراطية. أما هؤلاء الذين يحاولون استثمار الثورة لمصالحهم السياسية الضيقة فإنهم يخونون الثورة ويسهمون في إحداث ردة سياسية تفضي إلى إعادة إنتاج نظام مبارك البائد وإن ارتدى ثيابًا جديدة.
مسارات مرحلة ما بعد الانتخابات
من الواضح أن ثمة إصرارا من جانب المؤسستين العسكرية والأمنية على إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية. وتحاول القوى التقليدية، ولا سيما الإسلامية منها، تعظيم مصالحها قدر الإمكان. وطبقًا لبعض التوقعات والمؤشرات الأولية التي عكستها نتائج المرحلة الأولى من انتخابات مجلس الشعب فإن التيار الإسلامي ممثلاُ بحزب الحرية والعدالة، الذراع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين، وحزب النور السلفي يشكلان الأغلبية النيابية مدعومين ببعض القوى الإسلامية الأخرى مثل حزب الوسط وحزب العدل وغيرهما. وربما تشكل التيارات ذات التوجه الليبرالي وغير الملتزم بالمرجعية الإسلامية الثلث المعطل في البرلمان المصري وفقًا لأدبيات السياسة اللبنانية. وعليه يمكن تصور مسارين أساسيين لمرحلة ما بعد الانتخابات في مصر.
المسار الأول، وهو الأكثر احتمالاً، يتمثل في القبول بأغلبية إسلامية مستأنسة في مصر تقبل بقواعد الممارسة الديمقراطية وبعدم المساس بأركان النظام القائم. ويعني ذلك أن تنتهي الثورة المصرية إلى إحداث إصلاحات جزئية وإجراء عمليات تجميلية على بنية النظام القديم. ولعل ذلك يحقق مصالح المؤسسة العسكرية التي أضحت مرتبطة من خلال مصالحها ومؤسساتها الاقتصادية –بالنخبة المصرية التقليدية برباط وثيق وليس من مصلحتها القضاء على النظام الحاكم كليًّا.
أما القوى الإسلامية التي عانت طويلاً من عدم المشروعية فإنها سوف تتنفس هواء الحرية، بل سوف تصبح شريكًا رئيسيًّا في الحكم. ويبدو أن القوى الليبرالية القديمة والحديثة سوف تمارس في هذه الحالة مهمة الضبط والمراقبة لضمان عدم ارتداد القوى الإسلامية عن مسارها المعلوم.
ولعل فكرة وجود مجلس استشاري وضم بعض العناصر الشبابية إليه إضافة إلى مؤيدي المجلس العسكري يمثل محاولة للتخلص من غلواء التيار الثوري الذي يرمز إليه ويجسده ميدان التحرير.
" ثمة من يحاول أن يؤسس لشكل جديد من "المباركية" في مصر دون وجود مبارك، وهو ما يعني اختطاف الثورة المصرية، الأمر الذي يفرض على الثوار ضرورة التحلي بالحكمة السياسية " |
أما المسار الثاني فإنه يشير إلى إمكانية توحد العناصر الشبابية وراء مجموعة من المطالب الواقعية مثل محاكمة قتلة الثوار وتعويض أسر الشهداء والمشاركة الفعلية في رسم معالم المرحلة الانتقالية المتبقية، وربما يكون ذلك من خلال المجلس الاستشاري.
على أن ذلك المسار يقتضي ضرورة أن يتعلم ثوار التحرير الدرس وألا يسمحوا باختطاف ثورتهم من قبل أطراف أخرى أكثر تنظيمًا وحنكة في ممارسة العمل العام. أي قبولهم بفكرة الواقعية الثورية. أما إذا لم يحدث هذا التوافق العام وأصرت "دولة التحرير" على إقامة جمهوريتها الطوباوية فإن النتيجة تعني مزيدًا من الانقسام بين "الثوار" والقواعد الجماهيرية التي عادة ما يتم وصفها في الأدبيات المصرية بحزب الأغلبية الصامتة. وربما يفضي ذلك في نهاية المطاف إلى تكريس حالة الاحتقان والتوتر في المسار الانتقالي المصري.
إن على القوى الثورية المصرية، ولاسيما الشبابية منها، إدراك أن مهمة بناء مصر الجديدة أكثر صعوبة وتعقيدا من إسقاط رموز النظام السابق. فثمة من يحاول أن يؤسس لشكل جديد من "المباركية" في مصر دون وجود حسني مبارك، وهو ما يعني اختطاف الثورة المصرية، الأمر الذي يفرض على الثوار ضرورة التحلي بالحكمة السياسية والتخفيف من شطط أحلامهم الثورية، وإن كانت مشروعة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.