التوبة السياسية في الربيع العربي

التوبة السياسية في الربيع العربي - الكاتب: نبيل الفولي
 
سنبقى والعالم زمنا طويلا مشغولين بأحداث الربيع العربي 2011، فليس من عادة التاريخ أن ينسى مثل هذه الأحداث بسرعة، كما أنه ليس من عادته أن يمررها بلا تأثير عميق في مجرى الحياة، وهو-أي التأثير العميق- ما يحاول كثيرون في الشرق والغرب منعَه أو الكفكفة منه.
 
إن الشيء الذي يمكن أن يصرف الناس عن الاهتمام بما جرى خلال هذا الربيع العربي المفاجئ، هو حدث أكبر منه يجري في توقيته أو في توقيت قريب منه، وقد وقع زلزال اليابان المروِّع في 11 مارس/آذار الماضي، فانشغل به العالم قليلا ثم عاد يتابع الحدث العربي الكبير والممتد زمانا ومكانا، ووقعت مجاعة الصومال المؤلمة، لكنها لم تطغ مع مأساويتها على أحداث ليبيا واليمن وسوريا، وكذلك جرت تطورات في القضية الفلسطينية، إلا أن هذه التطورات بقيت أقل قدرة على ملاحقة ثورة الشارع العربي، وإن بقي لقضية فلسطين حضور خاص في بنيان الثورات نفسها.
 
ومن أخطر ما صحب الربيع العربي: تمدده، وامتداد آثاره قليلا أو كثيرا من عاصمة عربية إلى أخرى، حتى كادت تشمل أكثر بقاع العالم العربي؛ في آية من آيات التواصل الخاص بين أجزاء هذا العالم. ويلفت النظر من بين هذه الآثار خاصة سعي كثير من الأنظمة العربية الحاكمة إلى توفيق أوضاعها مع شعوبها، وهو ما تُعنَى به هذه السطور.
 

"
تسببت السياسات الوطنية الفاشلة في عالمنا العربي منذ منتصف القرن الماضي، وبالتحديد بعد رحيل الاستعمار، في فصم عرى العلاقة بين الشعوب وحكامها، ولو في مآلها ومحصلتها العامة
"

تغيير ماذا؟

لقد تسببت السياسات الوطنية الفاشلة في عالمنا العربي منذ منتصف القرن الماضي، وبالتحديد بعد رحيل الاستعمار، في فصم عرى العلاقة بين الشعوب وحكامها، ولو في مآلها ومحصلتها العامة، حتى صارت أوطاننا من الجهة السياسية بلادا طائفية تضم في أحشائها أغلبية محكومة مغلوبة على أمرها، لا تشارك في صناعة سياسة بلادها إلا نادرا، وأقلية حاكمة قد يتنوع أفرادها من جهة الديانة والعرق والثقافة، لكن تجمعها المصالح ويلتقي في حِجْرها المال والسلطة في تزاوج غير مشروع.
وقد ظلت هذه الصورة سائدة ومتوقفة عن التطور النوعي خلال عقود، وإن خلفت النكسات ونوبات الفشل العربي في نفوس الشعوب العربية سخطا دفينا، وفي نفوس الحكام العرب توجسا من يقظة المارد الذي تحكمه، حتى تحركت الصخرة مع الربيع المنطلق من تونس إلى القاهرة مطوفا بأنحاء من العالم العربي هنا وهناك.
 
وكادت تجتمع بقية العواصم العربية على نذر ثورات مماثلة للتونسية والمصرية، حتى حدث شيئان أوقفا هذا الامتداد الثوري عند بضع حالات فحسب، ولو إلى حين:
 
الأول: دخول عوامل سلبية في ثورتي اليمن وليبيا حالت دون نجاحهما السريع، وأدخلت الشكوك في نفوس الجماهير العربية من إمكانية أن تفتح الثورات بابا للتدخل الأجنبي، أو على الأقل تحدث اقتتالا داخليا يؤول بالبلاد إلى الخراب والدمار.
 
الثاني: إدخال كثير من الأنظمة العربية بعض الإصلاحات السياسية والاقتصادية تعديلا لسلوكها في إدارة الدولة؛ سعيا منها إلى تسكين ثائرة الجماهير.
 
وقد كان هذا التغير الطارئ على سلوك الأنظمة لونا من التغيير يمكن أن نسميه "التوبة السياسية" التي سعوا من خلالها إلى "توفيق الأوضاع" مع شعوبهم، وهنا نريد أن نتفهم مسألتين في هذا الموضوع الذي يمكن أن يمهد لمرحلة عربية جديدة، وفي صالح جميع الأطراف:
 

"
الوئام الوطني وحماية البلاد من التدخل الأجنبي يستدعيان بعد التوبة السياسية الواجبة على الحكومات "غفرانا سياسيا" -إن صح التعبير- من الشعوب
"

المسألة الأولى: تتعلق بالشعوب، وما الذي تريد تغييره؛ هل تريد تغيير أفراد بأعينهم، أو تريد تغيير السياسات الفاشلة والجائرة؟
والحق أن الوعي يدفعنا دفعا إلى الإيمان بأن الهدف الحقيقي للشعوب الباحثة عن الحرية هو تغيير السياسات وليس الأشخاص، مع الإيمان بأن المواجهة الدموية للجماهير المسالمة ينبغي ألا تمر بلا حساب لكل متهم بالإجرام، وأن الإصلاح لا يمكن أن يأتي على يد جزار نحّار لكل من يعترض أو يحتج عليه.

 
والمسألة في الحقيقة معقدة كثيرا؛ نظرا لحقب طويلة من الفساد والظلم عانت منها الشعوب، غير أن الوئام الوطني وحماية البلاد من التدخل الأجنبي يستدعيان بعد التوبة السياسية الواجبة على الحكومات "غفرانا سياسيا" -إن صح التعبير- من الشعوب.
 
إن وضع السياسات العربية طوال المرحلة التي تلت الاستعمار العسكري الغربي في قفص الاتهام لتبرئتها أو إدانتها أمر مهم للواقع والتاريخ على السواء، إلا أن اعتبار السياسات القائمة الآن ميراثا متصلا بما سلف، وأن السياسة الدولية تمثل عامل ضغط ومساندة للاستبداد، قد يغفر للسياسات القائمة بعض أخطائها، ويتيح فرصة للإصلاح والتلاقي مع الشعوب عند نقطة تصالح يمكن أن تمثل ابتداء لمرحلة جديدة.
 
وأما المسألة الثانية التي يمكن أن تمهد لمرحلة عربية جديدة، فتتجه إلى المفهوم الصحيح لما سبق تسميته بالتوبة السياسية، والتي يمكن أن تصنع وئاما حقيقيا بين الأنظمة وشعوبها.
 
والتوبة -كما هو معلوم- مصطلح ديني يتناول تصحيح المؤمن لمساره عند الخروج عن الخط الذي ترسمه الشريعة الدينية بالتخلي عن الرذائل والتحلي بالفضائل. إلا أن الممارسة الفردية للتوبة تتم في الواقع بسطحية تامة في أغلب الأحوال، بحيث لا يصل أغلب التائبين إلى تحقيق هذه التوبة في أنفسهم؛ لأنهم يفهمونها شعورا وإحساسا، لا عملا متكاملا يجمع ما بين التنسيق النفسي الداخلي وترتيب عناصر الواقع المحيط بحيث يتعاونان على تثبيت التائب عند حال يصعب الارتكاس بعدها.
 
وبالمثل نجد مشروعات توفيق الأوضاع العربية، أو مشروعات استرضاء الشعوب التي أعقبت ثورات الربيع العربي، تعاني من عيوب وتشوهات تهددها بالفشل، ومرجع ذلك إلى المعالجة السطحية والناقصة للأمور.
 
إن مراكزَ وجهاتٍ غربية وشرقية تقدم "روشتات" ونصائح للأنظمة العربية كي تعالج الأزمة، إلا أن هذه الجهات لا تخلو من أن تعالج المسألة علاجا سطحيا أو خاطئا؛ جهلا منها بطبيعة البنية السياسية والاجتماعية الدقيقة للكيانات العربية، أو سعيا منها لخدمة أغراض تسبق مصالح الحكومات والشعوب العربية على السواء.
 

"
المسكنات والعلاج الجزئي لأي داء قد يزيد في استفحاله وتهديده لحياة المريض، ومن هنا لزم أن تكون معالجة الأزمة القائمة شاملة، حتى تصبح التوبة رجوعا حقيقيا عن نهج الاستبداد
"

ومن حق أوطاننا على علمائها ومفكريها ومثقفيها أن يقدموا هم، لا غيرهم، هذه الخدمة، لا ريبة في غيرهم فقط، لكن أيضًا لأن أهل مكة أدرى بشعابها، وأعرف بموطن الداء وموضع النجاء منه.

 
ومع هذا، فإن منطق الحركة الاجتماعية واحد في الجماعة البشرية، وهو ما يدعونا إلى القول بأن المسكنات والعلاج الجزئي لأي داء قد يزيد في استفحاله وتهديده لحياة المريض، ومن هنا لزم أن تكون معالجة الأزمة القائمة شاملة، حتى تصبح التوبة رجوعا حقيقيا عن نهج الاستبداد والجور إلى العدل والاستقامة ورعاية حقوق العباد.
 
وهو ما يمكن أن يتمثل في العناصر التالية:
1- تحسين معيشة المواطنين الاقتصادية، وأساس ذلك هو العدل في تقسيم الثروة، وإتاحة فرص عمل مناسبة لهم، مع توفير الرعاية الاجتماعية والصحية المجانية أو المدعومة دون تفرقة بين فئات المجتمع. وقد نال هذا العنصر اهتمام الأنظمة الأكبر، إلا أنه مع كونه غير كاف بمفرده، فإنه تحول إلى قرارات مفاجئة، تنم عن غياب التخطيط والدراسة الدقيقة.
 
2- تنشيط الحياة السياسية بإنشاء برلمانات منتخبة، ورفع القيود عن تشكيل الأحزاب والجمعيات، وعدم إعطاء أي فرد في الدولة سلطة مطلقة، وإصلاح القضاء وتحريره من السلطة التنفيذية، وتقوية الأجهزة والمؤسسات الرقابية. ولا يتناقض هذا مع وجود أسر حاكمة تتوارث الحكم، فبعض أعرق الديمقراطيات في العالم محكومة بأنظمة ملكية كما هو الحال في بريطانيا والسويد.
 
3- إظهار حسن النوايا تجاه الثورات العربية دون تفرقة بين ثورة وأخرى؛ لأن الشعوب تشعر بالريبة من أنظمتها حين تعمل ضد الشعوب الشقيقة ومصالحها، خاصة حين تكون مواقف الأنظمة متطابقة مع وجهات نظر خارجية معروفة بتناقضها من ثورة إلى أخرى.
 

"
الأخذ المتكامل لمشروعات الإصلاح العربية لن تكون مجرد ضمان لبقاء الأنظمة كما قد يُفهَم من النظرة الضيقة، بل هي فرصة لقيادة نهضات شجاعة
"
4- اتباع مواقف سياسية مسؤولة ومتوازنة تجاه القضايا الدولية؛ لأن الداخل له حساسيته أيضًا تجاه الخارج، خاصة بالنسبة لتلك القضايا ذات العلاقة بطرف شريك في الديانة أو العرق، أو التي يبدو فيها النظام الحاكم متابعا لمواقف أطراف دولية ذات ماض غير سار من القضايا الوطنية.
 

مهما يكن، فإن الأخذ المتكامل لمشروعات الإصلاح العربية لن تكون مجرد ضمان لبقاء الأنظمة كما قد يُفهَم من النظرة الضيقة، بل هي فرصة لقيادة نهضات شجاعة، لا تصبح فيها ماليزيا نموذجا فريدا في العالم الإسلامي. وبدلا من أن تصبح كياناتنا العربية مهددة باللبننة أو السودنة أو الأفغنة أو غيرها من النماذج السالبة، نصبح أمام حالة من "المليزة" -من ماليزيا- وربما أكثر تفوقا وتكاملا منها ومن النموذج التركي كذلك!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.