الذعر الإسرائيلي من الثورة التونسية

صالح النعامي



استبداد الأنظمة العربية كمصلحة إسرائيلية
توظيف الاستبداد للموارد العربية
عوائد الاستبداد الأمنية
استبداد الممانعة ليس استثناء
بعبع الحزام السني
نهاية الفرادة الأخلاقية

قد لا تكون إثارة الذعر ضمن ما هدف إليه شباب تونس الثائر ضد الطغيان والاستبداد، ولكنهم نجحوا في زيادة العبء على كاهل العاملين في مراكز التقدير الإستراتيجي في إسرائيل، وتحديداً في مراكز البحث التابعة لكل من شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) والموساد ومركز الأبحاث التابع لوزارة الخارجية، الذين يعكفون حالياً على محاولة فهم ما جرى وتداعياته المختلفة وإسقاطاته على "الأمن القومي" الإسرائيلي.

فتعليقات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ونائبه سيلفان شالوم المقتضبة على ما جرى في تونس، والتي أكدا فيها أن إسرائيل تتابع باهتمام شديد ما جرى في تونس وتداعياته، تم ترجمتها بشكل فوري في إصدار رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية أفيف كوخافي تعليمات عاجلة لطواقم البحث في جهازه بإعداد تقديرات إستراتيجية حول التداعيات المرتقبة للزلزال التونسي، حيث يسود انطباع بأن هناك احتمالا لتأثير هذه التداعيات بشكل حاسم على البيئة الإستراتيجية لإسرائيل.

قد لا يكون ما جرى في تونس ذا تأثير كبير على إسرائيل لو اقتصرت الثورة الشعبية المنادية بالديمقراطية على تونس فقط، لكن هناك حالة من الفزع تجتاح صناع القرار والنخب السياسية والعسكرية في تل أبيب من أن تمثل ثورة تونس مقدمة لزلزلة الأنظمة الحاكمة في الدول العربية المحيطة بفلسطين -خاصة في مصر والأردن وسوريا- بشكل يؤثر سلباً على إسرائيل.

"
ليس ثمة خلاف بين النخب الحاكمة الإسرائيلية على أن سيطرة أنظمة الاستبداد على العالم العربي يخدم بشكل مباشر المصالح الإستراتيجية الإسرائيلية، وأن سيادة الديمقراطية لدى العرب يقترن بتحديات جمة للكيان الصهيوني
"

استبداد الأنظمة العربية كمصلحة إسرائيلية
لم يكن هناك خلاف على الإطلاق بين النخب الحاكمة الإسرائيلية على أن سيطرة أنظمة الاستبداد على العالم العربي يخدم بشكل مباشر المصالح الإستراتيجية الإسرائيلية، وأن سيادة الديمقراطية لدى العرب يقترن بتحديات جمة للكيان الصهيوني.

وقد كان الرئيس الإسرائيلي الأسبق حاييم هيرتزوغ الذي شغل أيضاً منصب رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، أحد الذين أسهبوا في الحديث عن العوائد "الإيجابية" لأنظمة الاستبداد العربية على "الأمن القومي" الصهيوني.

ويرى هيرتزوغ أن الرأي العام العربي كان دوماً رافضاً ومناهضاً للمشروع الصهيوني، وبالتالي فإن حلول الأنظمة الديمقراطية التي تعبر بالضرورة عن توجهات الرأي العام العربي بوصفه مصدر شرعيتها الأساسي، يجعل هذه الأنظمة تسهم بشكل مباشر أو غير مباشر في مقاومة إسرائيل ورفض وجودها.

ويشير في المقابل إلى أن معظم الأنظمة الشمولية في العالم العربي تستمد شرعيتها من اعتراف الأطراف الخارجية وتعاونها، في الوقت الذي تتجاهل فيه إرادة الشارع العربي، وهو ما يسهل مهمة ممارسة الضغوط عليها.

ويرى هيرتزوغ أن أحد أهم الأسباب التي وقفت خلف رغبة دول عربية للتوصل إلى تسويات سياسية مع إسرائيل أو التطبيع معها، يرجع إلى أن هذه الأنظمة ترى أن مثل هذا السلوك يلقى استحساناً لدى الولايات المتحدة الأميركية.

توظيف الاستبداد للموارد العربية
يتوقف نجاح الأمم والدول وتفوقها في المواجهات والحروب والمنازلات الحضارية بشكل أساسي على آليات توظيف الموارد الذاتية وتوجيهها لخدمة الأهداف الوطنية، ففي ظل الأنظمة الديمقراطية يتم غالباً توجيه وتوظيف الموارد الوطنية، وضمنها القوى البشرية لخدمة المشاريع النهضوية التي تعزز مكانة هذه الدول في المواجهات مع الدول الأخرى، وتحسن من قدرتها على حسمها لصالحها.

وذلك بعكس ما يحدث في أنظمة الاستبداد التي توجه وتوظف الموارد الوطنية لضمان بقاء هذه الأنظمة والحكام. وهذا ما يفسر حماس النخب الإسرائيلية لبقاء أنظمة الاستبداد في العالم العربي، فالمفكر الإستراتيجي الإسرائيلي زئيف شيف كان دوماً يقول إن أوضاع الجيوش العربية البائسة من حيث التسليح والإمكانيات العسكرية، وعزوف الدول العربية عن الرغبة في مراكمة أسباب القوة يرجع بشكل أساسي إلى طابع الأجندة الذي يحكم الأنظمة الحاكمة التي أخرج معظمها احتمال المواجهة مع إسرائيل من خياراته.

"
في ظل الأنظمة الديمقراطية يتم غالباً توجيه وتوظيف الموارد الوطنية -وضمنها القوى البشرية- لخدمة المشاريع النهضوية, وذلك بعكس ما يحدث في أنظمة الاستبداد
"

وللأسف فقد دللت وثائق ويكيليكس على صدقية ما ذهب إليه شيف عندما أشار طاقم السفارة الأميركية في القاهرة إلى أن قيادة الجيش المصري غير معنية إطلاقاً باعتماد التقنيات المتقدمة في المجال العسكري، رغم أنه بات في حكم المؤكد أنه لا يمكن حسم أي حرب بدونها.

من هنا، لم يكن من الفراغ أن أبدى سياسي يميني متطرف مثل وزير الحرب الإسرائيلي الأسبق موشيه أرنس حنقه الشديد من الدعوات التي أطلقتها إدارة الرئيس بوش الابن في بداية عهدها لدمقرطة العالم العربي، حيث يجزم أرنس أن هذه الدمقرطة تحمل في طياتها خطراً وجودياً على إسرائيل.

ولكي يدلل على ما قاله يشير أرنس إلى أنه لو توافرت الإرادة السياسية لدى حكام الدول العربية الكبيرة والمؤثرة لتمكنت منذ زمن بعيد من تطوير سلاح نووي.

عوائد الاستبداد الأمنية
إن أكثر ما يثير قلق إسرائيل من الحراك الديمقراطي في العالم العربي هو أن يؤدي إلى المس بوجود أنظمة تقدم خدمات إستراتيجية كبيرة لإسرائيل، وتحديداً النظام الملكي في الأردن والذي يمثل بقاؤه مصلحة إستراتيجية من الطراز الأول لإسرائيل، كما قال رئيس جهاز الموساد الأسبق داني ياتوم.

وتلعب الحقائق الجغرافية والطبوغرافية دوراً هاماً وأساسياً في جعل استقرار النظام الملكي في الأردن مصلحة عليا للكيان الصهيوني، حيث يفصل بين الأردن وفلسطين خط حدود من مئات الكيلومترات، وهو ما يجعل إمكانية تأمين هذه الحدود أمراً مستحيلاً بدون التعاون والالتزام الأردني.

وقد عبر رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي الأسبق ماتي غور عن دور النظام الأردني في تأمين المصالح الإستراتيجية لإسرائيل، حيث أشار إلى أنه بدون التعاون الأردني يتطلب تأمين الحدود نشر عدة فرق عسكرية مكونة من عدد كبير من الألوية والكتائب، مما سيعمل حتماً على تبديد طاقات القوى البشرية للجيش الإسرائيلي، بحيث إنه بدلاً من استثمار الوقت والإمكانيات في التدريب وإجراء المناورات، ستكون قطاعات واسعة من هذه القوى مسخرة لحماية الحدود، ناهيك عن الاستثمار الهائل في مجال التقنيات المتقدمة وبناء العوائق، وما يعنيه هذا من إرهاق لخزانة الدولة.

وقد أكد رؤساء شعبة الاستخبارات العسكرية السابقون أوري ساغيه، ويهشوع ساغيه، وأهارون زئيفي فركش أن المس بوجود النظام الملكي الأردني يستدعي تدخلاً فورياً من قبل إسرائيل لمواجهة أي تهديد يتعرض له هذا النظام.

لكن الثلاثة يقصدون التهديد الخارجي كما حدث عام 1970 عندما تدخل سلاح الجو الإسرائيلي لمنع الجيش السوري من اجتياح الأردن لإنقاذ المقاومة الفلسطينية التي استهدفت في ذلك الوقت من قبل الجيش الأردني.

"
الإسرائيليون يرون أن المس بوجود النظام الملكي القائم في الأردن يستدعي تدخلاً فورياً من قبل إسرائيل لمواجهة أي تهديد يتعرض له هذا النظام
"

وهذا يعني أن فرص إسرائيل للتدخل من أجل إنقاذ هذا النظام إذا وقع حراك شعبي داخلي كاسح تؤول إلى الصفر، وهذا ما يصيب صناع القرار الإسرائيلي بحالة من الفزع عندما تبدو إمكانية انتقال شرارة الثورة التونسية إلى الأردن. من هنا فقد نظرت النخب السياسية الإسرائيلية بقلق كبير إلى المظاهرات التي شهدها الأردن رغم محدودية تأثيرها مقارنة بما جرى في تونس، وهذا ما يجعل إمكانية تحول الأردن إلى الحياة الديمقراطية كابوساً يقض مضاجع الصهاينة. ولقد كان من اللافت أن يصرح الوزير الإسرائيلي بنيامين بن إليعازر بعد زيارته قبل الأخيرة لمصر بأن رئيسها يمثل "كنزاً إستراتيجياً" لإسرائيل.

فبكل تأكيد أن بن إليعازر سمع خلال لقائه مع رئيس هذه الدولة ما يجعله يقول ذلك، علما بأنه هو الذي أكدت الوثائق الرسمية الإسرائيلية أنه خلال حرب 1967 قتل مئات الجنود المصريين بعدما أسرهم لواء "شكيد" الذي كان يقوده، بحجة أنه لم يكن هناك إمكانيات لوجستية تمكن من نقل هؤلاء الأسرى، فكان الحل في قتلهم.

استبداد الممانعة ليس استثناء
وهناك مصلحة إسرائيلية واضحة في بقاء أنظمة الاستبداد في الدول التي تعد نفسها ضمن "محور الممانعة" أيضاً.. صحيح أن هذه الدول لا تتعاون أمنياً مع إسرائيل، لكنها تحرص في المقابل على استثمار مواردها في تعزيز وتكريس حكمها بشكل أكبر بكثير من استثمارها في مجال تعزيز قدرتها على مواجهة إسرائيل، مما يجعلها تميل إلى امتصاص الإهانات التي توجهها لها إسرائيل.

وللأسف هذا ما عرف الصهاينة أن يستثمروه في التعاطي مع النظام السوري، فوزير خارجية إسرائيل أفيغدور ليبرمان هدده بأنه إذا استفز إسرائيل فإنها قادرة على ضربه بشكل يجعل عائلة الأسد والطائفة العلوية تفقد الحكم في سوريا.

لكن ما صدر عن ليبرمان يندرج ضمن أساليب الحرب النفسية، حيث إن إسرائيل ترى أن بقاء صيغة الحكم القائمة حالياً في سوريا هي الأفضل من أي خيار يمكن أن ينجم عن عملية تحول ديمقراطي حقيقي. وقد سبق للجنرال أوري ساغيه أن قال إن البديل الديمقراطي لوصفة الحكم القائمة حالياً في سوريا هو حكم الإسلاميين.

بعبع الحزام السني
تخشى إسرائيل أن تؤدي أي تحولات ديمقراطية في العالم العربي -وتحديداً في الدول المحيطة بفلسطين- إلى ولادة ما وصفه نائب رئيس الوزراء الجنرال موشيه يعالون "بالحزام السني" الذي سيمتد من مصر ويمر بالأردن وسوريا وينتهي في تركيا.

بالطبع لا تشكل الصبغة المذهبية لهذا الحزام أي مشكلة ليعالون، لكنه يقصد أن حكومات هذا الحزام ستعتمد أجندة وطنية وقومية تفرض عليها بناء نمط جديد من العلاقات الإقليمية والدولية تختلف تماماً عن نمط العلاقات القائم حاليا، خاصة على صعيد الموقف من إسرائيل والمقاومة الفلسطينية وإيران وغيرها.

وبكل تأكيد فإن الخطر الذي يفزع منه يعالون سيقلص من قدرة إسرائيل على المس بالمقاومة الفلسطينية واستهدافها، علاوة على أنه سيتيح لها فضاءً وعمقاً إستراتيجياً تستفيد حالياً إسرائيل كثيراً من غيابه حالياً في ضرب المقاومة.

"
سيُفقد التحول الديمقراطي في العالم العربي إسرائيل الأساس الذي تستند إليه في ترويج زعمها القائل بأنها جزيرة الديمقراطية في محيط من الأنظمة الشمولية المظلمة
"

نهاية الفرادة الأخلاقية
وسيفقد التحول الديمقراطي في العالم العربي إسرائيل الأساس الذي تستند إليه في ترويج زعمها القائل بأنها "جزيرة الديمقراطية في محيط من الأنظمة الشمولية المظلمة"، مع العلم بأن إسرائيل لا توظف هذا الزعم دعائياً فقط، بل إن هناك توظيفا إستراتيجيا بالغ الأهمية.

فعلى سبيل المثال تطالب النخب الإسرائيلية العالم بغض النظر عن برنامجها النووي وتطويرها ترسانة نووية هائلة بالقول إن إسرائيل "ديمقراطية مسؤولة من حقها أن تدافع عن نفسها"، في حين ترفض امتلاك الدول العربية لهذه الأسلحة على اعتبار أن الطغاة العرب غير مسؤولين، وبالتالي فإن هناك خطرا من أن تكون أياديهم أكثر خفة في الضغط على المفاتيح المحركة للسلاح النووي.

يمكن القول إن التحولات الديمقراطية في العالم العربي التي عبرت عنها ثورة الشعب التونسي الحر تمثل متطلباً أساسياً قبل خوض أي منازلة فارقة مع المشروع الصهيوني، من هنا فإن بقاء الطغاة "المعتدلين" و"الممانعين" لا يمكن أن يخدم المصلحة العربية.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان