دلالة الاحتجاج في النظم المستبدة والديمقراطية

العنوان: دلالة الاحتجاج في النظم المستبدة والديمقراطية



النظم الديمقراطية هي النظم التي تشكلت مؤسساتها وصدرت قوانينها من نواب منتخبين انتخابا مباشرا، تحرص السلطة فيها علي توعية الناخب ومساعدته علي اختيار أفضل المرشحين الذين يستحق النائب منهم أن يكون نائبا عن الأمة كلها، وليس أسيرا لابتزاز ناخبه في دائرته.

يترتب على ذلك أن الشعب -وهو مصدر السلطة وصاحب السيادة- يعتبر النائب نائبا عنه سيفقد مقدمات النيابة إن أخل بعقد الإنابة في النظام الديمقراطي، وأهم بنود هذا العقد أن يقوّم سلوك الحكومة التي انتخبها الشعب أيضا.

ومن حق الشعب بالطبع أن يحتج على سلوك الحكومة ومواقفها، ومن حقه على سلطات الأمن أن تمكنه من ذلك بشكل سلمي، فلا قيد على الاحتجاج ما دام في حدود القانون.

وقد تعددت صور الاحتجاج بما في ذلك التظاهر والاعتصام واستخدام وسائل التعبير المختلفة للإعلان عن عمل لا يرضى عنه الشعب، فالاحتجاج بكل صوره مباح وميسر, ومن حق الشعب ومن واجب الحكومة أن تلحظ وتستمع وتهتم وتعمل على تصحيح الأوضاع محل الشكوى.

"
من حق الشعب أن يحتج على سلوك الحكومة ومواقفها، ومن حقه على سلطات الأمن أن تمكنه من ذلك بشكل سلمي, فلا قيد على الاحتجاج ما دام في حدود القانون
"

في مثل هذه النظم لا محل لقمع الفكر والرأي والحركة أو التصدي بالقوة إلا بالقدر الذي يحول بين المتظاهرين وتجاوز القانون، فلا يفترض أن يستولي المحتجون على السلطة ويحلون محل صاحب القرار في إنفاذ ما يطلبون، وإنما يستدل صاحب القرار على ما يجب عمله من حجم الاحتجاج وشدته ومطالبه المحددة ومعقوليتها وإمكانية تنفيذها في إظهار السياسة العامة للدولة.

فعندما واجهت الحكومة البريطانية آثار الأزمة المالية العالمية ورفعت رسوم الدراسة الجامعية وتظاهر الطلبة وأولياء الأمور ولم تجد الحكومة حلولا أخرى، صمد كل في موقعه لعدة أسابيع, فالحكومة المنتخبة ترى حلولا علمية لا شعبية لها، والشعب يرى أن الحكومة الصالحة هي التي تتجاوب مع مطالبه.

وأظن أن الحكومات الديمقراطية تتعرض في الكثير من الحالات لمثل هذه الاختيارات، وبالفعل تحرص على أن تكون قراراتها علمية نافعة وفي نفس الوقت تحظى بالشعبية، فلا تجلب غضب الشعب بقرارات صحيحة علميا لكنها مستنفرة شعبيا، ولا تضحي بمصالح الأمة إذا واجه القرار غضب فئات معينة.. كل ذلك في ظل موازنات دقيقة رائدها الكفاءة والإخلاص والشفافية وانعدام الفساد والوعي الذي يتسلح به المجتمع وتحرص عليه الحكومات.

أما النظم المستبدة مثل مصر وغيرها في العالم العربي فقد نشأت على أساس تزوير إرادة الناخب بجميع الصور والأدوات المادية والمعنوية، وما دامت نظما غير ديمقراطية وغير منتخبة, ونصّبت نفسها وادعت لها الشرعية فلا رقابة عليها، فإن البرلمان يفسد ويتواطأ مع الحكومة، ويفسد القضاء ويروج الفساد والمظالم، ولا تستمع الحكومات إلى أنات الشعب وصراخه، بل تعتبر هذه الصرخات تصرفات غير لائقة.

وتداوم هذه الحكومات على تصوير الحال في أبدع صوره، وهو كذلك بديع لمن في السلطة أو لحلفائها، وهم نسبة ضئيلة تواطأت على الأغلبية الساحقة التي تئن بعدما استنزف الفساد الثروات، وصارت القلة المغرقة في الغنى مقابل الغالبية التي تعاني من الفقر والحرمان.

ومن سمات هذه الحكومات أنها تضع القانون ولا تطبقه، وترغم معارضيها عليه بأحكام جائرة بإيعاز منها، فيؤدي ذلك إلى عدم احترام المواطن للقانون وشيوع الفوضى وعدم الثقة في العدالة، فتتحول الحقوق إلى هبات للمدافعين عنها، وتنكرها على المعارضين لها، بل تصبح المعارضة لسفاهة الحكم وانحرافاته كفرا بأنعمه وطعنا في وطنية المعارض الخائن لوطنه، ما دام معارضا لحاكمه الذي يفتقر إلى كل شرعية.

في مثل هذه النظم تنقطع الصلة بين الشعوب والحاكم فينفرد بالعبث بمصيرها ويصبح الأمن هو الملجم لكل صوت يحتج, فإذا نظم المحتجون وقفة أو مظاهرة أو أي مظهر من مظاهر الضيق والاحتجاج لعل الحاكم يشعر بما فعله من ضرر لهذا الشعب، قمعها الأمن دون أن يفتح الحاكم كوة للحوار والفهم والمناقشة، على أساس أن الحاكم يحتكر الحقيقة وأن هؤلاء المحتجين هم -كما ردد كل المستبدين في كل العصور وآخرهم حتى الآن بن علي- قلة مأجورة مقدسة يحركها الخارج الحاقد على حالة الاستقرار والازدهار، أو كما يقول المصريون "مصر الأمن والأمان والاستقرار حتى بدون ازدهار", المهم الحاكم العاقل الرحيم الذي حول مصر إلى مقبرة للموتى، ومن الصعب أن يفزع الأمن من حديث الموتى وحركاتهم، لأن المعلوم أن الموتى لا يتحدثون ولا حتى يرقبون ما آلت إليه أوضاع الأحياء.

"
قانون الثورات يؤكد أن الحاكم مهما كان بطشه غير قادر على الاستمرار في القهر أو الخديعة, وأن الشعب غير قادر على المزيد من التحمل والصبر, والنتيجة هي أن يلفظ الحاكم أو يقتل
"

أمام هذا الاستعلاء واستعلاء الحاكم وشماتته في عجز الشعب عن مقاومته، وهو الذي يستخدم أموال الشعب وأدواته وأبناءه لاستدامة فساده والدفاع ضد المحتجين على مظالمه واحتكار السلطة والثروة معا، والاستعانة بأبواق فاسدة تثير الشعب ضده أكثر مما تقنعه، فلا يكون أمام الشعب إلا أن يضع يده بأي طريق نهاية لهذا النظام الذي ينتهي عادة إما بثورة شعبية تبيد النظام ورموزه أو تخلخل أركانه، أو بانقلاب بعضه على بعض، أو بتخلّي الأمن -أسنان الحاكم- عن نظام هم أول ضحايا ظلمه وعنته. والحاكم في مثل هذه الأحوال لا يهمه أن تحترق البلاد ما دامت نجاته هي الهدف، ولتسقط الدنيا كلها ليحيا هو بكل ما يمثله.

والحق أن ذلك هو قانون الثورات، فلا الحاكم -مهما كان بطشه- قادر على الاستمرار في القهر أو الخديعة ما دام فاسدا، ولا الشعب قادر على المزيد من التحمل والصبر، وتكون النتيجة أن يلفظ الحاكم أو يقتل.

والسؤال الكبير: لماذا لا يتعلم هؤلاء الحكام؟ ولماذا يبدأ الواحد منهم حكمه ذليلا منكسرا يرجو توفيق ربه، ثم يلتصق بالكرسي فتشيخ الأمة معه وتصاب بكل أمراض الشيخوخة، ويأبى أن ينصرف إلا قتيلا أو فارا ذليلا كما حدث مع بن علي؟

إن جميع المراهنات على أن النموذج التونسي غير قابل للتكرار في مصر رغم توافر دواعي تكراره، لا تريد أن تلتفت إلى القانون الذي أجرى ثورة تونس وغيرها من الثورات، فالمبدأ ثابت وصور تطبيقه تتغير.. تلك سنة الله في خلقه ولن تجد لسنته تبديلا.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان