الجريمة والعار

الجريمة والعار - الكاتب: مؤمن بسيسو

 

قضية منتهية
إرادة شعبية مغتصبة
مهنية وسقوط
مستقبل مشرق

يستحيل على ذوي الفطرة السليمة والعقل الرشيد تخيل -مجرد تخيل- حجم الارتكاس الذي بلغته سلطة رام الله في تعاطيها مع القضية الفلسطينية وحاضر ومستقبل الشعب الفلسطيني.

ما حدث فضيحة عارمة وعار بلا حدود وكارثة وطنية كبرى بكل المقاييس، ترقى إلى مستوى أم الجرائم في تاريخ البشرية المعاصر.

لا يمكن تجرع أو استسهال وصف جريمة العصر بحق الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية بكلمات مجردة أو عبارات سريعة في إطار مقال عابر، فما كشفت عنه "الجزيرة" من وثائق يدمغ سلطة رام الله -ومن ورائها حركة فتح- بالعار المحقق المستمر الذي لن يخمد تبعاته المبثوثة في كل الاتجاهات إلا موقف جديد ونهج جديد ينقلب على مواقف الجريمة والعار من الألف إلى الياء.

"
ما كشفت عنه "الجزيرة" من وثائق يدمغ سلطة رام الله -ومن ورائها حركة فتح- بالعار المحقق المستمر الذي لن يخمد تبعاته المبثوثة في كل الاتجاهات إلا موقف جديد ونهج جديد ينقلب على مواقف الجريمة والعار من الألف إلى الياء
"

قضية منتهية
ما حملته وثائق كشف المستور يشكل تصفية تامة ونهائية للقضية الفلسطينية من كل جوانبها. ما الذي تبقى من لب وجوهر وحتى تفاصيل القضية الفلسطينية حين تُمسخ قضية القدس مسخا بيّنا، وتنتهي قضية اللاجئين نهاية بائسة، ويعلو منطق الأمن واعتباراته فوق كل اعتبار، وتبدو السلطة وأجهزتها الأمنية –فقط- مشروعا أمنيا حصريا لخدمة وحفظ الأمن الإسرائيلي، ويبدو فيه المفاوضون أشبه بسماسرة وتجار في سوق النخاسة الاستسلامي حين يساومون على أشرف قضية عرفها التاريخ المعاصر، ويتنازلون عن حقوق وثوابت صبغت بدماء عشرات الآلاف من الفلسطينيين والعرب والمسلمين وأحرار العالم، واختلطت بآهات وأنات وجراحات وآلام الملايين في طول وعرض الوطن الفلسطيني، وعلى امتداد رقعة العالم العربي والإسلامي الكبير، وأينما تنبض القلوب الحية الموصولة بفلسطين وشعبها ومقدساتها على امتداد المعمورة؟!.

ملكت القوم المفاجأة واستحكمت عليهم مفاعيل الصدمة، فلم يعرفوا ماذا يقولون وبم يتحدثون وكيف يبررون، ولم يجدوا سوى اتهامات سخيفة لقطر وقيادتها لتحوير الأنظار عن المصيبة التي نزلت على رؤوسهم كالصاعقة المدوية، وشيء من تبريرات ساقطة وردود ميتة خرجت بلا روح من أفواه أصحابها والمتحدثين بها. في سياق حالة غير مسبوقة من الإرباك والاضطراب وزيغ القلوب والأبصار.

سادت التناقضات خطابهم السياسي والإعلامي الذي أعقب نشر الفضيحة، وبات كل منهم يجتهد بنصيب لدفع شيء من موجات الأذى والعار التي أغرقتهم في بحرها اللجّيّ، في إصرار صارخ على اجتراح الخطيئة وتبرير اقتراف الجريمة حتى النخاع.

من أغرب ما تفتقت عنه أذهان القوم ما زعمه البعض من أن الوثائق قد تمت فبركة بعضها، فيما ادعى البعض الآخر أن الوثائق -بما تضمه من محاضر اجتماعات تفاوضية- هي محض "دردشة" ولم تصل حد الاتفاق، وأنها خلطت بين الموقفين والرؤيتين: الفلسطينية والإسرائيلية.

لم يجرؤ هؤلاء على مصارحة شعبهم بأن هذه "الدردشات" والرؤى المطروحة كما يسمونها عبرت عن حقيقة الموقف الفلسطيني الرسمي، وأنها كانت قاب قوسين أو أدنى من التنفيذ فيما لو وافقت الحكومة الإسرائيلية عليها واعتمدت نتائجها.

اليوم -واليوم فقط- أدرك أبناء شعبنا الفلسطيني وأمتنا العربية والإسلامية، سر تعثر وانكفاء مسيرة المصالحة الوطنية الفلسطينية رغما عن كل محاولات إنجاحها واستنهاضها، وسر تمسك السلطة وحركة فتح بالهيمنة المطلقة على الملفين: السياسي والأمني، وحصر قضايا الحوار ضمن إطار الشق الإداري والتنفيذي فحسب بعيدا عن القضايا الجوهرية.

اليوم -واليوم فقط- أدرك الجميع حقيقة تهافت السلطة ومفاوضيها على صفقة بيع الحقوق والثوابت، واستعجالهم اللافت لطيّ ملف القضية وصفحة الصراع، وإصرارهم على التشبث اللا متناهي بالخيار الإستراتيجي الأوحد (خيار المفاوضات) إلى ما لا نهاية.

إنه سر البقاء وشرط الوجود السياسي، الذي جعل من بقاء السلطة وكيانها السياسي والإداري إدارة ذاتية ملحقة بالاحتلال وتعيش رهنا بمدى وحجم ما تقدّمه من تنازلات، وما تبذله من جهد أمني لوأد أي خروج على قانون المحتل وكيانه المصطنع وشرعته الفاشية.

"
لعل من أخطر ما حملته الوثائق الفاضحة ذلك العدد بالغ المحدودية الذي يتحكم في مصير الوطن والشعب والقضية، والذي لا يتجاوز أصابع اليدين إن لم يكن أصابع اليد الواحدة
"

إرادة شعبية مغتصبة
لعل من أخطر ما حملته الوثائق الفاضحة ذلك العدد بالغ المحدودية الذي يتحكم في مصير الوطن والشعب والقضية، والذي لا يتجاوز أصابع اليدين إن لم يكن أصابع اليد الواحدة.

تحرك المفاوضون بهوى كامل ودون مرجعيات، وأعملوا في جسد القضية ذبحا وسلخا وتقطيعا، وعبثت أمزجتهم الخاصة في تفاصيل قضية الأمة الأولى التي اندلعت من أجلها ثورات، وحدثت نكبات ونكسات، واختزنت أبعاد صراع كبرى، عقديا ووجوديا، وانخرطوا في معمعة شكلية لا قيمة لها دون أن يتحلوا بالقدر الأدنى -أو حتى الأبسط- من فهم أحداث التاريخ واستيعاب تجارب الشعوب ودراسة تضاريس السياسة والواقع.

لم يسأل هؤلاء النفر أنفسهم سؤال التمثيل والتفويض الشعبي، فقد كانوا يدركون الإجابة سلفا ولا حاجة لهم في تسميم أبدانهم باستذكارها واستحضارها، لكن غرورهم الفادح حجب عنهم نور الحقيقة الساطعة المشعة، والمنبعثة من قوة الإرادة الشعبية الرافضة لنهج التصفية والتنازلات والاستسلام لإرادة وإملاءات المحتل الغاصب، وأبدلهم بثقة زائفة يسترون بها حقائق الواقع ويغطون بأوراق توتها عورة الفضيحة والفشل الذي أورثهم الهوان والصغار، وقادهم من فشل إلى فشل ومن سقوط إلى آخر، حتى باتوا مستودعا للفشل والسقوط الوطني المريع.

أي تمثيل أو تفويض يدّعيه المفاوض الفلسطيني المبجل حين يطحن عن عمد حقوق شعبه، ويمتهن اللقاءات السوداء والظهور أمام الكاميرات وعدسات التلفزة متوشحا بابتسامات خبيثة مع القتلة الصهاينة الذين بنوا كيانهم الغاصب على جماجم شعبنا، ويتعامل بخفة واستخفاف مع قضايا خطيرة تحدد مصير الوطن ومستقبل أبنائه، متهالكا على استرضاء المحتل وراء الأبواب المغلقة، ثم لا يجد أدنى حرج أو غضاضة في قلب الوقائع وتزييف الأحداث ونفث الزور والبهتان أمام الناس والرأي العام؟!.

مزاعم التمثيل والتفويض التي أرهقت السلطة و"فتح" أسماعنا بها دهرا انتهت اليوم إلى غير رجعة، ولم تعد تقوى على الصمود أو الانتصاب في وجه جريمة كسر المحرمات، وهتك عرى كل الخطوط الحمر التي أضحت اليوم خطوطا بيضاء مستباحة مع سبق الإصرار والترصد.

ذهبت منظمة التحرير المختلف أصلا في شرعية تمثيلها إلى زوايا النسيان، واندثرت كل الهالة التي أحيطت بها مقولاتها وشعاراتها الكبرى التي اتضح أنه لم يكن لها من الواقع حظ ورصيد. ذهبت سلطة رام الله أيضا إلى مهاوي الردى بعيدا عن شعبها وقضيتها، ولم يعد لها في أفئدة الشعب والناس موئل ومكان، فقد سلكت نهج التعاون الأمني مع الاحتلال المفضي إلى ضرب واستهداف مقاومة شعبها، ولم يطرف لها جفن حين تواطأت على حرب غزة وتشديد الحصار عليها.
  
انتهت منظمة التحرير اليوم بالضربة القاضية، وانتهى معها عهد الهياكل المحنطة والأجسام الهامدة والكيانات الخاوية التي يتم استدعاؤها فقط حين الحاجة لإسباغ شرعية زائفة على موقف متهالك أو سياسة خانعة أو ممارسة بائسة، أو بغرض الاستقواء والاستعراض الشكلي الذي لا يسمن ولا يغني من جوع.

وبسقوط منظمة التحرير تسقط الزمرة المتفاوضة التي اختبأت خلفها وتدثرت بشرعيتها، وتسقط معها مرحلة ادعاء التمثيل بكل عناوينها المزركشة ومضامينها الفارغة، ولا يتبقى سوى هيكل سلطوي خرب لا تحوم حوله سوى أسراب المنتفعين وأرباب المصالح الخاصة الذين نزعوا القيم الوطنية والدينية والأخلاقية تماما من أجندتهم الطافحة بنذر العفن والخراب. 

"
ظللت المهنية التامة أداء "الجزيرة" في تغطيتها الكاشفة خلال الأيام القليلة الماضية، لكن القوم الذين كبلهم العجز وأذهلتهم المفاجأة لم يواجهوا الأداء المهني النظيف بأداء مقابل، بل أرغوا وأزبدوا وأطلقوا التهديد والوعيد بحق "الجزيرة"
"

مهنية وسقوط
تعيش "الجزيرة" اليوم عصرها الذهبي، فهي المرة الأولى التي تنظم فيها الشبكة حملة إعلامية على هذا المستوى منذ تأسيسها، والمرة الأولى التي تتمكن فيها من كشف وثائق بالغ الحساسية والخطورة تتعلق بقضية من أخطر قضايا العرب والمسلمين والعالم.

ظللت المهنية التامة أداء "الجزيرة" في تغطيتها الكاشفة خلال الأيام القليلة الماضية، لكن القوم الذين كبلهم العجز وأذهلتهم المفاجأة لم يواجهوا الأداء المهني النظيف بأداء مقابل، بل أرغوا وأزبدوا وأطلقوا التهديد والوعيد بحق "الجزيرة"، وسولت لهم أنفسهم المريضة التطاول بكل وقاحة على قطر وأميرها صاحب السيرة البيضاء النظيفة واليد الطولى في دعم وخدمة الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية.

تميزت تغطيات "الجزيرة" في كشف المستور بشفافية عز نظيرها ومعالجات مهنية يغلفها التوازن والموضوعية، فقد حرصت على عرض الوثائق بشكل مجرد بعيدا عن أي تلوين أو توظيف سياسي، وانتقت ثلة من كبار المؤرخين والمحللين لدراستها واستخراج زبدتها بكل نزاهة واقتدار، واختارت لعرضها على الشاشة الصغيرة مجموعة من أمهر مذيعيها المحترفين الذين بسطوا صدورهم وقلبوهم لطرح الحقائق وما يرتبط بها من تبعات، والآراء وردود الفعل المختلفة حولها، واستضافت دوما قادة ومسؤولين من الطرف الآخر (السلطة و"فتح") للدفاع عن وجهة نظرهم، وبيان رأيهم في الوثائق المعروضة دونما أي قطع أو اعتراض.

حين تستمع إلى اتهامات القوم للجزيرة تصاب بالغثيان وتفجعك ضراوة السقوط الوطني والأخلاقي والإنساني الذي يؤسس على الخطايا خطايا أخرى، ويستجلب على مصائبه مصائب جديدة، ويتوسع في سلوك سبل الجريمة المنظمة ضد الشعب المكلوم وقضاياه الكبرى.

لا تثريب على "الجزيرة" اليوم، فقد أبلت بلاء حسنا وأدت دورها المهني بكل أمانة ومسؤولية، ولم تتجاوز حدود أخلاقيات المهنة ومعاييرها المعروفة، فيما الطرف الآخر يرتعد خوفا من تبعات جريمته التي تكشفت فصولها تباعا، ويخرج في كل يوم بتهديدات سافرة وارتباكات جديدة وتصريحات متناقضة، تحاول التخفيف من حجم الفضيحة المدوية التي ظن القوم أنها ستبقى مواراة إلى الأبد.

ولن نفاجأ إذا تهور القوم وأثمر تحريضهم على "الجزيرة" اعتداء على مكاتبها ومساسا بطواقمها، فهذا ديدنهم الذي درجوا عليه طيلة تاريخهم، إذ إن اشتعال الغضب في نفوسهم وإعلانهم النفير العام -ثأرا لكرامتهم المتبددة وصورتهم المشوهة- كفيل بقلب معادلاتهم ونفاد صبرهم المزعوم الذي يحاولون تصويره وهماً برسم حماية الشرطة لمكاتب الجزيرة، تحقيقا لأهداف مفضوحة ومكاسب مكشوفة.

"
إن كشف المستور أشبه ما يكون بهدية ثمينة ألقيت في حجر شعبنا الفلسطيني، وبثت في وعيه أدلة التخاذل لقادة سلطته الذين أشبعوا الدنيا صراخا وعويلا حول مشروعهم الوطني
"

مستقبل مشرق
لا عجب أو استغراب من استلهام مستقبل مشرق للوطن والقضية، فما جرى خلال حملة كشف المستور يشكل الضربة القاصمة لأرباب التنازل والفساد والاستسلام، وخطوة متقدمة على طريق إرساء إستراتيجية وطنية موحدة يجمع عليها الكل الفلسطيني، وترسم لهم طريق النصر والحرية والانعتاق من نير وجبروت الاحتلال.

 إن كشف المستور أشبه ما يكون بهدية ثمينة ألقيت في حجر شعبنا الفلسطيني، وبثت في وعيه أدلة التخاذل لقادة سلطته الذين أشبعوا الدنيا صراخا وعويلا حول مشروعهم الوطني الذي تكشف اليوم أوضح ما يكون بيعا للأوطان وارتباطا بمصير الاحتلال.

الطريق إلى الحرية وإنجاز الاستقلال الوطني ما زال طويلا، لكن هناك فرق كبير بين أن تستحث الخطى والنضال لتصدمك صوادم الداخل المتسترة بالوطنية المدعاة، وبين أن تشق طريق كفاحك على أرضية صلبة متسلحا بأوسع جبهة وطنية في وجه الاحتلال، ورؤية موحدة للهدف والمسار.

مع كشف المستور يدخل الوضع الفلسطيني منعطفا جديدا، وتتمخض أحداثه الفاضحة عن مآلات قاسية ومتوقعة لزمرة الجريمة والعار، لتطوي صفحة سوداء من صفحات الوطن والقضية، وتؤرخ لعهد جديد وقويم من النضال في إطار مسيرة التحرر الوطني الفلسطيني للخلاص من الاحتلال وبناء الكيان الوطني النقي من أدران الفساد والإجرام، والمستقل عن تدخلات وإملاءات وعلائق الآخرين. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.