مغزى الانتحار الاحتجاجي في تونس

العنوان: مغزى الانتحار الاحتجاجي في تونس



الموت التراجيدي كحل أقصى
الانتحار مؤشر عن تعطل النظام


حركة الاحتجاج الاجتماعي الأخيرة التي انطلقت من منطقة سيدي بوزيد، لتمتد في عديد جهات البلاد التونسية، ليست بجديدة كما هو معلوم. فقد سبقتها أحداث الحوض المنجمي سنة 2008 وكذلك أحداث مدينة بنقردان في الجنوب الشرقي خلال هذه السنة.

كما أن الاحتجاج بوجه عام ليس بجديد على الساحة التونسية. فقد سبقت الاحتجاج الاجتماعي الحالي حركات فردية نخبوية تجسدت في بعض الشخصيات مثل الصحفي توفيق بن بريك والمحامية راضية النصراوي وغيرهم عديدون.

نقطة الالتقاء بين مختلف هذه التحركات الاحتجاجية هي تحريك الموت كلحظة درامية، سواء عبر إضراب الجوع أو عبر الانتحار، في عملية الاحتجاج. الواضح أن درامية معاناة المحتجين ليست إلا انعكاسا لدرامية الواقع السياسي والاجتماعي الذي سد كل منافذ الممكن والمأمول.

الموت التراجيدي كحل أقصى

"
الاحتجاج الاجتماعي والسياسي في تونس رفع خيار الموت الاختياري في وجه السلطة من خلال إضراب الجوع أو من خلال تنفيذ الانتحار
"

ربما تتميز الحالة التونسية بهذه الخاصية المتمثلة في استحضار إمكانية الموت كوسيلة للاحتجاج. فالاحتجاج الحالي كان في جانب منه تواصلا، أو ربما نتيجة، لعمليات الاحتجاج النخبوي الفردي التي ابتدأتها جملة من المعارضين مثل بن بريك والمرزوقي والهمامي وبن سدرين.

ويبدو أنه إضافة إلى ترسيخ تقليد الاحتجاج ضد نظام السابع من نوفمبر/تشرين الثاني 1987، فإن الاحتجاج النخبوي رسخ كذلك تقليدا فريدا يتمثل في التضحية الفعلية بالذات في سبيل القضية المطروحة.

وكأن لسان حال المحتجين يقول للحاكم قد تستطيع أن تملي علي ما تشاء لكن بإمكاني في النهاية أن أعلن موتي وأرفض سلطتك باختفائي. هكذا كانت رسائل إضرابات الجوع المتكررة والتي حذق فن إداراتها نخبة من المعارضات والمعارضين التونسيين خاصة خلال التسعينيات.

تقودنا هذه الملاحظة الأولى إلى نفي التعارض بين العمل النخبوي الفردي والعمل الجماهيري الجماعي لأن التعارض، على الأقل في هذه الحالة، تعارض مفتعل.

انتقل الاحتماء بالموت لفرض حق الحياة إلى الأوساط الشعبية وبالأخص في الجهات الهامشية جغرافيا واقتصاديا واجتماعيا (الوسط الغربي والجنوب).

فقد شهدت مدينة الرديف موت شاب في مقتبل العمر عندما عرّض نفسه للموت في مركز للتحكم في توزيع الكهرباء. كما كانت محاولة انتحار شاب ذي مؤهل جامعي وعاطل عن العمل نقطة انطلاق لموجة الاحتجاج في سيدي بوزيد. وتبع هذه الحالة محاولات أخرى في مدن مجاورة لم يتم حصرها بشكل دقيق.

المهم أن الاحتجاج الاجتماعي والسياسي في تونس رفع خيار الموت الاختياري في وجه السلطة من خلال إضراب الجوع أو من خلال تنفيذ الانتحار. خيار لم يكن معروفا خلال الفترة البورقيبية مثلا. وهو ما يستدعي وقفة لفهم مغزى هذا الخيار وعلاقته بالوضع العام في تونس. لسبر أغوار رمزية هذا الخيار الدرامي علينا اللجوء إلى علم اجتماع الانتحار كخطوة أولى لرصد البعد النظري ثم العودة به إلى الحالة التونسية من خلال الواقع والأحداث الحالية.

لا بد من التفريق منذ البداية بين الانتحار الاحتجاجي الفردي، وهو ما يهمنا في هذا المجال، وبين العمليات الانتحارية مثل الكاميكاز الياباني أو الاستشهاد الفلسطيني. فغاية الانتحار الفردي الاحتجاجي إبراز درامية الوضع من خلال تبني الموت الدرامي. أما في الحالات الأخرى المذكورة فالهدف عسكري بالأساس ويهدف إلى إيقاع أكثر عدد من الضحايا. فالفرق واضح بين رمزية الدراما وتكتيك العمل العسكري.

في الحالة التي تهمنا، يعلن الانتحار حالة من القطيعة الراديكالية بين الفرد والمجموعة مما يضع مختلف الأطر الاجتماعية والسياسية موضع شك. إذ هو نفي، أو تحييد مؤقت، للعائلة وللدين وللدولة وللقانون. وهو في ذات الوقت تحد للخوف من خلال تحدي العقوبات القصوى مثل التعذيب والإعدام والقتل (أي وسائل القمع).

"
قصة محاولة الشاب في سيدي بوزيد تلخص مختلف مراحل انسداد النظام: فهو غير قادر على توفير فرص الشغل، وهو لا يقبل بإيجاد حلول خارج إطاره كما أنه يرفض حق التعبير عن الألم الاجتماعي
"

من خلال الانتحار يعلن المحتج كذلك في وجه السلطة أنه يبقى في النهاية المتصرف الوحيد في جسده وبالتالي في حياته. فقد تفرض السلطة خيارها لكنها لا تستطيع أن تجبر الفرد على الالتزام به. وكأن حال الشاب الذي أقدم على الانتحار في سيدي بوزيد يقول، بإمكانكم تهميشي وحرماني من لقمة العيش ومنعي من الكلام، لكنكم غير قادرين على فرض خياراتكم هذه علي.

ومن هنا نأتي إلى بعد آخر لا يقل أهمية في هذا الانتحار الاحتجاجي ويتمثل في رسالة الاتهام الموجهة للسلطة، وربما للمجتمع كذلك، لتحملها كل المسؤولية عن النهاية التراجيدية للفرد.

إننا بالفعل أمام حالة فريدة من خلال تعدد حالات الانتحار الاحتجاجي المعلن. وهو وضع مرتبط بطبيعة النظام القائم كما يعكس في نفس الوقت حالة العطل التي أصبح عليها هذا النظام. اليأس والخوف والتحدي التراجيدي كلها مؤشرات ملموسة على انخرام العلاقة بين السلطة والمجتمع وبالتالي على انسداد أفق النظام الذي بشر التونسيين بغد جديد فجر السابع من نوفمبر/تشرين الثاني.

قصة محاولة الشاب في سيدي بوزيد تلخص مختلف مراحل انسداد النظام: فهو غير قادر على توفير فرص الشغل، وهو لا يقبل بإيجاد حلول خارج إطاره كما أنه يرفض حق التعبير عن الألم الاجتماعي. هذه عناصر الانسداد الاجتماعي المؤشرة على إمكانية الفلتان.

الانتحار مؤشر عن تعطل النظام
يقول المثل ألف رفض خير من وعد كاذب. وينطبق هذا تماما على الحالة التونسية. فقد قبل التونسيون بورقيبة ورفضه المعلن للحريات السياسية وللديمقراطية في فترة ما. لكن تعدد حالات الانتحار الاحتجاجي الحالي تبين أن التونسيين وخاصة الشباب منهم قد نفد صبرهم من وعود السلطة ودعايتها الزائفة حول السلم والطمأنينة والنمو الاقتصادي.

فشتان بين مادة الإعلام التي تقدم البلاد كنموذج رائد في التنمية وبين ما يشهده المواطن في حياته اليومية خاصة في تونس الداخلية المهمشة من انسداد الأفق والاحتياج وغياب الأطر الشبابية والحرمان من حق التعبير إضافة إلى المحسوبية وحكايات الفساد التي لا يخلو منها حديث.

في الانتحار الاحتجاجي كذلك رسالة مفادها رفض التعبير عن اليأس والاحتجاج من خلال العنف الخارجي الموجه ضد السلطة وضد رموزها. لكنه يعكس في العمق مدى خوف الفرد من مواجهة سلطة عملت طوال عقدين، أو ربما أكثر، على تسيير شؤون الدولة والنظام ككل من خلال الترهيب المباشر وغير المباشر.

"
في الانتحار الاحتجاجي رسالة مفادها رفض التعبير عن اليأس والاحتجاج من خلال العنف الخارجي الموجه ضد السلطة, لكنه يعكس في العمق مدى خوف الفرد من مواجهة سلطة الترهيب
"

سياسة تتعارض مع الطبيعة السلمية لمجتمع يفضل الاعتدال السياسي وحتى المحافظة على التغيير غير المضمون. وهي خاصية تفهم ضمن الدور التاريخي الذي لعبته النخبة منذ نهاية القرن التاسع عشر. وهي نخبة مثقفة ومنفتحة ترسخت لديها مفاهيم المؤسسات والقانون. هذه النخبة التي لم تلق من السلطة الحالية سوى التهميش والإقصاء وعوضتها فئة طفيلية من الأثرياء الجدد.

سبق القول بأن اختيار الموت كحل أقصى من طرف الشباب العاطل في تونس هو مؤشر على عطل النظام القائم، والحديث عن النظام هنا يشمل السلطة وكذلك المجتمع. وكي نقترب أكثر من مظاهر هذا العطل وما أدى إليه من مواجهات سنستلهم من بعض مبادئ نظرية النظامية la systémique كي نقف على أهم جوانب المسألة. وتحليلنا هذا لا يختص بالحالة التونسية بل ينطبق كذلك على الحالات العربية الأخرى.

كي نتحدث عن نظام متوازن (un système équilibré) لا بد من توفر جملة من الشروط التي تؤمن كذلك ديمومته. ويعد عنصر التنوع من أهم هذه الشروط. فهو يوفر للنظام (أي البلاد ككل في هذه الحالة) مخزونا يمكنه من تحقيق التوازن بين العناصر كما يضمن سهولة التأقلم مع الظرفيات الصعبة.

الواقع التونسي العام أبعد ما يكون عن هذا الرسم النظري. فالتنوع الجهوي لا ينعكس من خلال السياسة الاقتصادية للدولة التي ركزت على خصخصة القطاع العمومي في ظروف غامضة. ففي حين تركزت أهم المشاريع في الشريط الساحلي بقيت جهات تونس الداخلية مهمشة وتحت رحمة أقلية محلية متنفذة من الحزب الحاكم توظف الولاء الجهوي والقبلي لخدمة مصالحها وتأطير المجتمع. نحن إذن أمام حالة تنظيم يفتقد إلى التنوع مما جعله ينتهي إلى حالة من الانسداد البيروقراطي وما يتبعها من محسوبية.

نضيف إلى هذا أن الرؤية الأحادية للسلطة، سواء في مجال الخيارات التنموية (خصخصة مشبوهة) أو في مجال التنظيم السياسي (هيمنة الحزب الواحد والقائد الرمز) هي دون مستوى تنوع حاجيات المجتمع (التشغيل، العيش الكريم والحريات) ودون مستوى التنوع الذي يوفره المحيط المحلي والعالمي (تداول على السلطة، حرية الصحافة، حرية التنظم…).

ولهذا السبب فهي غير قادرة موضوعيا على مراقبة وعلى إدارة النظام الكلي (دولة ومجتمعا) إلا من خلال العنف والإكراه مما يزيد في تعطل النظام وزيادة خطر الفلتان الاجتماعي.

كل نظام (بالمعنى العام) يعيش ضمن محيط (environnement) يؤثر فيه ويتأثر به. وكلما زاد التبادل مع المحيط زادت فرص التطور والتنوع. وكل نظام يحد من تدفق تيارات التبادل مع محيطه ينتهي إلى الانطواء وإلى الانسداد وحتى إلى الزوال.

وتقول النظرية كذلك إن كل نظام يتبادل مع محيطه المادة والطاقة وكذلك المعلومات. إذا أخذنا الحالة التونسية نموذجا، وهي تنطبق على الحالة العربية عموما، نجد التبادل مع المحيط يقتصر فقط على المادة ممثلة في تيارات السلع والأموال والحرفاء. في حين تسد كل الأبواب في وجه تبادل الطاقة التي يمكن أن تكون في هذه الحالة أنماط الوعي وتجارب التنظيم والانفتاح إلى غير ذلك.

كما تسد الأبواب في وجه تبادل المعلومات من خلال تكميم أفواه الصحفيين ومراقبة الإنترنت أو كذلك بإنتاج معلومات مشكوك فيها، مثل نسبة البطالة ونسبة الفقر مثلا.

تعيش السلطة في تونس، وكذلك باقي البلدان العربية، معضلة هذا التناقض بين حاجتها الماسة للانفتاح الاقتصادي وتحييد المجتمع عن التأثر بالمحيط. وهي سلطات غير واعية تماما بتغير المعادلة التي تتحكم في وعي الأفراد والمجموعات. إذ لم يعد هؤلاء الأفراد والمجموعات في حاجة إلى المرور عبر قنوات الدولة للاتصال بالمحيط، وأنه أصبح بإمكانها التواصل مباشرة مع محيطها عبر الإنترنت مثلا. هنا نفهم تأخر وبدائية الإعلام التونسي، الرسمي منه وشبه الخاص، في التعامل مع الأحداث الأخيرة.

"
ما يحصل من احتجاج اجتماعي في تونس هو تعبير عن انسداد هيكلي لأفق السلطة القائمة حاليا, قد لن يأتي أكله على التو لكنه أسقط عقدة الخوف السلطوي من ناحية كما بين إمكانية انفلات المجتمع في أية لحظة من ناحية أخرى
"

تعتبر نظرية الأنظمة المعقدة (systèmes complexes) أن من بين العناصر الأساسية التي تكون نظاما ما نجد شبكة تبادل الطاقة والمعلومات بين العناصر المكونة له. التطبيق العملي لهذا المعطى النظري يفترض وجود تبادل ما بين السلطة والمجتمع، أما واقع الحال فيقول إن هذا التبادل يقتصر على فرض المعلومة الرسمية على المواطن واقتصار تبادل الطاقة على فرض الهيمنة والإكراه.

فالعلاقة شبه أحادية من الأعلى السلطوي تجاه القاعدة الاجتماعية. ويتم هذا التبادل السلطوي الأحادي في ظل غياب تام للمؤسسات الجمعوية والحزبية المستقلة التي بإمكانها أن تلعب دور همزة الوصل لضمان التأقلم وتعديل العلاقات وتفادي انهيار التنظيم ككل (أي الدولة في حالتنا).

ما يحصل من احتجاج اجتماعي في تونس هو إذن تعبير عن انسداد هيكلي لأفق السلطة القائمة حاليا. قد لن يأتي أكله على التو لكنه أسقط عقدة الخوف السلطوي من ناحية كما بين إمكانية انفلات المجتمع في أية لحظة.

على السلطة كذلك أن تقتنع بأن تكرار الانتحار الاحتجاجي يحمل في طياته تبسيطا للموت، وهو وضع قد يهيئ إلى انتشار العنف الشامل. لا بد من الاعتراف بوجود مجتمع مدني مستقل قادر على خلق التوازن داخل التنظيم العام وإثراء التنوع السياسي والفكري. لكن يبدو أن الحزب الحاكم والقائمين عليه غير مستعدين لمثل هذا الحل.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان