تونس وتعريف المجتمع الدولي

– التعريف القانوني
– شرعية القانون
– ما هو المجتمع الدولي؟
– دول خارج النظام
تترد عبارة المجتمع الدولي على ألسنة العديد من حكام العالم بخاصة حكام أوروبا وأميركا، وعلى ألسنة عرب كثيرين، وفي وسائل الإعلام المختلفة. وتتكرر العبارة إلى درجة أن أغلب الناس باتوا يعتقدون أن هناك بالفعل مجتمعا دوليا، ومن المفروض مراعاة متطلباته ومشاعره ومواقفه.
وأضحى بعض الناس فريسة للعبارة بحيث إن محتواها غير الواضح أصبح ملزما وواجب الطاعة، وأن من يعاندها يكون قد خرج عن نطاق الفهم والعقلانية، وكأنها أصبحت قدرا من نوع ما، ويترتب على مخالفته تجريم وعقوبات.
سألت طلابي الجامعيين هل يستطيع أحدهم تعريف المجتمع الدولي. عجزوا جميعا عن الإتيان بتعريف، على الرغم من أن بعضهم تحدث عن تجمع دول، أو بعض دول في الغرب والشرق. وقد قال أحدهم إن المجتمع الدولي هو كل الناس في كل العالم.
لقد سمعوا العبارة مرارا وتكرارا، لكنهم لم يهتدوا إلى تعريف واضح، ولم يهتدوا بتاتا إلى متطلبات هذا المجتمع، أو إلى أوامره ونواهيه. وربما لو سألنا بعض وسائل الإعلام التي تردد العبارة لعجزت هي الأخرى عن تعريف ما دأبت على استخدامه.
هل كانت تونس من المجتمع الدولي، أم أنها كانت على هامش هذا المجتمع؟ ربما لم تكن حكومة تونس، لكن الشعب التونسي كائن، وأثبت دوره في صناعة التاريخ، ووقفت أمامه دول عظيمة تتمسك بما يسمى المجتمع الدولي عاجزة لا تلوي على شيء. لقد تربعت دول استعمارية ودولة الصهاينة على عرش القرار التونسي، لكن إرادة الشعب صنعت مجتمعا دوليا مختلفا عن الذي يتخيلونه.
التعريف القانوني
يعطي بعض فقهاء القانون الدولي تعريفا لعبارة المجتمع الدولي على أنها جميع الدول الأعضاء في هيئة الأمم المتحدة، وكل دولة عضو في الأمم المتحدة هي تلقائيا عضو في المجتمع الدولي.
هذا على اعتبار أن الأمم المتحدة هي أوسع منظمة عالمية من ناحية العضوية، ولا توجد أي منظمة دولية أو إقليمية أخرى تتسع لعدد من الدول مثلما تتسع له الأمم المتحدة.
ووفق ميثاق الأمم المتحدة، كل دولة عضو هي دولة مستقلة ذات سيادة، ويجب احترام إقليمها الجغرافي، واحترام ما يصدر عنها من قوانين لتنظيم شؤونها الداخلية. وما دامت الدولة قد قبلت أن تكون عضوا في الأمم المتحدة، فإنها تحترم ميثاق المنظمة وتدافع عن تطبيقه.
" إذا كان القانون الدولي هو قانون الأقوياء، فإن المجتمع الدولي هو مجتمع الأقوياء. الأقوياء هم الذين يقررون، وهم الذين يمنحون ويحرمون، يعطون ويمنعون " |
فإذا جاز أن نتحدث عن قانون دولي، فإن المجتمع الدولي يشمل كل دولة تتقيد بميثاق الأمم المتحدة، على اعتبار أن هذا الميثاق يعتبر أساس القوانين الدولية، أي أن تنزانيا والنيجر وغواتيمالا ونيبال والبحرين وتشيكا وغيرها أعضاء في الأمم المتحدة، ومن المفروض أن جميع الدول تحظى بذات الاحترام وذات القيمة. أي أن مقولة أن الناس متساوون أمام القانون يمكن تحويلها قليلا لتصبح أن الدول متساوية أمام القانون.
يشمل المجتمع الدولي أيضا منظمات دولية وإقليمية أخرى منبثقة عن الأمم المتحدة، أو تتقيد في مواثيقها بميثاق الأمم المتحدة، أو تستند إلى مواثيق وإعلانات تحترم سيادة الدول ولا تتناقض مع ميثاق الأمم المتحدة.
فمن المفروض أن تكون منظمة العفو الدولية ومنظمة اليونيسكو ومحكمة العدل الدولية جزءا من المجتمع الدولي من الناحية القانونية، أو على الهامش الحلال أو المقبول للمجتمع الدولي، ومن المفروض أيضا أن تكون الجامعة العربية والاتحاد الأوروبي ومنظمة الدول الأفريقية جزءا من المجتمع الدولي، أو على الهامش الحلال أو المقبول في هذا المجتمع.
ومن المفترض أيضا أن تكون حركات وتنظيمات تعمل على تحرير أوطانها ورفع الظلم عن الناس متمتعة بمكانة الحلال أو القبول من قبل هذا المجتمع.
فمثلا من المفروض أن تكون حركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية قانونية من ناحية ميثاق الأمم المتحدة لأنها تكافح الاحتلال الذي هو مرفوض من قبل القانون الدولي.
ومن المفروض أيضا أن المقاومة العراقية وطالبان قانونيتان لأنهما تكافحان الاحتلال الأميركي. لكن هل هذا مقبول من قبل ما يسمى بالمجتمع الدولي في هذه المرحلة التاريخية؟
شرعية القانون
لكن السؤال الذي يطرح نفسه يتعلق بمدى شرعية ميثاق الأمم المتحدة أو بصورة أوسع، شرعية القانون الدولي.
إذا نظرنا إلى نشأة القانون الدولي نجد أن الدول القوية هي التي صاغت هذا القانون، سواء على مستوى عصبة الأمم أو الأمم المتحدة.
الدول المنتصرة في الحروب هي التي وضعت القانون والمواثيق، ولم يكن للدول المهزومة أو الدول الضعيفة دور فاعل في وضع القانون، بل كان لها دور هامشي جدا لا يرتقي إلى درجة التأثير.
ومن المعروف تاريخيا أن القوي هو الذي يضع القانون، وهو الذي يفسر القانون، وهو الذي يراعي مصالحه الذاتية في كتابة القانون. تاريخيا، القانون يعكس وجهة نظر ومصالح القوي، على الرغم من أنه قد يلتفت لمصالح الضعيف من قبيل الرحمة والشفقة.
وإذا تعارض القانون مع مصلحة القوي، فإن القوي يخرقه أو يتجاهله أو يعدله، وهو يملك مختلف الإمكانات لعمل ذلك، ولا يجد من يقف في طريقه. أما الضعفاء، فغالبا يلجؤون إلى فلسفة الأشياء وإعطائها الأبعاد الأخلاقية، وتبيان الأوجه اللاإنسانية لممارسات الأقوياء.
الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية هي التي وضعت ميثاق الأمم المتحدة، ولا أرى أن الأردن أو نيجيريا أو ألبانيا أو البرتغال قد ساهمت في المداولات بشكل فاعل، أو كانت لها كلمة مؤثرة في صياغته.
الأقوياء هم الذين صاغوا الميثاق، وهم الذين قرروا أن يكون لكل واحد منهم حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن.
لقد أعطوا عضوية متساوية في الجمعية العامة، لكن دون أن يكون للجمعية العامة قدرة تنفيذية بدون إرادة الأقوياء، وأكبر دليل على ذلك القرار رقم 181 الذي قضى بتقسيم فلسطين، وحصلت إسرائيل على ما هو أكثر من نصيبها، والقرار رقم 194 الذي قضى في أحد بنوده بعودة اللاجئين الفلسطينيين ولم يجد طريقا إلى التنفيذ.
القرار الأول كان مدعوما من الأقوياء، والقرار الثاني لم يستند إلا على صراخ الضعفاء.
المعنى أن القانون الدولي هو من صياغة الأقوياء، أي يعكس شرعة الغاب، وليس شريعة الإنسان العاقل الحكيم الذي يبحث عن العدل.
لا يقوم القانون الدولي على مبادئ العدالة، وإنما على مبدأ القوة، ولهذا فهو قانون غير شرعي. وعليه فإن ما دأب الكثيرون في العالم على وصفه بالشرعية الدولية ليس إلا شرعة القوي، أو شرعة الذئاب، ولا يمكن لهذا الوصف أن يكون حقيقيا إلا إذا استند إلى أسس العدالة التي لا يضعها زعماء الدول القوية، وإنما خبراء في الفلسفة والقانون والأخلاق مستقلون ويعملون وفق أبعاد إنسانية لا وفق أبعاد استغلالية أو انتهازية.
ما هو المجتمع الدولي؟
إذا كان القانون الدولي هو قانون الأقوياء، فإن المجتمع الدولي هو مجتمع الأقوياء. الأقوياء هم الذين يقررون، وهم الذين يمنحون ويحرمون، يعطون ويمنعون، يعاقبون ويكافئون، ينصّبون ويقيلون، وهم بالتالي السادة، وغيرهم العبيد، أو ربما يكون بعضهم على الهامش دون استعباد.
" يفترض الأقوياء أن الشعوب تساق كالغنم إلى الحظيرة، وهي في النهاية لا تقرر، ومصيرها مربوط بزعماء مصنعين يخدمون سادتهم لقاء بقائهم في الحكم " |
ومن الممكن القول مجازا الآن إن المجتمع الدولي هو الولايات المتحدة وروسيا والصين وبريطانيا وفرنسا، على اعتبار أن هذه الدول تملك حق النقض في الأمم المتحدة. قد يكون من الدول الأخرى من له شأن، لكن أغلب الدول لا تقترب من هذا الشأن.
وإذا كان لنا أن نراجع مسألة أصحاب الشأن عبر التاريخ، نجد أن الأقوياء الأثرياء في مختلف المجتمعات هم الذين امتلكوا القرار، وأن باقي الناس كانوا مجرد رعايا يطيعون ويسمعون الكلام، وإلا لاقوا المصائب والأهوال.
هذا العالم الذي نحن فيه الآن ليس مختلفا عن التقليد التاريخي الذي لا يشكل فيه الضعيف لاعبا أساسيا في صياغة القانون أو اتخاذ القرار أو الإدارة. الضعيف ليس هو المجتمع، وإنما هو أداة المجتمع الذي يتشكل من الذين يقررون.
في الساحة الدولية الآن، هناك تراجع لمكانة وتأثير بعض القوى المتنفذة مثل فرنسا وبريطانيا وروسيا، وهناك سطوع كبير لنجم الولايات المتحدة، التي انفردت بمكانة القوة الأولى أو الوحيدة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي.
وهذا يعني أن عبارة المجتمع الدولي تكاد تنحصر الآن في الولايات المتحدة من حيث إن تأثيرها قوي على أغلب دول العالم، وهو في الغالب نافذ.
لكن من ناحية أخرى، تتأثر سياسة الولايات المتحدة بآراء ومواقف دول أخرى حليفة وغير حليفة، لكنها تتأثر بصورة مباشرة وقوية في مجالات معينة بسياسة إسرائيل ومواقفها.
صحيح أن إسرائيل ليست من الدول العظمى، لكنها تملك قدرة على التأثير في السياسة الأميركية بسبب مكانتها الخاصة في المجتمع الأميركي، وبسبب أدوات الضغط التي تملكها هي ومؤيدوها في الساحة الأميركية على صانع القرار الأميركي. وهذا ما يجعلنا نرى تطابقا في كثير من الأحيان بين المواقف الأميركية والإسرائيلية على الساحة الدولية.
ولهذا أعرف المجتمع الدولي من خلال الحلقات التالية، أي من خلال هيكلية، وليس من خلال بعد قانوني أو شرعي:
1- قلب المجتمع الدولي، الولايات المتحدة الأميركية هي قلب المجتمع الدولي في مختلف المجالات، لكن إسرائيل تشاركها في ذلك في مجالات معينة مثل مجال القضية الفلسطينية، ومجال انتشار الأسلحة النووية، ومجال التطوير التقني على المستويين العربي والإسلامي.
فعندما نقول إنه من المطلوب طرح أفكار يرضى عنها المجتمع الدولي فإننا نعني بالأساس الولايات المتحدة وإسرائيل. هذا القلب هو الذي يتحكم الآن بصورة كبيرة في صياغة المصطلحات مثل المقاومة والإرهاب، وفي كيفية إدارة الصراعات، وفي شن الحروب، وعمل القلاقل.
2- غلاف القلب، يلي القلب غلاف يتكون من أغلب دول أوروبا الغربية التي تشترك مع أميركا في كثير من الأسس والأبعاد التاريخية والثقافية، وكثير من السياسات الاقتصادية والسياسية.
هذه دول ذات تأثير، لكنه ليس تأثيرا مستقلا، ولا بد من أن يتكامل مع تأثير الولايات المتحدة في الغالب، ومع تأثير أميركا وإسرائيل في كثير من الأحيان.
3- الحلقة الثالثة، هي التي تتكون من دول كبيرة وقوية لكنها ليست صاحبة قرار، ويبقى تأثيرها محدودا جدا مثل روسيا والصين واليابان والبرازيل والهند وتركيا.
" المجتمع الدولي هو تلك القوى التي تعبر عن مصالح خاصة لا علاقة لها بالإنسانية إلا بالقدر الذي يخدم مصلحة القوي " |
هذه دول لها بعض الاحترام، لكنها ليست من الدرجة الأولى التي تؤهلها لنفوذ ملموس على الساحة الدولية، وهي تعاني من التردد والتشكك في قدراتها.
4- الدول الطيعة، تقع أغلب دول العالم ضمن هذا التصنيف، وهي دول لا تملك إلا القليل من أمرها، إلى درجة أنها لا تملك استقلالا في إدارة شؤونها الداخلية.
العديد من هذه الدول تقع تحت سطوة السفير الأميركي، وغالبا تتطلع إلى مساعدات أميركية تعين الحكم فيها على إدارة الدولة وسد حاجة الناس وصرف الرواتب. وهذه دول تتقن التصفيق والتبرير، وتتقن الطاعة وفن الهزيمة مثل أغلب الدول العربية.
دول خارج النظام
هناك دول لا تريد أن تكون من ضمن هذا المجتمع الدولي، ويمكن تصنيفها إلى:
1- دول حريصة على استقلالها التام، أو تعمل تماما خارج النظام الذي يسيطر عليه قلب المجتمع الدولي مثل كوبا وكوريا الشمالية وإيران، وهي دول لا تريد أن تكون جزءا من النظام، وهي أيضا غير مقبولة من النظام.
2- دول حريصة على استقلالها، لكنها مستعدة للمناورة مثل سوريا وفنزويلا. وهذه دول ليست مقبولة أميركيا وتعتبر خارج النظام وفق المعايير الأميركية.
شعوب خارج النظام
يفترض الأقوياء أن الشعوب تساق كالغنم إلى الحظيرة، وهي في النهاية لا تقرر، ومصيرها مربوط بزعماء مصنعين يخدمون سادتهم لقاء بقائهم في الحكم.
هذا افتراض صحيح إلى حد كبير، وهناك العديد من الحكام العرب وغير العرب الذين يقمعون شعوبهم ويبددون الثروات، ولكنهم يحظون بحماية الدول الغربية، وبالأخص الولايات المتحدة الأميركية. وهؤلاء يعلمون أن أميركا قادرة على الإتيان بغيرهم إذا قرروا الانحياز لشعوبهم.
وعلى الرغم من قوة الافتراض، فإنه ليس صحيحا بالمطلق، وأكبر برهان على ذلك أن الشعب التونسي لم يعبأ بإرادة ما يسمى بالمجتمع الدولي، وعلت إرادته على إرادة الولايات المتحدة وإسرائيل.
تنظيمات خارج النظام
هناك عدد من التنظيمات تعمل خارج النظام، وهي منتشرة في أماكن عدة من العالم لكن أبرزها وأكثرها تأثيرا حزب الله وحماس وطالبان والقاعدة والمقاومة العراقية.
هذه تنظيمات لا تريد العمل من داخل النظام الذي تعتبره فاسدا ومستبدا وظالما وتجب مواجهته. وهي تنظيمات إسلامية غير موحدة، وربما متنافرة في بعض الأحيان، لكنها مرفوضة من المجتمع الدولي، وفق الهيكلية أعلاه.
الخلاصة
المجتمع الدولي ليس سوى تعبير عن صناعة وهم لدى الشعوب، وخلق انطباع وهمي بأن هناك قيما عالمية تقوم على أساس المبادئ الإنسانية واحترام حقوق لإنسان ويجب احترامها.
المجتمع الدولي هو تلك القوى التي تعبر عن مصالح خاصة لا علاقة لها بالإنسانية إلا بالقدر الذي يخدم مصلحة القوي، وإذا كان هناك من يتمسك بهذا المجتمع من الذين لا يملكون قدرة على اتخاذ القرار فإن ذلك يندرج تحت خداع الضعيف لنفسه وإيهام ذاته بأن رحمة الظالمين لن يطول غيابها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.