أساطير في الصراع العربي الإسرائيلي

أساطير في الصراع العربي الإسرائيل -عبد الله الأشعل



انطوى ملف الصراع العربي الإسرائيلي في مسيرته الطويلة على عدد من المغالطات والأوهام والأساطير ذات الطابع القانوني التي يتعين إيضاحها ولو من زاوية الإسهام الفقهي بعد أن عزت مسارات العمل في جبهة هذا الصراع الطويل.

الأسطورة الأولى، هي أن قرار التقسيم قصد به تقسيم فلسطين بين شعبين ودولتين حسبما نص عليه القرار. فالعرب رأوا في القرار غبنا فرفضوه، ولا جدوى الآن من استدراك مقولة ترى أن قبولهم منذ صدوره كان سيفوت كل ما جاء بعد ذلك من تطورات لصالح اليهود في فلسطين, أما اليهود فقد اعتبروه منحة من السماء وفسروه وفق المخطط الصهيوني وهو أنه أهم أداة تنفيذية نقلت المشروع من عالم الخيال إلى عالم الواقع.

"
العرب رأوا في قرار التقسيم غبنا فرفضوه، أما اليهود فقد اعتبروه منحة من السماء وفسروه وفق المخطط الصهيوني وهو أنه أهم أداة تنفيذية نقلت المشروع من عالم الخيال إلى عالم الواقع
"

وتشير مذكرات الساسة الإسرائيليين إلى أن هذه الأداة التجريبية هي أول احتكاك بين الادعاء الصهيوني في فلسطين، وبين قدرة الادعاء على الحركة على الأرض بين الفلسطينيين لدرجة أن بن غوريون لو كان حيا لمات فرحا لأنه توقع أن يموت المشروع كلما تقدم في الجسد العربي مهما كان ضعفه وهيمنة الغرب على مقدراته.

ولم يكن بن غوريون  يحلم بأن يرخي علم العروبة في مصر أسداله مؤذنا بالاستسلام أمام جسارة المشروع الذي ازداد قوة وحيوية كلما التهم المزيد من الإرادة العربية, تماما كأسماك القرش التي تزداد توحشًا وولغا في دماء الضحايا أو فيروس الإيدز الضعيف الذي يجد قوته في انهيار مناعات الجسم أمام تقدمه.

فالقرار لم يكن تقسيمًا حقيقيًّا ولكنه تظاهر بالتقسيم وهو يضمر كل فلسطين، ولذلك قال اليهود إن قيمة القرار هو أنه وثيقة اعترف فيها العالم أخيرًا وبعد جهود وعقود بأن فلسطين هي وطن الشعب اليهودي، أما إزاحة الفلسطينيين فهي مسألة وقت مع التخطيط والعمل لتحقيق هذه النتيجة، في محاولة لإعادة رسم خريطة المنطقة كلها بحيث تكون مستعدة لقبول إسرائيل محل فلسطين التي يطويها النسيان وتودع متحف تاريخ الأمم المنقرضة في العصور البائدة.

الأسطورة الثانية، هي أن الصراع بين العرب وإسرائيل هو صراع بين سرطان له مصادر قوته خارج المنطقة وبين منطقة لم تألف العمل سويًّا ضد السرطان إلا بتماسك مركز القيادة فيها وهو مصر والشام، ولذلك عمد المشروع إلى تحطيم مركز القيادة وضمان تمزقه وعدم التئامه، ولذلك يعد التفكير حول العلاقات السورية المصرية وفرص تحسنها تفكيرًا سطحيًّا مجتزأ إذا أغفل الحقيقة التي فهمها جيدًا هذا المشروع الصهيوني.

الأسطورة الثالثة، هي أن إسرائيل دولة عادية محتلة وأن معاملتها بموجب القانون الدولي تحرجها وتظهرها بمظهر الدولة العاصية مما يوقف تقدم المشروع ويعطي الفلسطينيين الأمل في العيش في فلسطين إلى جانبها. في ظل هذه الأسطورة ازدهرت ترسانة المصطلحات ونشطت آلاف الكائنات التي وظفت لتنفيذ هذه الأسطورة تارة تحت عنوان عملية السلام والمفاوضات وتارة أخرى تحت عنوان الدولة الفلسطينية، أو حل الدولتين.

لا تطيق إسرائيل أن ترى الفلسطينيين واسم فلسطين، ما دامت ترى أن اليهود هم أصحاب الأرض وأن يهود اليوم هو ورثة يهود الأمس ليس فقط في فلسطين ولكن في كل مكان عاش الأجداد فيه.

الأسطورة الرابعة، هي أن قرارات الأمم المتحدة هي الشرعية الكافية لاسترداد الحقوق الفلسطينية التي يتم اغتصابها كل يوم مع تقدم المشروع الصهيوني. ولذلك تجب إعادة فرز وتحليل هذه القرارات واستخدامها في الصراع القانوني إذا توفرت الإرادة السياسية، وبدونها فلا قيمة لأي تحليل أو توظيف، فحتى في هذه الحدود يمكن وقف المشروع الصهيوني ولكن الآفة الكبرى هي إدراك المشروع أن قوة اندفاعه ضد جسد عربي بقيادة مصر سوف تتداعى، ولذلك فإن التحكم في هذه القيادة هو أهم ضمان لاستمرار تقدم هذا المشروع، كما أن تفكيك الأوطان العربية خاصة مصر يضمن رسم الخريطة المطلوبة لقرون قادمة.

"
مقاومة مصر وحدها بعد انفراط العقد العربي في عقود التيه العربي منذ عام 1979 هي مجرد بداية لصحوة عربية لإنقاذ عقل عربي أدمته جراح هذه العقود المظلمة، ولكن إحياء مصر نفسها أكبر معركة ضد هذا المشروع الغاشم
"

الأسطورة الخامسة، هي أن الإدارة القانونية وحدها للصراع لا تكفي بغير إرادة شاملة، كما أن مقاومة مصر وحدها بعد انفراط العقد العربي في عقود التيه العربي منذ عام 1979 هي مجرد بداية لصحوة عربية لإنقاذ عقل عربي أدمته جراح هذه العقود المظلمة، ولكن إحياء مصر نفسها أكبر معركة ضد هذا المشروع الغاشم.

الأسطورة السادسة، هي أن معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية هي بداية طريق السلام، لأنه في ظل طبيعة المشروع وسعيه الدؤوب إلى اصطياد مصر ونزع فتيل حيويتها في الجسد العربي وإعادة توزيع كرات الدم البيضاء والحمراء صدِّر لهذا الجسد سرطان قاتل يأكل بعضه بعضًا تحت ستار معاهدة السلام, ولاشك أن سلوك الحكومة المصرية إزاء هذه المعاهدة يقطع بأن مصر الرسمية التقمت الطعم وسرى في دمها المرض الخبيث.

ويترتب على ذلك سقوط كل المقولات التي لا يزال رموز المرحلة يرددونها بأن مصر جلبت السلام والعرب تقاعسوا، وأن مصر ضحت وغيرها خانوا وأنه آن الأوان لمصر أن تهتم بنفسها بعد أن نسيت الأخت الكبرى زينتها وفاتها قطار الزواج.

الأسطورة السابعة، هي أن القرارين 242، و338 هما أساس عملية السلام وأن الصراع بدأ بهما منذ عام 1967 وأنه لا يجوز النظر إلى ما قبلها. هذه الأسطورة روجها اليهود والعرب معا بغفلة منهم أو خديعة، لأن البدء بقرار مجلس الأمن 242 على أساس التسامح فيما سبق يعني إغفال قرار التقسيم الذي لا تريد إسرائيل العودة إليه بعد أن وصل قطار المشروع الصهيوني إلى محطات متقدمة داخل فلسطين والعالم العربي. ففي الرابع من يونيو/حزيران 1967 كانت إسرائيل قد التهمت خارج قرار التقسيم 21.5% إضافة إلى القرار فأصبح نصيبها 78%.

لهذا السبب فإنه من الفادح أن نردد أننا نريد دولة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية لأن ذلك يعني ببساطة التسليم بالتهام ربع مساحة فلسطين التاريخية والقبول بتسوية الانسحاب مما عداها مقابل علاقات معينة مع إسرائيل، والتسليم بأن القدس الغربية هي جزء من إسرائيل رغم أن طريقة الاستيلاء عليها لا تختلف عن طريق الاستيلاء على شرق القدس، فضلاً عن أن كل الوثائق الدولية لا تشير إلى شرق القدس إلا القرار 242 الذي كان يحدد الأراضي التي استولت عليها إسرائيل عام 1967، وهو لا يعني مطلقًا أنه بذلك يسلم لإسرائيل بالقدس الغربية حسبما زعمت إسرائيل. هذا الموقف سهل لإسرائيل أن تعلن –عبر الاستيطان والتهويد المباشر- أن القدس خارج دائرة المفاوضات.

الأسطورة الثامنة، هي أن المفاوضات مع إسرائيل هي طريق السلام الضامن لحقوق الفلسطينيين. فطبيعة المشروع تأبى هذا التفسير كما أنه إذا سلمنا بأن الأراضي الفلسطينية محتلة، وهو ما لم تعترف به إسرائيل، فلا يجوز مكافأة المحتل بالتفاوض معه على الانسحاب بمقابل، فالاحتلال غير المشروع يتطلب انسحابا غير مشروط.

أما في حالة إسرائيل فإن قوتها العسكرية والدبلوماسية والدعم الغربي والأميركي أوهم مصر بأن رد سيناء ولو منقوصة السيادة وفي دائرة المخطط الصهيوني يستحق كل ما جنته إسرائيل وخسرته مصر في هذه الصفقة التي أثبتت الأيام طابعها الكارثي على مصر أولاً والعرب بشكل عام.

الأسطورة التاسعة، هي أن أوسلو أعادت القضية إلى الساحة الدولية وأسقطت عن إسرائيل انفرادها بترديد الرغبة في السلام فالحساب الختامي واضح فيما آلت إليه حال فلسطين والعجز وصلت إليه السلطة بعد طول رهانها على حسن نية إسرائيل وحرص واشنطن على العدل في فلسطين.

"
السلام الإستراتيجي فهم عربيًّا على أنه وداع للصراع مع إسرائيل فأطفأ حاسة التوجس منها عند الحكومات, بينما استغلت إسرائيل هذا الخيار الساذج وأدارت الصراع بأدواته التي تجيدها
"

الأسطورة العاشرة، هي أن كون السلام خيارا إستراتيجيا عند العرب كسب الساحة الدولية وسحب البساط من تحت أرجل إسرائيل في العالم والصحيح أن هذا السلام الإستراتيجي فهم عربيًّا على أنه وداع للصراع مع إسرائيل فأطفأ حاسة التوجس منها عند الحكومات وأشرعها عن الشعوب، بينما استغلت إسرائيل هذا الخيار الساذج وأدارت الصراع بأدواته التي تجيدها تاركة للعرب الحسرة والدهشة من براعة الكيان الغريب الذي يتغذى على الدم العربي كأسماك القرش.

الأسطورة الحادية عشرة، هي التناقض بين المواجهة القانونية ومنهج التسوية السلمية. وهذا هو الأخطر لأن العرب هربوا من المواجهة بهذه الصيغة المريحة وتوهموا أن التسوية تجلب السلام بقطع النظر عن مدى ما يتحقق من حقوق فلسطينية، فانفصل السلام عن الحقوق، وتراجع الدعم العربي للحقوق، مع تواصل الدعم المادي للبقاء تعويضًا عن الدعم الشامل في مواجهة لهذا السرطان.

بل إن الوهم وصل إلى حد أن الاعتقاد بأن أي مواجهة قانونية مع إسرائيل هي ضياع لفرص التسوية السلمية، فماذا يفعل العرب بعد أن أغلقت واشنطن هذا الملف وتركت الجميع في العراء يواجهون أقدارهم أمام توحش إسرائيل؟

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان