البابا.. التستر على اغتصاب الأطفال جريمة لا تُغتفر

اسم الكاتب: زهير أندراوس



المظاهرات التي تعصف بالمملكة المتحدة احتجاجا على زيارة قداسة البابا بنديكت السادس عشر كانت متوقعة، لا بل أكثر من ذلك، البريطانيون الذين خرجوا بالآلاف إلى الشوارع ضد الزيارة، ربما يكونون -والتاريخ كفيل بذلك- أول من رفع لواء تنقية المؤسسة الكنسية الكاثوليكية من القساوسة الذين نفذوا أعمالا مشينة بحق أطفال أبرياء، هذه الأعمال التي لا تتماشى مع مبادئ السيد المسيح، ولا تتماهى مع تعاليمه التي نشرها.

ليس سرا أن الفاتيكان -أكبر مؤسسة دينية في العالم قاطبة- مؤسسة تمثل أكثر من مليار مسيحي كاثوليكي، حاول خلال فترة طويلة التستر على هؤلاء المجرمين ورفض بأي شكل من الأشكال المطالب العديدة والصادقة بمحاكمتهم لينالوا عقابهم الدنيوي على جرائمهم المقززة.

البريطانيون، ربما تمكنوا من اختراق جدار الصمت، وأعادوا إلى أذهان العالم برمته، وتحديدَا المسيحي الكاثوليكي، قصة أطفال أبرياء لا ذنب لهم، تعرضوا لاعتداءات جنسية من قبل قساوسة استغلوا مناصبهم الدينية لتنفيذ أعمالٍ يندى لها الجبين، في حال إثباتها.

حاول الفاتيكان على مدار سنوات عديدة منع طرح القضية أمام الرأي العام، ولا حاجة للقول إن من يتستر على الجريمة يتحول -شاء من شاء وأبى من أبى- إلى شريك فيها.

تناسى قداسة البابا عن سبق الإصرار والترصد ما قاله السيد المسيح عليه السلام "من منكم بلا خطيئة.."، تعمد التغاضي عن حقيقة كوننا في عهد الإنترنت الذي حول العالم إلى قرية صغيرة، فلا مجال بعد اليوم لإخفاء الحقائق، أو محاولة التستر عليها.

"
يتحتم على قداسة البابا من خلال موقعه المرموق، ومن خلال المسؤولية التي يتحملها أن يرتقي إلى مستوى الحدث، وأن يشرح للمؤمنين أولا ولجميع أبناء الديانات السماوية الأخرى، ما هو موقفه من هذه القضية، وماذا فعل من أجل اجتثاث هذه الممارسات المشينة؟
"

بالإضافة إلى ذلك، نعتقد أن على الفاتيكان على وجه عام وقداسة البابا تحديدا، أخذ زمام المبادرة وعدم الانتظار حتى تلقى الشكاوى من ضحايا التحرش الجنسي، وفي القضية العينية التي نعيشها الضحايا اشتكوا، الإعلام قام بوظيفته ونشر الغسيل القذر على الملأ.

وعليه فقد وضع الكنيسة أمام حلين أحلاهما مر، مواصلة التستر على الأفعال المشينة أو معالجتها كما يجب.

بكلمات أخرى، لا مفر أمام المؤسسة الكنسية إلا أن تقوم بمعالجة القضية بشفافية، لكي يكون هؤلاء المتورطون في القضية المشينة عبرة لمن يعتبر، ومواصلة السكوت والتستر على هذا الوضع، هو بمعنى أخر، تشجيع الشاذين جنسيا، ومن هؤلاء السيد المسيح بريء، والمسيحية دينا ومؤسسة براء منهم.

من يسير على تعاليم السيد المسيح، يجب أن يكون ملتزما بها التزاما كاملا، فالأعمال المنسوبة لعدد من القساوسة يندى لها الجبين وتقشعر لها الأبدان، ولا نعتقد ولو لبرهة أن قداسة البابا أو أي مسيحي على وجه البسيطة، يعمل خفية أو علانية، على تشجيع هذه الأعمال، بل على العكس، إن التربية السليمة الخالية من الأعشاب الضالة، يجب أن تظل نبراسا يستنير به أتباع السيد المسيح على وجه هذه البسيطة.

والمؤسف أن قضية الاعتداءات الجنسية على الأطفال ليست وليدة اليوم ولا أمس، إنها قضية قديمة تعود إلى سنوات عديدة خلت، ترقب العالم سماع موقف قداسته من هذه القضية، ولكنه آثر الصمت، ولم يتطرق للاتهامات حول الاعتداءات الجنسية.

وهكذا أهدر الفرص لقطع الشك باليقين، مما رفع بورصة التكهنات، وزادت الشكوك حول الموضوع، وذهب البعض إلى القول إن تصرف البابا ينم عن أنه يريد إخفاء معلومات مهمة حول القضية، التي مست مسا سافرا بالكنيسة الكاثوليكية وبالمؤمنين، على حد سواء، وفي هذه القضية العينية، فإن مسؤولية الإثبات الكاملة تقع على عاتق قداسته، وليس على المؤمنين.

ولكي نضع الأصبع على الجرح النازف علينا التوضيح، قداسة البابا ليس متورطا في القضية لا من قريب ولا من بعيد، وكل المحاولات للزج باسمه في هذه الفضيحة هي محاولات بائسة للنيل منه ومن الكنيسة التي يديرها.

ولكن بموازاة ذلك، برأينا المتواضع جدا، يتحتم على قداسة البابا من خلال موقعه المرموق، ومن خلال المسؤولية التي يتحملها أن يرتقي إلى مستوى الحدث، وأن يشرح للمؤمنين أولا ولجميع أبناء الديانات السماوية الأخرى، ما هو موقفه من هذه القضية، وماذا فعل من أجل اجتثاث هذه الممارسات المشينة المنسوبة لعدد من القساوسة الذين ما زالوا يخدمون في الكنيسة، لأن مواصلة السكوت يُشكل إدانة قاسية لقداسته وللمؤسسة الكاثوليكية.

قضية الاعتداءات الجنسية على الأطفال يجب أن تؤرق كل مسيحي كاثوليكي على وجه هذه البسيطة، وتُحتم على القيادة الكنسية أنْ تكون مثالا يحتذى به في كيفية تطبيق العدالة ومعاقبة المجرمين، ولكن تصرف الفاتيكان حتى هذه اللحظة أثبت العكس، فالقساوسة لم يتلقوا العقاب، وما زالوا يخدمون في الكنيسة الكاثوليكية.

وهذا الأمر بحد ذاته وصمة عار، وأكثر من ذلك، التستر على مشبوهين أو متهمين باستغلال الأطفال جنسيا، ربما يُضفي الشرعية على هذه الممارسات.

وأخطر من ذلك أن السكوت على جرائم من هذا القبيل قد يُشجع الآخرين على اقتراف جرائم جنسية بحق الأطفال وغيرهم، لعلمهم بأن المؤسسة الكنسية لن تتخذ ضدهم الإجراءات العقابية، أي أن رد فعل الكنيسة لم يرتق إلى مستوى الحدث بالمرة.

"
المؤسسة الكنسية الكاثوليكية التي ينضوي تحت لوائها أكثر من مليار مسيحي كاثوليكي، بدأت تفقد مكانتها واحترامها لدى المؤمنين ولدى أبناء الطوائف الأخرى
"

وكان من الطبيعي أن تتنامى موجة الاحتجاجات ضد قداسة البابا، لأن الأمور تسير وفق القانون المهم في علم الفيزياء، لكل فعلٍ رد فعل مساوٍ له في المقدار، ومضاد له في الاتجاه، ومن هنا ينشأ الاتزان.

وتتزامن حملة الاحتجاج ضد زيارة البابا إلى بريطانيا مع نشر نتائج استطلاع للرأي العام تم إجراؤه مؤخرا في ألمانيا أظهر أن مكانة الكنيسة وصلت إلى الحضيض، إذ اتهم 86%من المشاركين في الاستطلاع قيادة الكنيسة بقلة الاستعداد للكشف عن حقيقة هذه الاعتداءات.

وعلى الرغم من ذلك، واصل الفاتيكان الصمت، ولم يجد من المناسب توضيح موقفه من القضية، وبالتالي يمكن قراءة هذه التطورات بأن المؤسسة الكنسية الكاثوليكية التي ينضوي تحت لوائها أكثر من مليار مسيحي كاثوليكي، بدأت تفقد مكانتها واحترامها لدى المؤمنين ولدى أبناء الطوائف الأخرى لأسباب ما هنا المكان ولا هذا الزمان لسبر أغوارها، كما أن مواصلة السكوت على هذه الأعمال التي تدينها جميع الديانات السماوية، ستؤدي على المدى القريب والبعيد أيضا إلى اتساع الهوة أكثر بين الكنيسة وبين المؤمنين من ناحية، وستحد من تأثير قداسة البابا والفاتيكان على الرعية من ناحية أخرى.

فالوصايا العشر التي بنورها يهتدي المؤمنون، حددت العلاقات، ولا يُسمح لكائن من كان، متدينا كان أم علمانيا، المس بها، وللتذكير فقط فإن إحدى الوصايا تقول بشكل صريح، لا تزن، أحرى عندما تكون الاتهامات أخطر من الزنا.

من هنا، فإنه ينبغي على الكنيسة والبابا الخروج من الغرفة المحصنة وذهنية الحصار لحل المسائل التي ولدتها هذه الأزمة الخطيرة، فنحن لسنا في عهد محاكم التفتيش، ويتحتم على الكنيسة، بدلا من مهاجمة وسائل الإعلام والقوى الأخرى، أن تعترف بدور هؤلاء في تقصى الحقائق، وأن تتوقف عن تجنيد السامية لدرء الهجوم المكثف عليها، حيث شبه واعظ الفاتيكان الهجوم على الكنيسة الكاثوليكية بمعاداة السامية، الأمر الذي أعطى انطباعا بأن الفاتيكان بدأ يفقد توازنه.

والإدعاء بأن قداسة البابا يعمل وحده ولا يعير وسائل الإعلام اهتماما، كما يُردد مقربوه، هو أقل ما يمكن أن يقال عنه إنه عذر غير مقبول وغير مبرر بالمرة، فقداسته الذي لم يتورع عن الاهتمام بقضايا أهميتها أقل بكثير من التي نحن بصددها ملزم، وليس مطالبا فقط، بفك رموز فضيحة الاعتداءات الجنسية على الأطفال، لأن مواصلة التستر ستزيد من الشكوك التي ترى بأن وراء الأكمة ما وراءها.

كما أن هذه القضية يجب أنْ تثير مرة أخرى مسألة منع الكهنة والقساوسة الكاثوليك من الزواج، وعلى الفاتيكان دراسة أبعاد هذه القضية وتبعاتها وتداعياتها وإرهاصاتها.

وباعتقادنا أنه بات في حكم المؤكد إجراء سلسلة من الإصلاحات في أروقة الكنيسة الكاثوليكية الغربية، وعلى رأسها، بل في مقدمتها، السماح بزواج الكهنة (الراغبين منهم) قبل رسامتهم في الكنيسة، أسوة بما هو قائم في الكنائس الشرقية، ومنها الكنيسة الأرثوذكسية والكنيسة الملكية الكاثوليكية (أي كنيسة الروم الكاثوليك في الشرق).

أضف إلى أنه بات من الضروري على الفاتيكان معرفة حقيقة وجود وسائل إعلام وحقوق فردية وكرامة لدى الناس، وهذا يتطلب ما أشرنا إليه من تغييرات وإصلاحات. فهل يتعظ أصحاب القرار؟

"
هذه القضية يجب أنْ تثير مرة أخرى مسألة منع الكهنة والقساوسة الكاثوليك من الزواج، وعلى الفاتيكان دراسة أبعاد هذه القضية وتبعاتها وتداعياتها وإرهاصاتها
"

مضافا على ما ذكر أعلاه، نجد من المناسب الالتفات إلى نقطة مهمة للغاية، الصهيونية ما زالت تتهم الفاتيكان بأنه تورط في المحرقة النازية في القرن الماضي، وبالتالي لا نستبعد البتة أن تكون هذه الحركة العنصرية وأذرعها المختلفة متورطة بشكل مباشرٍ أو بصورة أخرى في تأليب الرأي العام على قداسة البابا والكنيسة الكاثوليكية لتصفية الحسابات، وهذه الشكوك التي تراود الكثيرين هي عامل لا يقل أهمية لإلزام المؤسسة الكنسية باتخاذ الإجراءات ضد القساوسة لقطع الطريق على كل المتسلقين الذين يحاولون استغلال هذه القضية للنيل من الكنيسة وتصفية حساباتهم التاريخية معها.

كنا نتمنى على أحفاد بلفور، صاحب الوعد الذي منح ما لا يملك لمن لا يستحق (وعد بلفور نوفمبر/تشرين الثاني 1917) أن يكونوا على قدرٍ كبير من المسؤولية والعقلانية، ويخرجوا إلى الشوارع للتظاهر ضد جميع المجرمين من جميع الأصناف والألوان.

فالجريمة جريمة والضحية ضحية، وعليهم قبل وبعد مطالبة قداسة البابا بمعاقبة القساوسة، أن يردعوا حكومتهم التي تستقبل مجرمي الحرب الإسرائيليين الذين قتلوا وما زالوا يقتلون الأطفال في فلسطين، فأطفال فلسطين الذين قتلتهم آلة الحرب الصهيونية يستصرخون العالم لوضع حد لعربدة دولة الاحتلال.

على المتظاهرين ضد البابا الخروج بنفس الزخم إلى الشوارع لمنع حكومتهم من تغيير القوانين البريطانية التي تجيز اعتقال مجرمي الحرب من الدولة العبرية، ففي كلتا الحالتين -على الرغم من الاختلاف بين الظروف- الحديث يدور عن جرائم ضد الأطفال، لكل شيء يوجد وجهان، ولكن للعدل لا يوجد إلا وجه واحد.

وعليهم أنْ يتذكروا أن قداسة البابا لم يُصدر الأوامر للقساوسة بتنفيذ ما يُنسب إليهم، ومع ذلك فإننا نُحمله كامل المسؤولية، ولكن في الوقت نفسه فإن حكام تل أبيب لم ينفوا ولو مرة واحدة تورطهم في إطلاق العنان لجيش احتلالهم بقتل الفلسطينيين.

من هنا كنا نتمنى على العالم الغربي، الذي ساهم إلى حد كبيرٍ في إقامة إسرائيل على أنقاض الشعب العربي الفلسطيني -وما زال يدعمها- متغاضيا عن جرائمها بحق الفلسطينيين، التجند لمنع مواصلة سفك دماء أطفال فلسطين، والتوقف عن الكيل بمكيالين.

أقطاب تل أبيب هم الذين أصدروا الأوامر بإزهاق أرواح أبناء فلسطين، لا نعرف عدد ضحايا الاعتداءات الجنسية في قضية القساوسة، ولكن ما نعرفه جيدا أن آلة الحرب الإسرائيلية، المدعومة من الغرب، قتلت في العدوان الأخير على قطاع غزة، نهاية العام 2008 وبداية العام 2009، ما لا يقل عن خمسمائة طفل فلسطيني، واستعملت الأسلحة المحرمة دوليا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.