"هيثم المالح".. شركاء في التهَم وشركاء في الجريمة
"إضعاف الروح الوطنية".. "نشر أخبار كاذبة".. "وهن نفسية الأمة".. "إضعاف الشعور القومي".. "دسّ الدسائس لدى دولة معادية".. "ذم القضاء".. "إيقاظ النعرات العنصرية والمذهبية".. "تشكيل حلقات نقاش شبابية".. "تحقير الرئيس"!!.
هذه بعض التـُّهم التي وجهت إلى المحامي والقاضي والناشط الاجتماعي والحقوقي السوري الكبير "هيثم المالح" (الرجل الأمة)، وآخرين من المناضلين بالكلمة والموقف من النساء والرجال، شيبا وشبابا، من طلائع المجتمع السوري، الذين اعتقلوا وقدم بعضهم إلى محاكمات في محاكم "أمن الدولة"!، و"محاكم عسكرية"!!، لتخرج علينا هذه المحاكم بأحكام "تاريخية"!، تليق بهذه "التـُّهم التاريخية"!، التي لا يخرج عن التلبس بها أي سوري أعرفه، من أي انتماء أو دين أو عرق أو ثقافة أو مستوى اقتصادي!!.
في سوريا أو في أي مكان على وجه الأرض -فضلا عن الأشقاء العرب من مختلف الدول العربية- لا يوجد سوري غير متلبس بهذه التـُّهم، ما عدا "دسّ الدسائس لدى دولة أجنبية"!!، وإنشاء "حلقات النقاش الشبابية"، التي تعتبر اليوم واحدة من أرقى وسائل تطوير الفكر والثقافة في المحافل الأكاديمية العالمية.
" السوريون ممزقون عاطفيا بين إعجابهم برئيسهم بشار الأسد ومواقفه القومية، وخيبة أملهم المريرة داخليا، حيث يُسحق المواطن بين عجلتيْ الاستبداد السياسي والعفن الاجتماعي " |
كلنا نسب المسؤولين ونتندر بحكاياتهم، كلنا نتناقل "النكت" والأخبار والآراء السياسية الخاصة بأداء حكوماتنا وأزلامها!، كلنا نسخر من الشعارات التي ترفعها وفراغها من المصداقية والمضمون والنزاهة، كلنا نستخدم عبارات الممثل السوري الرائد "دريد لحام" في مسرحياته –سارية المفعول الثقافي بعد أربعين سنة- لتوصيف واقعنا المؤلم، كلنا.. نسخر من التطبيل والتزمير بالانتماءات الوطنية والقومية في زمن سقطت فيه أوراق التوت عن عورات الأنظمة العربية -خاصة بعد غزو العراق- والسوريون على وجه الخصوص.. ممزقون عاطفيا بين إعجابهم برئيسهم بشار الأسد ومواقفه القومية، وخيبة أملهم المريرة داخليا، حيث يُسحق المواطن بين عجلتيْ الاستبداد السياسي والعفن الاجتماعي.
كلنا.. متلبس بهذه التـُّهم "الجنائية العظمى" التي لم تستح المحاكم "العسكرية" ولا محاكم "أمن الدولة" من النظر فيها، ولا من إصدار أحكام تعتبر وصمة عار في جبين سوريا حكومة وشعبا ضدّ ممثلي الشعب الحقيقيين، الذين امتلكوا من الشجاعة والصدق ما مكنهم من الوقوف في وجه فساد الأجهزة العجوز المتسرطنة، التي لا تزال تخبط خبط عشواء عمياء حاقدة في ملاحقة الأحرار الذين لم تأخذهم في "قول" كلمة الحق لومة لائم.. ولكنهم -على الرغم من ذلك- لم يُخطئوا الطريق، ولم يستدعوا صوت الدم، ولم يحملوا أو يدعوا لحمل السلاح، ولم يدعو لتغيير نظام حكم!، ولم يعملوا للوصول إلى السلطة!، ولم يخوضوا معارك خطأ لا في الزمان ولا في المكان، كما فعل غيرهم من قبل، فهلكت البلاد وأُنهك العباد بين جنون الثورات وانتقام السلطات!.
ماذا تركت محاكم أمن الدولة والمحاكم العسكرية إذن لمُعلني الانقلابات؟!، وأصحاب التكفير والتفجيرات الذين بُحت أصواتنا ونحن نطلب منهم –إن ألقوا السمع- مراجعة فكرهم وأساليبهم في التعامل مع الواقع العربي البئيس؟، كيف يمكن بعد الآن لذلك الشباب أن يصدق أن الأساليب السلمية يمكنها أن تُحدث علامة فارقة في حياة هذه المنطقة الموبوءة بالظلم؟!.
تتصل بي دائما سيدات سوريات من داخل سوريا وخارجها يشتكين الظلم المضاعف الواقع عليهن من الأزواج والمجتمع، ظلم يبلغ حد انعدام النصير من الأهل أو الأصدقاء أو الشخصيات الإسلامية أو مؤسسات المجتمع، ويجعل النساء خاصة "المتدينات" منهن في مواجهة أسوار اليأس والانهيار، وأحيانا التفكير في الانتحار، ولم أجد أمامي في الآونة الأخيرة إلا أن أطلب إلى بعضهن أن يتوجهن برسالة إلى رئيس الجمهورية شخصيا ليُنصفهن من هذا الظلم الفادح الذي تعاني منه معظم نساء سوريا بصمت وصبر منقطعيْ النظير، لا يضاهيهما إلا صبر الشعب على أذى أجهزة نزع الأمن، وصمته على هذه الانتهاكات الخطيرة التي تجري بين جنبيه وهو خائف يتلفت!.
" لا تختلف السيدات السوريات في شكواهن ومحنتهن مع مجتمعهن وأسرهن، عن محن الرجال والنساء الشجعان مع أجهزة الأمن والمخابرات الأخطبوطية التي تعيش -في القرن الحادي والعشرين- عقلية القرون الوسطى ومحاكم التفتيش الأوروبية " |
لقد كانت قناعتي وما زالت أن الرئيس السوري بما عُرف عنه سيقوم برفع الظلم عن هؤلاء النسوة فور اطلاعه على أوضاعهن!، ولكن هل تصل مثل هذه الرسائل والحالات إلى الرئيس السوري؟ أم أن أجهزة نزع الأمن السورية تسد الأبواب وترفع الأسوار؟ ماهي حقيقة صلة الرئيس بقضايا الشعب ومسؤوليته عما يجري مع هذا الشعب سياسيا واجتماعيا؟!.
هؤلاء السيدات السوريات، لا تختلف شكواهن ومحنتهن مع مجتمعهن وأسرهن، عن محن هؤلاء الرجال والنساء الشجعان مع أجهزة الأمن والمخابرات الأخطبوطية التي تعيش -في القرن الحادي والعشرين- عقلية القرون الوسطى ومحاكم التفتيش الأوروبية، تلاحق المواطن على الكلمة والفكرة والموقف، وتنكل بالقيادات التي أقامت ولم ترحل أو تُرَحَل، ثبتت في وجه العاصفة لأنها تؤمن بالوطن وتؤمن بالإنسان، اختارت طريق المعارضة السلمية في موطنها وبين ناسها وأهلها للتغيير، في محاولة حقيقية جديرة بالاحترام.
لقد اختلط السياسي بالاجتماعي في حياة الشعب السوري كما في حياة غيره من شعوب المنطقة إلى درجة جعلت الجميع شركاء في تهمة القول، كما هم شركاء في جريمة الصمت عن الفعل.
لا أجد كثير اختلاف بين القضيتين والموضوعين!، كلاهما قضية ظلم وجور، هؤلاء السيدات يمثلن معاناة شريحة واسعة من النساء والأطفال في سوريا ممن لا ينالون دعما من مجتمع متفسخ مشوه القيم، لا يجد فيه الضعيف يداً حانية تمتد للنصرة ولا حتى أُذن عدل تستمع إلى الشكوى، كذلك "هيثم المالح" يمثل بدوره وضع شريحة من الشعب السوري، ممن يرفضون النفاق والمداهنة، والسكوت عن الفساد في بلد التصدي والتحدي، الذي يعتبر نفسه ويعتبره العرب خط المواجهة الأخير مع العدو الصهيوني, ولعل جريمة "هيثم المالح" بلغت أقصى مدى في الضرب على وتر الدور بالغ السلبية الذي تلعبه أجهزة نزع الأمن في بلد يمتاز بمواقفه القومية، وهذا ما يجعلني أستهجن وأرفض أن تتدخل الدول الغربية في هذه المسألة!!.
"هيثم المالح" في غنى عن مثل هذه الأصوات التي تنادي بحريته، في محاولة قذرة منها لانتهاز الفرصة للغمز من الموقف السوري في محافل السياسة الدولية وفي مواجهة "إسرائيل"، وكنا نود لو أن هذه الدول الغربية وقبل أن توزع على الآخرين الدروس والمواعظ في مجال حقوق الإنسان، أن تلتفت إلى مجتمعاتها لترى الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان، حيث لا يرقى احترام المهاجرين فيها إلى مستوى احترامها لحقوق الحيوانات!!، وما تهبهم إياه الدساتير والديمقراطية ينتهكه مجتمع تسيره وسائل الإعلام بالتشويه والأباطيل.
" محنة "هيثم المالح" ليست محنة نظام لا يحسن قراءة التاريخ، ولا يعرف التعامل مع الأحرار والرجال والواقع والمستقبل فحسب، ولكنها محنة شعب التبس في مفاهيمه الحق بالباطل، بل هي محنة منطقة كاملة، سوريا ليست فيها إلا جزءا منها " |
إن محنة "هيثم المالح" ليست محنة نظام لا يحسن قراءة التاريخ، ولا يعرف التعامل مع الأحرار والرجال والواقع والمستقبل فحسب، ولكنها محنة شعب التبس في مفاهيمه الحق بالباطل، بل هي محنة منطقة كاملة، سوريا ليست فيها إلا جزءا من منظومة سياسية اجتماعية قائمة على الظلم السياسي والاجتماعي، يتم انتهاك حقوق الإنسان فيها باسم قضاياها الكبرى، وقد نسي حكامها أن محاربة الأعداء لا تكون بجيش من الأعداء، ولا بقوافل من السجناء الأبرياء، ولا بتكميم الأفواه، وكسر إرادة الحياة والحرية!.
مع أصوات أحرار هذا الوطن نطالب بإيقاف هذه المهزلة/الفضيحة بحق "هيثم المالح" وإخوانه وأخواته من رجال ونساء الشرف والشجاعة والمحنة، كما بحق هذه الأمة التي تستحق شيئا من الحرية وشيئا من الكرامة وشيئا من الاحترام من قبل حكامها، قبل ألا ينفع قول ولا رأي في مواجهة طوفان أعمى أصم قادم لا محالة!.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.