تجفيف ينابيع التدين في الضفة الغربية

ياسر الزعاترة - عنوان المقال: تجفيف ينابيع التدين في الضفة الغربية



بعد دعوة محافظ مدينة نابلس جبريل البكري إلى الانفتاح ونبذ التزمت الديني، جاء رئيس وزراء السلطة ليؤكد نفس المسار بقوله "إن الحاجة ملحة للعمل على وضع حد للعديد من مظاهر التزمت التي باتت تلف أوساط المدارس والجامعات الفلسطينية".

يأتي ذلك في سياق العمل على تجفيف ينابيع التدين في المجتمع الفلسطيني، وهي السياسة التي انطلقت من تونس خلال الثمانينيات بمسمى "سياسة تجفيف الينابيع"، ثم حصلت على شهادات تزكية من عدد من الدول الغربية بعد نجاحها الظاهر، قبل أن تبدأ الصحوة في استعادة بعض حضورها في المجتمع رغم أنف النظام.

لا يحتاج المرء إلى الكثير من دقة الملاحظة كي يدرك ملامح الانحسار التدريجي (النسبي بالطبع) في مد التدين في المجتمع الفلسطيني خلال السنوات الأخيرة، الأمر الذي له صلة بالسياسة الرسمية التي ترى أن برنامجها سيبقى مهددا بالتراجع، وربما بالانهيار بين لحظة وأخرى إذا لم يجر التخلص من منظومة التدين في المجتمع، وأقله تحجيمها إلى حد كبير.

ربما قيل إن ذلك جزء لا يتجزأ من منحنى التراجع الذي وسم الصحوة في أكثر أجزاء العالم العربي، وهو ما يبدو صحيحا بهذا القدر أو ذاك، لكن ذلك لم يحدث بمحض الصدفة، وإنما جاء نتاج سياسة رسمية أخذت ترى في تلك الصحوة خطرا على الأنظمة، في حين كانت الولايات المتحدة والغرب قد أخذوا ينظرون إليها بالكثير من الريبة، ولو شذ نظام عربي مثلا عن مسار التحجيم لشاهدنا الفارق دون شك.

في السياق الفلسطيني يمكن القول إن فلسفة المسار الجديد الذي اختطته السلطة خلال مرحلة "محمود عباس – سلام فياض" تتلخص في أنه من الصعب إقناع المواطن الفلسطيني باستبدال قضية الوطن المقدس والتحرير بمسألة الرفاه والرواتب، في ظل صحوة دينية حقيقية، ولا بد لتمريرها من نشر ثقافة من نوع مختلف على الصعيد الديني والتعليمي والاجتماعي، وبالضرورة الوطني.

من المؤكد أن زمن انتفاضة الأقصى قد شهد الكثير من الصعود في مد التدين في المجتمع الفلسطيني، وكانت ظاهرة الاستشهاديين هي التجلي الأبرز لذلك الصعود، ومعه حركة المساجد وانتشار الخطاب الإسلامي على نحو لم يسبق له مثيل حتى أيام الانتفاضة الأولى التي اندلعت نهاية عام 1987.

لا خلاف على أن الصحوة الدينية قد شملت معظم العالم العربي والإسلامي، لكن كثيرين لا ينتبهون إلى أن ذلك قد تم في جزء أساسي منه بتأثير من انتفاضة الأقصى أيضا، إلى جانب الهجمة الغربية على الإسلام والمسلمين إثر هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول في الولايات المتحدة، التي شهدت أشرس تجلياتها في احتلال أفغانستان ثم العراق.

في هذا السياق، أدرك رموز السلطة أن الانتقال بالوعي الشعبي من زمن الجهاد والشهادة والتحرير والأقصى والمقدسات إلى زمن "السلام الاقتصادي" لصاحبه نتنياهو، وما ينطوي عليه من قيم جديدة، يتطلب تغييرا في المزاج العام، وهو ما يستدعي استهداف مد التدين بوصفه النقيض لذلك الزمن.

والحال أن مسيرة تحجيم مد التدين في المجتمع الفلسطيني خلال السنوات الأخيرة لم تعد من النوع الذي يتحرك في الخفاء، بحيث لا يدركه الناس، إذ إنها تتم على قدم وساق في وضح النهار، وعلى أكثر من صعيد.

تبدأ مسيرة التحجيم من المساجد التي هي عنوان الصحوة والرافد الأساسي لها، حيث تمت السيطرة عليها أولا من خلال إقالة أكثر الأئمة والخطباء القادرين على تعبئة الناس في الاتجاه الصحيح، وغالبيتهم بالطبع من حركة حماس أو من أنصارها، كما مُنع الأئمة والخطباء الجدد، أو من تبقى من الطاقم القديم من "التحريض" بحسب المفهوم الإسرائيلي.

وهذا ما أكده الرئيس الفلسطيني نفسه في لقاء مع صحيفة هآرتس الإسرائيلية (15/12/2009) حين قال "لقد فرضت خريطة الطريق مطالب من جميع الأطراف. كان علينا أن نوقف الهجمات الإرهابية، الاعتراف بإسرائيل وحتى وقف التحريض. لذا تعال وانظر ما قد فعلنا. على الرغم من أن اللجنة المشتركة لمكافحة التحريض لم تعد فعالة، فقد عملنا ونعمل ضد التحريض. قالوا إن هناك مشكلة في التحريض خلال خطب الجمعة في المساجد. اليوم لم يعد هناك المزيد من التحريض في أي مسجد".

لم يتوقف الأمر عند مسألة الخطباء والأئمة، بل شمل مراقبة الناس داخل تلك المساجد، بحيث يجري استدعاء كل من يقوم بأي نشاط خارج السياق، كما تجري مراقبة أية تجمعات يمكن أن تشتم منها رائحة التسييس.

وقد وصل الحال حد خوف الناس من التردد على المساجد بشكل دائم، خصوصا أنصار حماس الذين يلاحقون بشكل يومي.

قيل الكثير فيما يتصل بالإجراءات التي اتخذها وزير الأوقاف محمود الهباش فيما يتعلق بالمساجد (هو لا يأخذ قرارات وإنما يتلقى أوامر)، وقد أنكر هو ما نشرته صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية بخصوص خفض صوت الأذان خشية إزعاج المستوطنين.

لكن عموم المواقف الأخرى ذات الصلة بالمساجد ووزارة الأوقاف ليست من النوع الذي يمكن إنكاره.

لم يتوقف الأمر عند المساجد، بل شمل ذلك عمليات الملاحقة التي تعرضت لها سائر الجمعيات الخيرية والاجتماعية التي تساهم في نشر التدين في المجتمع الفلسطيني، وكذلك حال دور القرآن ولجان الزكاة، وجميعها وضعت تحت إدارة أناس غير ذوي صلة، بل يذهب بعضهم في الاتجاه المناقض من حيث التفكير والتوجه في كثير من الأحيان.

إلى جانب المساجد، تمت السيطرة على الوضع التعليمي، حيث تعرض المعلمون الذين تشتم منهم رائحة التسييس في الاتجاه الإسلامي (يشمل ذلك المعلمات أيضا)، تعرضوا للإقالة والاستبعاد، بينما جرى تكريس خطاب خاص في المدارس لا يسمح باستعادة الوضع القديم، بل يبرر الوضع الجديد.

ربما لم يصل الأمر حد تغيير المناهج بشكل جذري إلى الآن، ولكن العملية التعليمية بذاتها لم تسلم من تغيير في الهوية والتوجه بحيث تكف عن إنتاج وعي وطني وإسلامي يتمرد على الاحتلال.

الجامعات التي كانت هي حاضنة التدين ومنبعه الرئيسي في المجتمع الفلسطيني تعرضت لحملة شرسة أيضا، وذلك عبر استهداف الكتل الإسلامية ورموزها، حيث لم يعد بوسع تلك الكتل -التي كانت شعلة نشاط- تنظيم أي فعاليات يمكنها التأثير في المجتمع المحيط.

ولعلنا نشير هنا إلى أن الجامعات في الضفة الغربية كانت حاضنة التدين بالفعل، وهي التي أنتجت الانتفاضة الأولى والثانية، وهي التي كانت تؤثر في المجتمع المحيط بشكل دائم، لا سيما جامعة النجاح في مدينة نابلس، وكذلك جامعة بير زيت وسائر الجامعات الأخرى.

هناك ما يتعلق بالسلوك العام، حيث جرى تشجيع سائر الممارسات التي تتناقض مع حركة التدين في المجتمع، وقد تابع الجميع حركة افتتاح النوادي الليلية والبارات في عدد من المدن الفلسطينية الكبيرة، وهي حركة لفتت انتباه الصهاينة أنفسهم وكتبت عنها الصحافة الإسرائيلية.

وهذه المظاهر غابت تماما خلال انتفاضة الأقصى، وربما قبل ذلك، خلافا لما كان عليه الحال خلال الستينيات والسبعينيات، الأمر الذي كان يتم برعاية المحتلين الذين يدركون أهميتها لمعركة السيطرة على المجتمع الفلسطيني.

ورد في الأثر عن الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه "أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"، وعندما تتحرك السلطة بكل أدواتها في اتجاه مواجهة حالة التدين، وتعزيز الاتجاه الآخر، فإن المجتمع سيتأثر من دون شك، كما أن استخدام بعض الدوائر السلفية التقليدية لمواجهة التدين ذي الطابع المسيس كما تمثله حركة حماس سيساهم في الأمر بهذا القدر أو ذاك، الأمر الذي يتكرر في عدد من الدول العربية، في حين تستخدم أخرى النموذج الصوفي.

ولنتخيل كيف تروج تلك الدوائر لمحمود عباس بوصفه وليا للأمر الذي لا يجوز مجرد انتقاده في العلن (فضلا عن الخروج عليه)، وهي دوائر تتلقى الدعم من الخارج والفتاوى كذلك، في حين تحظى بدعم السلطة وأجهزتها، الأمر الذي سيستمر حتى تنتهي المهمة (إذا انتهت بالطبع)، فيما يتوقف حال انتهائها.

من الصعب الجزم بمآل هذه الخطة "خطة تجفيف الينابيع الجديدة"، لكن المجتمع الفلسطيني لن يستسلم لهذا المسار الذي يحمل بذور فشله من دون شك، حتى لو مرّ لبعض الوقت، لا سيما أن سياسة الرشوة المعتمدة (الرفاه الاقتصادي) لن تطال الجميع، بل ستخدم فئة دون أخرى، بل ربما فئة على حساب الأخرى.

أما الأهم فهو أن الوعي الديني في المجتمع الفلسطيني ليس بتلك السطحية بحيث يمكن شطبه بسهولة، كما أن حيوية ذلك المجتمع سترفض مقايضة الوطن والكرامة والتحرير بمساعدات المانحين، لكن ذلك لا ينبغي أن يدفع المؤمنين إلى التهاون في مواجهة هذه الخطة كي لا تذهب بعيدا في ضرب الأسس التي تمكن المجتمع الفلسطيني من مواجهة عدوه وتحرير أرضه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.