الصحافة السودانية.. زوار أول المساء

اسم الكاتب: عبد الله علي إبراهيم



لم أصدق أذني حين قال لي محرر جريدة الأحداث السودانية قبل أيام إن الرقابة حجبت عمودين متتالين مما أكتبه بصورة راتبة فيها. وليس مصدر تكذيبي خيبة ظن في الحكومة، إذ ليس هناك مما تفعله دولة الإنقاذ بالسودان ما يدعو للعجب، ولكن مصدر دهشتي أن هذه هي المرة الثانية فقط التي يكره الأمن فيها ما أكتبه خلال أكثر من عقد من الكتابة اليومية والأسبوعية بالصحافة.

فقد تعاقدت مع نفسي على أن أكتب ما ينشر لا ما يحجب، ولم يكن هذا التعاقد خشية من الدولة بل كان إدراكاً مني للضرورة. فقد أسعدني أننا انتزعنا حرية الإصدار المتعدد للصحف من الإنقاذ في آخر التسعينيات بعد لأيٍ عزيمةً منا، وبعد فشلها الذريع في تجربة الصحافة المؤممة.

ورأيت في هذا الحق المستعاد ما يستوجب الحرص، وسيكون من سوء التقدير أن تكتب في هامش الحرية المزعوم أو المرتجل غير عابئ بمثل هذه الحقائق.

كان بوسعي أن أنقل الكلمتين إلى صحافة الأسافير مشفوعاً بـ"حظر من النشر" كما يفعل جماعة من زملائي الكتاب، ولكني لست من أولئك الذين يحرصون على إقامة البرهان على سوء الإنقاذ كلما هل صباح.

ومن الجهة الأخرى، منعني من هذا الإجراء البسيط أن العمودين كانا حول اضطهاد مستنكر على حزب المؤتمر الشعبي، إذ اعتقلت الحكومة رئيس الحزب الدكتور حسن الترابي يوم 16 مايو/أيار 2010 للمرة الخامسة منذ مفاصلة الإسلاميين عام 2000 بعدما جاؤوا إلى الحكم عام 1989، وهي مدابرة معروفة بخلاف "القصر" رمزاً إلى عرين رئيس الجمهورية السيد البشير، و"المنشية" رمزا للحي الراقي في الخرطوم الذي يسكنه الترابي على ضفة النيل الأزرق.

ووقع الاعتقال الأخير في البادي لقول الترابي الذي ما فتئ يدعو البشير للتسليم بقضاء المحكمة الجنائية وقدرها، إنه يؤيد حركة العدل والمساواة (المتمردة في دارفور) في مطلبها ولا يزكي تكتيكها العنيف. وللقصر أصلاً شكوكه الكبيرة (أو يقينه) أن الترابي من وراء الحركة.

"
من المؤسف تواتر الأنباء عن تعذيب وقع لأبي ذر وهو في ذمة الأمن.. والأكثر أسفاً أن المحكمة انعقدت سرا بحيث لم ير الناس العدالة تأخذ مجراها تحت ناظريهم، ناهيك أن تكون قد وقعت أصلا
"

وشمل التضييق هذه المرة صحيفة الحزب "رأي الشعب"، فصادروها ثم أغلقوها بتهمة التحريض على كراهية الدولة بالنشر الضار.

وكان معروض الحكومة للمحكمة مقالة بالصحيفة كتبها الأستاذ أبو ذر الأمين وعنوانها "انتخابات فوز علي عثمان وليس البشير"، مفادها أن الذي فاز بالرئاسة حقاً هو نائب البشير الأستاذ علي عثمان محمد طه (نائب الترابي على عهد الجبهة الإسلامية القومية قبل انقلاب 1989) بحيل تلوح أنه ربما كان الوريث المؤجل للحكم.

ومن المؤسف تواتر الأنباء عن تعذيب وقع لأبي ذر وهو في ذمة الأمن كما في رسالة مؤثرة لزوجته كشاهد عيان على آثار ذلك. والأكثر أسفاً أن المحكمة انعقدت سرا بحيث لم ير الناس العدالة تأخذ مجراها تحت ناظريهم، ناهيك أن تكون قد وقعت أصلاً.

وبلغ الضيق بإجراءات المحكمة حدا انسحب فيه فريق الدفاع احتجاجا ليحل محلهم فريق احتياطي. وحكمت المحكمة بسجن أبي ذر خمس سنوات ومدد أخرى على رفاقه.

وصاحب هذا التطويق للمنشية عودة جهاز الأمن إلى الرقابة القبلية للصحف في الأيام الماضية، وفيها يبث الجهاز بعناصره من زوار أول المساء لنزع المواد التي حكم ألا تخوض الصحافة فيها. وكان البشير قد رفع هذه الرقابة قبل الانتخابات، بما فهم الناس منه أنها لن تعود أبدا.

وأحزن الناس أنها عادت بـ"أعجل ما تيسر" (والمصطلح من لغة السيد الصادق المهدي في الثمانين وهو كثير الدوران على الألسن).

وبدا للناس أن حرية التعبير من محرمات دولة الإنقاذ بغض النظر عن وضعها الدستوري، دكتاتورية كانت أو برلمانية.

مع صحة القول باشمئزاز الإنقاذ من حرية الصحافة، فإنه ربما انتفعنا أكثر بتحليل واقعة التعدي الفظ على الصحافة السودانية بالنظر إلى "الفجور" في خصومة المنشية والقصر. والإسلاميون هم من أذاعوا عبارة "الفجور في الخصومة" في القاموس السوداني السياسي.

فليس صدفة ربما حجب عمودي (الذي لم يحجب قط، تقريبا) مرتين بالتتابع لأنني تناولت فيه نزاع القصر والمنشية. وكانت زاوية النظر هي فجور خصومتهما التي عرضت لها سلفا.

أرقني دائماً الخوف من مترتبات نزاع القصر والمنشية على مستحق الديمقراطية، فقد دق رفاق العقيدة بينهما عطر منشم دقاً خشيت أن تندلق شحناؤه في مجرى مساعي الوفاق الوطني في أول هذا العقد فتفسده. وبلغ من فسولة هذه الخصومة أن راج بين الناس المثل "أبو القدح (السلحفاة) يعرف من أين يعض رفيقه".

وكان عضاضهما قبيحا، تأذى منه شيعة الترابي في رزقهم ومصادر تمويل حزبهم. وبلغ الفجور حد إخلاء منزل حكومي أقام فيه عضو مميز لمجلس ثورة الإنقاذ بالقوة الجبرية لمظاهرته الترابي.

من الجهة الأخرى ردت المنشية بالمثل، فوقعوا كيداً وثيقة تفاهم مع خصم الأمس في الحركة الشعبية في جنيف عام 2004. ومن رأي الدكتور دوغلاس جونسون أن الوثيقة انطوت على قيام المؤتمر الشعبي بعمل مسلح في مناطق "راجا" الأكثر إسلاماً في جنوب السودان.

ووقع بالفعل صدام مسلح بين جماعة ما بتلك الجهة والقوات الحكومية، ناهيك عن اتهام الحكومة للترابي بأنه كان وراء "فتنة" حركة العدل والمساواة.

بل أصبحت أسرار الزمن الجميل مشاعة، فاتهم الترابي جماعة بالاسم بمحاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك في إثيوبيا عام 1995 وأنهم تدخلوا بقوة في انتخابات ملاوي لترجيح حزب دون آخر. ويقف الترابي الآن سافراً مع تسليم البشير للمحكمة الجنائية الدولية.

"
يبدو أنه متى تشاجر الخصمان: المنشية والقصر، ظهرت العاهة على جسد الصحافة
"

خشيت على حرية الصحافة من وعثاء عضاض سلاحف المنشية والقصر، فأول ما رشح منه وتأذت الصحافة منه كان في مايو/أيار 2000 حين حجبت الحكومة جريدة الصحافي الدولي وصحفا أخرى عن الصدور لأن بعض وجهات نظر المنشية في الخلاف نشرت.

كتبت عن هذا التضييق، وقلت إن فرض أحادية التبليغ عن نزاع القصر والمنشية "يرجع بنا القهقرى إلى أيام الصحف المؤممة التي حسبنا أن الإنقاذ قد قنعت منها ظاهراً وباطناً". ويبدو أنه متى تشاجر الخصمان المنشية والقصر، ظهرت العاهة على جسد الصحافة.

وبلغ من إشفاقي أن يصير الترابي، كثير التردد على الاعتقال، عنوانا للديمقراطية ومقياسها عندنا إلى صور من اللؤم بحق سجين رأي مهما كان.

ولكنني أردت أن لا يحملنا إصر السلاحف ما لا طاقة لنا به، فأكثر القصر الاحتجاج على لقاءات للترابي مع المجاهدين وضباط نظاميين بغرض الإطاحة بالحكم. ورد القصر بتأمين الرئيس البشير بمحافل للبيعة.

فكتبت عن خشيتي على هامش الحرية الذي انفتح من "نباح" الحكومة في وجه الترابي بغير إعمال للقانون، فهو ليس فوق القانون ولا تحته، فإذا توافرت للحكومة أدلة على تخريبه فلتعرضه على القضاء. وأضفت أنه "إن لم نحتكم إلى القانون ربما قادنا هذا إلى إجراءات استثنائية يحرم فيها الترابي من حقوقه الشرعية" في المحاكمة العادلة.

وأكثر ما أزعجني أن المعارضة للإنقاذ -التي قل فيها الاعتقال- جعلت من اعتقال الترابي موضوعا أثيرا للتعبئة.

وقلت إنه ليس بوسع خصوم الترابي قبل المفاصلة مع الإنقاذ -على كراهيتهم المؤكدة له بما يفوق كرههم للبشير- أن يستثنوه من مطلبهم السياسي بحرمة الحريات, وكانوا تمنوا طويلاً زورة الاعتقال للترابي ثم لما أصابته سارعوا إلى استنقاذه لأنها تمت بيد عمرو (عمر البشير) لا بيدهم.

وطلبت منهم مع ذلك أن يتحوطوا في التضامن مع الترابي، فقد استولت على الترابي إستراتيجية الإطاحة بنظام البشير، وسيفكر في التكتيكات ارتجالا بغير اعتبار لحقائق ميزان القوة.

وأضفت أن عليهم أن يتحوطوا حتى لا يستفيد معتاد على تسفيه الحقوق الديمقراطية كالترابي من مظلتها بغير قيد أو شرط. وضربت مثلاً بالفيلم الأميركي "الشعب ضد لاري فلنت"، ولم أقصد حرفية المماثلة بالطبع. ففلنت من رواد صحافة الجنس تربصت به جماعات أخلاقية تريد حظر تجارته، فكان دفاعه عن حقه في حرية التعبير أنه أسوأ الأميركيين استخداماً لذلك الحق، ولكن حرمانه منه سيتداعي وسيشمل عن قريب من يحسنون إلى ذلك الحق.

وقلت إن حرصنا على الديمقراطية سيطال الترابي الذي لم يوقر هذا المعنى عندما كان له سلطان في الأرض، رغماً عنه كمستخدم سيئ لها.

لم أتجاوز في كلمتيّ المصادرتين هذه المعاني عن وجوب ألا تكون الديمقراطية ضحية عضاض القصر والمنشية. وأعدت قولي إن الذي بينهما أشد وأنكى مما بين الحكومة وأي معارض آخر.

وبلغ من تردد الترابي على كوبر أن علق الأستاذ محمد عبد الماجد في مناسبة إطلاق سراحه الأخير "إنه إفراج مؤقت"، بالنظر إلى مصطلح الجمرك الخاص بسيارات السودانيين المغتربين.

"
ليس بوسع خصوم الترابي قبل المفاصلة مع الإنقاذ -على كراهيتهم المؤكدة له بما يفوق كرههم للبشير- أن يستثنوه من مطلبهم السياسي بحرمة الحريات
"

وفي الكلمتين أخذت على المنشية أنها ربما لم تحسن ردة الفعل على بؤس أدائها في الانتخابات الأخيرة وهي التي لم تعلق أملاً في النجاح من وراء خوضها. فالمسموع أنهم قالوا إنها ستزور مثلهم مثل باقي المعارضين. ولكن خلافاً لهم قرروا خوضها في حين اضطرب أمر الآخرين كثيرا.

وكره الترابي من المعارضة هذه الذبذبة بين خوض الانتخابات ومقاطعتها فاعتزلهم وانبرى قائلاً إنهم قوم أضاعوا رأس الخيط. وأشهد أن المنشية نجحت في تكتيكها إلى حد كبير، فهم مثلاً غطوا الدوائر كلها بما فيها دارفور التي جاء منها معظم نوابهم، بل نال الذي ترشح منهم لرئاسة البرلمان نحو أربعين صوتا.

وقال الترابي إنه سيقبل بالنتيجة ما تحقق له إعادة بناء حزبه وسط الناس بالانتخابات، ولكن سرعان ما تغير الموقف إلى رفض للنتيجة لأنها مزورة، وهذا من غير المأذون به في اللعبة السياسية، فأنت لا تغير تكتيكا عند نهاية السباق قبل دراسة حصيلتك منه، فهذا مربك.

وكان دليل الترابي على التزوير أن لهم مخبرين من داخل الحكومة نقلوا لهم تدابير التزوير ونجاحه، وكأن هذا لم يكفه في عضاض القصر فزاد بوجوب تسليم البشير نفسه للجنائية وبأنه يؤيد دارفور وقضيتها ولكنه يتحفظ على تكتيكاتهم. وتعرف الحكومة عن الترابي ودارفور (أو تحدس) أكثر من ذلك، وتم اعتقاله.

ولاضطراب التكتيك في السياسة ثمنه الفادح، وأعدّ محنة أبي ذر ورفاقه من دلائل الإرباك الذي يحدث من تغيير الحصن في السباق. فقد وجدت صحيفة المنشية "رأي الشعب" نفسها مناطة بالترويج لخط جديد للحزب لم تستعد له، وهذا في نظري إطار مناسب لفهم نبرة مقال أبي ذر سالف الذكر ومهنيته.

ويؤسفني بالطبع أن يكون الصحفي وصحبه في السجن عقاباً غير مستحق للكتابة، وقطّعت نياط قلبي مذكرة زوجته عن حاله. ومن فرط أسفي على عافية محرري الجريدة قلت إنني لو كنت رئيساً (أو مديراً) لتحرير "رأي الشعب" لعبرت عن إعزازي لأبي ذر وصوني له بأن أرجأت نشر مقاله ليبقى على رأيه حتى يتأكد من مصادره الموصوفة بـ"مصدر ذي وزن" أو ذاك الذي "نقل عن الرئيس البشير" أو غيرها، ويفلفل قصتهم فلفلة يتأكد أنها لم تقصد الوقيعة بين الرئيس والأستاذ علي عثمان لا غير. ولكنت طلبت من أبي ذر بالذات أن يقيم بينة أفضل عن المشروع النووي الإنقاذي المشترك مع إيران الذي كشف عنه، فاقتصار برهانه على قول الرئيس إنه يريد إدخال الطاقة الذرية إبعاد في النجعة.

وقلت في كلمتي المصادرة إنني وددت لو أن كل الدوائر: الأمن والقضاء والصحافة والمعارضون، توقفت عند عنصر المهنية في الشغل الصحفي موضوع القضية. فلربما خرجنا، متى تأنينا عند آداب المهنة متجاوزين سخائم القصر والمنشية الرديدة، بتربية في الديمقراطية تطبعنا على التحقق والصبر عليه كعادة ثقافية.

فلو احتكمنا إلى المهنية لانعقدت محكمة أميز لرأي الشعب. وحكيت في كلمتي قصة جودث ميلر التي فقدت عام 2005 وظيفتها في نيويورك تايمز لشططها المصدري بعد ثلاثين عاماً من الخدمة، وهي صحفية ليست غريبة على السودان، فقد كتبت بسفه كثير عن الترابي ككابوس في كتابها "الناطقون باسم المحتقرين.. زعماء الأصولية في الشرق الوسط".

وإلى هذه الصحفية ربما نرد قيام حرب العراق، فقد وقعت ضحية مصادر مشبوهة لتدفع بقوة في حكاية وجود أسلحة دمار شامل في العراق، أو أنها رغبت في ذلك. وكانت روايتها هي التي استشهد بها أقطاب النظام مثل كولن باول للترويج لغزو العراق.

ثم تورطت في قصة الكشف عن هوية العميل السري لوكالة الاستخبارات المركزية فاليري بالم في نفس سياق أسلحة الدمار الشامل، مما يطول شرحه. ورفضت الكشف عن مصادرها وقضت المحكمة بسجنها ثم انحنت للعاصفة.

لا أريد أن أبدو كمن يجرم الضحية المنشية التي حالها ظاهر بين يدينا، سجن ومصادرة واعتقال.. ولكن تقول العرب "تقرع العصا لذي الحلم". فما بيننا وحكومة البشير قضية حرية التعبير، وهي قضية المنشية ولكن لابسها من داحس الخلف وغبرائه ما جعلها ورما.

ونعيذ نظرات صادقة من الديمقراطيين السويين أن يحسبوا الشحم في من شحمه ورم. وأتمنى أن تتحول مناشداتنا للحكومة بالصفح عن أبي ذر وغضباتنا عليها إلى نظر في المهنية التي من وراء ذلك كله. وقد حجبت سرية المحاكمة أكثر هذا. وآمل أن تسود الحكمة المنشودة نترقى بها في المهنة ونتخلق بعادة الديمقراطية.. وباب ذلك واسع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.