العالم مابعد موجات سفن الحرية

العنوان: العالم ما بعد موجات سفن الحرية



تصدع قرار العزل والإقصاء الأميركي
التحول الأوروبي من الخفوت إلى الانطلاق الوئيد
أردوغان وصوت الفصاحة والوضوح
الموقف الإسرائيلي وارتباك المشهد

ساهم الفعل "الإسرائيلي" الأخير بالاعتداء الدموي الآثم على سفن أسطول الحرية في عرض البحر الأبيض المتوسط، بشكل مباشر أو غير مباشر، بفتح الطريق مجدداً أمام كسر الحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة، وتصديع حدة المواقف الأميركية التي تتالت منذ انتهاء إعلان نتائج الانتخابات التشريعية في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة في الشهر الأول من عام 2006، وهي المواقف التي دعت حتى اللحظة لإقصاء وعزل حركة حماس وتصنيفها ضمن قائمة قوى وفصائل الإرهاب في العالم.

فما الذي استجد الآن حتى بتنا نسمع الارتفاع المتتالي للأصوات الدولية المنادية بكسر الحصار عن قطاع غزة من جانب، والاعتراف بحركة حماس من جانب آخر باعتبارها جزءاً أساسياً من مكونات الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية التحررية.

تصدع قرار العزل والإقصاء الأميركي
لم تحصد الرعونة الإسرائيلية في المياه الدولية التي ارتكبت مؤخراً سوى حملات الإدانة والتنديد الدولية، التي لم تعد تقتنع بفحوى التبريرات الإسرائيلية في تفسير ماجرى وما يجري من حصار ظالم لقطاع غزة، ومن حرب لا هوادة فيها تشنها الدولة العبرية ضد الشعب الفلسطيني وضد طموحاته وآماله الوطنية التحررية المشروعة.

"
نجحت العنجهية وسياسة الصلف الإسرائيلية بارتكاب الجريمة الفاشية في عمق المياه الدولية ضد رسل الحرية, لكنها فشلت في تقديم الإجابات المقنعة للمجتمع الدولي بمستقبل "عملية التسوية والسلام"
"

فقد نجحت العنجهية وسياسة الصلف والغرور والرعونة الإسرائيلية الصهيونية المصطبغة بلغة القتل والدماء، بارتكاب الجريمة الفاشية في عمق المياه الدولية ضد رسل الحرية من نشطاء الإنسانية الذين تداعوا من كل حدب وصوب من أجل المساهمة في إعلاء صوت العدالة وإيقاظ الضمير العالمي من سباته العميق، بالرغم من التغطية الأميركية الواسعة التي تلحفت ومازالت تتلحف بها الدولة العبرية الصهيونية في ممارساتها على الأرض، ومنها التغطية على الجريمة التي ارتكبت مؤخراً ضد رسل الحرية والسلام فوق مياه البحر البيض المتوسط.

وفي هذا المعمعان من التحولات والتفاعلات الدولية التي تلاحقت خلال الأيام الأخيرة، ونهوض المجتمع الدولي وولادة الحركة المدنية العالمية الداعمة للشعب الفلسطيني، والتي بدأت منذ فترات زمنية بتأطير عملها وجهودها، في إطار ائتلاف دولي وحركة عالمية ضاغطة، من أجل رفع الحصار الظالم عن الشعب الفلسطيني، فقد باتت الأمور تسير الآن على سكة مزدوجة.

السكة الأولى في الدعوة لرفع الحصار نهائياً عن قطاع غزة. فالخسارة التي وقعت بإهدار واستهداف الأرواح البريئة لرسل الحرية والسلام كانت فادحة، إلا أن النتائج المباشرة بدأت تلاحق هذه العنجهية والفاشية الإسرائيلية الصهيونية، حيث بات من الواضح حدوث تحولات متتالية في مواقف الرأي العام الدولي وكافة مؤسسات المجتمع المدني ومنها الجهات العامة العاملة في مجالات حقوق الإنسان والناشطة في مختلف أنحاء المعمورة.

وترافق ذلك مع ارتفاع وتعالي حدة الصوت الدولي المنادي برفع الحصار الظالم والجائر عن قطاع غزة، وذلك من قبل المؤسسات الدولية عامة، ومن قبل غالبية دول العالم ذات الحضور والتأثير في صناعة القرار الدولي، ومن قبل الأمين العام للأمم المتحدة (بان كي مون) الذي خرج عن صمته المعتاد هذه المرة، وطالب برفع الحصار عن قطاع غزة في تصريح إعلامي يُحسب له.

والسكة الثانية في الاعتراف بحركة حماس كمكون رئيس وأساسي في النسيج الاجتماعي والوطني الفلسطيني، وكجزء أساسي من حركة التحرر الوطني للشعب الفلسطيني، ورفعها عن قوائم الإرهاب الأميركية والأوروبية.

فقد كانت واشنطن قد سعت في المرحلة الماضية، وعبر جهودها وتأثيرها، لتشكيل ائتلاف دولي مناهض لحركة حماس فور الإعلان عن النتائج النهائية للانتخابات التشريعية التي جرت في الداخل الفلسطيني المحتل عام 1967 وذلك في يناير/ كانون الثاني 2006.

التحول الأوروبي من الخفوت إلى الانطلاق الوئيد
لكن المواقف الأميركية إياها، لم تصمد على طول الخط، حيث بادرت موسكو ومن حينها بكسر الموقف الأميركي، بفتح قنوات الاتصال ومن أوسع الأبواب مع حركة حماس من خلال توجيه دعوة مركزية لقيادة حركة حماس لزيارة موسكو، وتوجت تلك الزيارة بزيارات لاحقة، وباتصالات لم تتوقف كان آخرها الاجتماع الثلاثي الذي جمع الرئيسين ديمتري ميدفيديف وبشار الأسد ومعهما خالد مشعل، في خطوة ملموسة تؤكد بأن يد الولايات المتحدة وإسرائيل لن تكون اليد الطولى على طول الخط في تقرير مصائر المنطقة، وأن قدر الشعوب لا يرتسم دوماً داخل أروقة وغرف القوى المتحكمة بالسياسات الدولية الخارجية.

"
تصاعدت المواقف الأوروبية وانتقلت من (الخفوت إلى الانطلاق الوئيد أولاً بأول) في الدعوة للاعتراف بحركة المقاومة الإسلامية "حماس" ورفعها من ما يسمى قوائم "الإرهاب" الأوروبية والأميركية  "

وكانت العديد من المواقف الأوروبية قد تصاعدت وانتقلت من (الخفوت إلى الانطلاق الوئيد أولاً بأول) في الدعوة للاعتراف بحركة المقاومة الإسلامية (حماس) ورفعها من ما يسمى قوائم "الإرهاب" الأوروبية والأميركية (قائمة وزارة الخارجية وقائمة الكونغرس) والذين باتوا على قناعة تامة بأن الوصول إلى حل سياسي للقضية الفلسطينية لا يمكن أن يتم دون حركة حماس، خصوصاً بعد أن فرضت حماس نفسها كقوة على الأرض وفي الميدان. وعليه يمكن أن نفسر تواتر اللقاءات الخلفية البعيدة عن الإعلام والأضواء بين قيادات من حركة حماس وسلسلة من المبعوثين الأوروبيين في أكثر من عاصمة ومكان.

إن تطور المواقف الدولية، وهذا السيل من حشود الدعم والإسناد للشعب الفلسطيني من أجل فك الحصار عن قطاع غزة والاعتراف بقوى المقاومة، يؤشر في جانب منه على انكفاء الأحلام والآمال "الإسرائيلية الصهيونية" التي سعت لتحطيم قوة الحضور السياسي والعملي لقوى المقاومة الفلسطينية.

كما يؤشر لتطور مكانة حركة حماس، حيث صدر على سبيل المثال قبل عام مضى تقرير للجنة برلمانية بريطانية مشتركة بين كل الأحزاب بضرورة إنهاء مقاطعة حركة حماس باعتبار المقاطعة سياسة أثبتت فشلها، وتبع ذلك التقرير سلسلة لقاءات مطولة بين قيادات من حماس وقيادات أوروبية وأميركية ومنها الرئيس الأسبق جيمي كارتر الذي حمل مقترحات غير بعيدة عن مواقع القرار في واشنطن، وصدر بعد ذلك تقرير أخير عن "مجموعة الأزمات الدولية" اعتبر بأن سياسة إسرائيل القائمة على "عزل حماس وفرض العقوبات على غزة قد أفلست وأعطت عكس نتائجها المرجوة".

وتبع ذلك قيام أنصار معسكر "مناهضة الإمبريالية" في أوروبا، وقد أطلقوا حملة توقيعات ضخمة في عموم القارة الأوروبية من أجل الدعوة لرفع فوري وغير مشروط لحركة حماس من قائمة "الإرهاب"، التي يُحظر بموجبها إجراء اتصالات مع الحركة. ودعا ذلك المعسكر في عريضة وزعها وبخمس لغات أوروبية، إلى الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره ومقاومة الاحتلال، واعتبار حركة حماس صوتاً شرعياً للشعب الفلسطيني على طريق نيل الحرية.

ووقع على العريضة، حتى الآن، العشرات من البرلمانيين والشخصيات الأوروبية الوازنة، من بينهم أكاديميون ونشطاء حقوقيون وإعلاميون ومهنيون وأعضاء مجالس محلية.

وبالطبع فإن القول المشار إليه لا يعني البتة بأن دول الاتحاد ومجمل الدول الأوروبية تنهج جميعها سلوكاً سياسياً عادلاً على درجة مقبولة بشأن قضايا العرب في صراعهم مع الاحتلال التوسعي الصهيوني. لكن علينا أن نلحظ بأن تطور الدور الأوروبي يرتبط بالضرورة بالتطور الموازي على الجانب الفلسطيني ككل من حيث تقديم حركة حماس خطاباً سياسياً متوازناً يأخذ بعين الاعتبار الوقائع القائمة على الأرض، وينزع المبررات التي تسوقها الإدارة الأميركية بشأن حركة حماس ذاتها، التي تصنفها الولايات المتحدة باعتبارها حركة إرهابية أصولية، ونسخة فلسطينية أسمها "حماستان" من "طالبان أفغانستان".

أردوغان وصوت الفصاحة والوضوح 

"
كان صوت أردوغان الأوضح والأكثر فصاحة في إدانته للفعل المنكر الإسرائيلي تجاه أسطول الحرية، وفي دعوته العالم بأسره للاعتراف بحماس وبالمقاومين الفلسطينيين باعتبارهم حركات مقاومة يدافعون عن أراضيهم
"

وبالسياق ذاته، فإن صوت رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان كان الأوضح والأكثر فصاحة في إدانته للفعل المنكر الإسرائيلي تجاه أسطول الحرية، وفي دعوته العالم بأسره للاعتراف بحركة المقاومة الإسلامية (حماس) وبالمقاومين الفلسطينيين باعتبارهم "حركات مقاومة يدافعون عن أراضيهم"، ومشيراً في الوقت نفسه إلى أن حركة حماس فازت عبر انتخابات شرعية اعترف العالم بنزاهتها.

وبالتأكيد فإن الموقف التركي لم يكن وليد لحظته، بل جاء في سياقات معروفة بدأت حين اشتقت (تركيا حزب العدالة والتنمية) سلسلة من المواقف الجدية والجديدة التي اقتربت فيها من (المنابت والأصول) في سعي أنقرة لإعادة بناء (العقد التاريخي) الذي جمعها ويجمعها بالشرق، وبالعالم العربي وإيران على وجه التحديد.

فتركيا التي تضررت بنتائج الغزو الأميركي للعراق، اقتصادياً وسياسياً، مازالت تدفع ثمن هذا الغزو من حسابها الخاص وهي التي عارضته وتحفظت عليه، وحاولت منع القاذفات الأميركية من استخدام قاعدة (إندجيرليك) في قصف العراق إبان غزوه.

إن تركيا هذه، باتت تدرك الآن أن ما يجمعها مع الشرق هو الأساس، وأن الغرب استنزفها حتى الرمق الأخير في تمويل قوات الناتو بشرياً، وفي استغلال جغرافيتها وموقعها في المعادلة الدولية والإقليمية.

لذا علينا أن نلتقط هذا التطور في المواقف التركية، وهذا الخطاب السياسي التضامني مع قضايا العرب العادلة وفي المقدمة منها قضية فلسطين. فالخطاب الرسمي التركي الآن يكاد يتفوق في تطوره ونضوجه على العديد من المواقف السياسية للنظام الرسمي العربي.

ومن المنطقي القول بأن التقاط التطورات الإيجابية الهائلة في الموقف التركي، يعني بالضبط تنظيم التوجه العربي نحو بناء شراكة إستراتيجية مع تركيا وتنمية المصالح المشتركة.

الموقف الإسرائيلي وارتباك المشهد
في هذا السياق، لم تكن الرؤية الإسرائيلية موحدة بالأساس حول موضوع الموقف من حركة حماس وإمكانية التعاطي معها من عدمه. فالتطورات التي حدثت خلال السنوات الأربع الأخيرة، فرضت نفسها أولاً داخل المجتمع اليهودي على أرض فلسطين التاريخية، ووضعته أمام نقاشات من نوع جديد، مع تصاعد الأسئلة المصيرية التي أصبحت أسئلة يومية تطرح نفسها على كافة مستويات وشرائح المجتمع الصهيوني، ومن بين الأسئلة التي كانت ومازالت الأكثر تواتراً، نجد منها الأسئلة المتعلقة بجدوى السياسة الإسرائيلية المتبعة تجاه حركة حماس بشكل خاص وعموم قوى المقاومة الفلسطينية بشكل عام.

"
أصوات خافتة بدأت تنطلق داخل إسرائيل تدعو للتفاوض والحوار مع حماس عبر فتح قنوات الحوار المباشر أو غير المباشر بهدف استقرار الوضع من جانب والبحث عن إطار أوسع للتفاوض يجمع فتح وحماس من جانب آخر
"

وتشير المعطيات المستقاة من داخل "إسرائيل" إلى توالد قناعة شبه راسخة عند قطاعات مؤثرة من (الأنتلجنسيا) "الإسرائيلية الصهيونية" التي باتت ترى بأن حركة حماس تتمتع بتأييد اجتماعي قوي وحضور مؤسساتي مؤثّر، وتأثير سياسي غير متناهٍ داخل الرأي العام الفلسطيني، وقدرة على التكيّف في الظروف الصعبة، وخاصية مميزة بصفتها حركة جماهيرية تربطها المؤسسات بترابط متين لحاجات المجتمع، مما جعل منها قوة سياسية من الصعب تجاهلها من حيث حضورها ونشاطها المدني في المستقبل الواضح للعيان، وبأن أجيالاً جديدة من شبان ورجالات المقاومة مازالت تنبع وتتوالد في فلسطين. وذلك بالرغم من الانزياحات الواسعة في الخريطة السياسية الإسرائيلية إلى جانب سياسات القمع والتشدد تجاه العرب والفلسطينيين.

من هنا، فان أصواتاً خافتة بدأت تنطلق أيضا وبهدوء داخل إسرائيل منذ مدة ليست بالقصيرة، لكن تواتر أصواتها بدأ يعلو قليلاً حتى بات واضحاً في إيقاعاته على قطاعات من الناس داخل "إسرائيل" يطلقون مواقف تدعو للتفاوض والحوار مع حركة حماس، ويقترحون بديلاً يصفونه بأنه الأكثر معقولية عبر فتح قنوات الحوار المباشر أو غير المباشر والتفاوض مع حركة حماس بهدف استقرار الوضع من جانب والبحث بإمكانية التفاوض مع إطار فلسطيني أوسع يجمع فتح وحماس، منطلقين من ما حدث في قطاع غزة مع انكسار العملية العسكرية قبل عام دون اقتلاع حركة حماس، ومع تمدد حالة التضامن الدولي واتساعها المضطرد إلى جانب الشعب الفلسطيني.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.