السلالة الفلسطينية الجديدة

العنوان: السلالة الفلسطينية الجديدة



سلالة دايتون والسلام الأمني في الأمن الفلسطيني
سلالة السلام الاقتصادي بالضفة
سلالة غزة الفلسطينية
سلالة الأردن الفلسطينية
هشاشة المجتمعات ونخبها السياسية

يبدو أن الهوس الأميركي بـ"الجديد" قد امتد إلى الحد الذي باتت فيه أميركا تعتبر المجتمعات غير مختلفة في شيء عن ميادين الصناعة. فالمجتمعات بنظر أميركا قابلة للسحب والطرق والتشكيل بحسب حاجات السوق الرأسمالي ومصالحه. وكأن الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية تريد تعميم مفهوم الاغتراب على مستوى الاجتماع البشري تطبيقاً لمفهومها حول العولمة الشاملة.

فالاغتراب الفردي في أحد مظاهره هو عدم وجود القوة عند الفرد المغترب، أي أن الاغتراب هو شعور ينتاب الفرد فيجعله غير قادر على تغيير الواقع الاجتماعي الذي يتفاعل معه. أما المظهر الثاني للاغتراب فهو عدم وجود الهدف عند الشخص المغترب أي أنه لا يستطيع توجيه سلوكه ومعتقداته وأهدافه.

وأما المظهر الثالث للاغتراب فهو عدم وجود المقاييس أي أن الفرد المغترب غالباً ما يشعر بأنه لو أراد تحقيق أهدافه فإنه يجب عليه عدم التصرف بموجب المقاييس المتعارف عليها اجتماعياً وأخلاقياً وقيمياً. والمظهر الأخير للاغتراب هو العزل أي شعور الفرد المغترب بأنه غريب عن الأهداف الحضارية لمجتمعه.

فمن الاغتراب الفردي الذي عمقته الرأسمالية، ها هي تسعى اليوم إلى إنتاج حالات اغتراب جمعية. فمن الشرق الأوسط الجديد، إلى أفغانستان الجديد،ة إلى العراق الجديد، إلى الإسلام الجديد، وها نحن اليوم على تخوم الإنسان الفلسطيني الجديد.

"
الطروحات الجارية على صعيد حل المشكلة الفلسطينية تستهدف بشكل جلي تحويل الكل الفلسطيني إلى حالة اغترابية, بحيث ينفصل هذا الإنسان الفلسطيني عن تاريخه وواقعه وقيمه ومصالحه الوطنية
"

الطروحات الجارية على صعيد حل المشكلة الفلسطينية تستهدف بشكل جلي تحويل الكل الفلسطيني إلى حالة اغترابية بكل ما يعنيه المفهوم من معنى، بحيث ينفصل هذا الإنسان الفلسطيني عن تاريخه وواقعه وقيمه ومصالحه الوطنية ويتحول في أحسن الأحوال إلى مجرد مستهلك للسلع والمفاهيم الإمبريالية الصهيونية.

وحيث إن الاغتراب منتج إمبريالي بامتياز فإنه يتكثف في الحالة الفلسطينية بشكل يستدعي إعادة تشريح الخطاب الموجه نحو الفلسطيني حتى لا يضاف على الفلسطيني اغتراب فوق غربته. ويتحول من خلال ذلك إلى سلعة في مستودعات الصناعة الأميركية، وأداة في ماكينتها التي تستهدف صناعة الشرق الأوسط الجديد.

سلالة دايتون والسلام الأمني
الجنرال الأمير كيث دايتون المكلف بتدريب وإعادة إنتاج قوات الشرطة الفلسطيني، لتتناسب مع حاجات الاحتلال -بحسب ما صرح به من أهداف عمله ووظيفته- يقول في إحدى مقابلاته إننا بصدد إنتاج سلالة فلسطينية جديدة، ويشرح بفخر كيف أن أحد كبار الضباط الإسرائيليين قد سأله مندهشاً عن الكيفية التي يستطيع من خلالها دايتون إنتاج هذا النوع الفلسطيني، ويتساءل معه هذا الضابط الكبير عن الزمن الذي يحتاجه الجنرال دايتون لإنتاج الكثير من هؤلاء.

بحسب دايتون فإنه يجري تدريب قوات الشرطة الفلسطينية لمهمة معلنة هي بسط السيطرة في الضفة الغربية، ولكن ما أوضحه تقرير أنجزه أحد الصحفيين الإسرائيليين رافق تدريبات إحدى هذه القوات هو أنها مدربة تدريباً عالياً، ومحظور عليها إطلاق النار على جيش الدفاع الإسرائيلي تحت أي ظروف حتى لو دخل إلى أي منطقة من مناطق السلطة الفلسطينية، وأضاف أن هذه القوات المدربة والمزودة بعتاد جيد، على حد تعبيره، لا تخضع لأي فصيل سياسي أو أي قيادة من قيادات العشائر! ويعلمها قادتها أنهم لم يتدربوا لمقاتلة إسرائيل بل لفرض الأمن داخل التجمعات الفلسطينية.

ويضيف أيضاً أن هؤلاء الفلسطينيين والدولة الفلسطينية التي تعيش بسلام مع إسرائيل هي مصلحة عليا أميركية ومصلحة عليا للحليف الإسرائيلي، الذي يجب أن يبقى مطمئناً إلى عدم إمكانية تخلخل هذا التحالف.

"
البعض لم ير في نظرية دايتون (الفلسطيني الجديد) غير بعدها الأمني واستهدافها لقوى المقاومة، ولم ير أنها جزء من نظرية متكاملة تستهدف الإنسان الفلسطيني ككل اجتماعي وليس قوى المقاومة فقط
"

أليس هذا أبشع مظاهر الاغتراب؟ وعندما وصف دايتون ما يقوم به في فلسطين كان يبدو كمن يفتخر بقدرته الخارقة كجنرال على إنتاج الإنسان الفلسطيني الجديد الذي يحمي المصالح الأميركية والحليف الأبدي لها المتمثل في الكيان الصهيوني. إنه يتعامل مع الفلسطينيين كأنه مروض وحوش أو قرود في سيرك أو منتج لسلالة كلاب بوليسية.

البعض لم ير في نظرية دايتون غير بعدها الأمني واستهدافها لقوى المقاومة، ولم ير أنها جزء من نظرية متكاملة منسجمة مع التوجهات الرأسمالية الأميركية والمصالح الصهيونية تستهدف الإنسان الفلسطيني ككل اجتماعي وليس قوى المقاومة فقط. وهي تتناغم بشكل مدهش مع إجراءات تستهدف الوجود الفلسطيني في أماكن تواجده الرئيسية من أجل صوغه كجديد مغترب.

سلالة السلام الاقتصادي بالضفة
إذا كانت سلالة دايتون تعبر عن شق السلام الأمني من وجهة النظر الأميركية الصهيونية، فإن شق السلام الاقتصادي عبرت عنه خطة سلام فياض رئيس الوزراء في السلطة الفلسطينية، الذي جاء محملاً بكل مفاهيم التغريب الرأسمالية التي تعلمها في صندوق النقد الدولي عندما كان موظفاً فيه.

فالمقاومة ضد الاحتلال ممنوعة إلا في بعدها الاحتجاجي السلمي، وكأن الصراع مع الاحتلال ليس أكثر من حالة تنازع داخلي على مضامين الحكم، أو مصالح الطبقات داخل الدولة الواحدة. والمشروع الفلسطيني بحسب فياض يكمن في تعزيز معادلة النمو الاقتصادي معزولة عن واقع الاحتلال، ومعزولة عن باقي هموم الشعب الفلسطيني ومصالحه وقيمه العليا المشتركة، والتي تشكل في الواقع أساس هويته ومرتكزات مستقبله.

سلالة فياض التي يريد إنتاجها بالتوازي مع سلالة دايتون تبحث عن وسائل العيش والاستهلاك، وتقاس آدميتها بمقدار ما يتوفر لها من متطلبات العيش والاستهلاك البيولوجي في ظل الاحتلال والحواجز ومصادرة الأراضي والاستيطان. سلالة ليس لها مستقبل، بل هي تبحث في ركام الاحتلال عن لقمة نظيفة وأرقام نمو اقتصادي موهوم، وزوايا في موسوعة غينيس تحت عنوان أكبر طبق مسخن في العالم.

ويجري بالتوازي علك الحقوق الفلسطينية الأخرى كحق العودة وتقرير المصير، مجرد علك فقط، بات المواطن الفلسطيني مدركاً استحالة تحققه في ظل معادلة القوى والتوافقات والتواطؤات، مما يجعله يندفع عاجزاً نحو التحول إلى سلالة دايتونية، بحسب ما يتم التخطيط له.

سلالة غزة الفلسطينية

"
تجري الآن على قدم وساق عملية ترويض سياسية وبأشكال مختلفة، لسلخ غزة عن ماضيها ليعاد ضمها إلى سلطة فياض، من أجل أن يطبق عليها مفهوم إنتاج السلالات بحسب نظرية دايتون
"

شكلت غزة تاريخياً عنصر قلق شديد لكل قادة الكيان الصهيوني، وقد أخذت أهميتها -رغم موقعها الطرفي في المشروع الصهيوني وفي الجغرافية الفلسطينية- من خلال دورها في المقاومة المسلحة للاحتلال الصهيوني. فقد أعطاها الجوار المصري في عهد عبد الناصر فرصة التحول إلى شوكة في حلق الاحتلال وإلى رأس حربة في حرب الاستنزاف المصرية الصهيونية بعد حرب يونيو/حزيران 67

.

تجري الآن على قدم وساق عملية ترويض سياسية وبأشكال مختلفة، وعبر قوى إقليمية ودولية متعددة، لسلخ غزة عن ماضيها وموقعها الطبيعي في معادلة الشعب الفلسطيني، ليعاد ضمها إلى سلطة فياض من أجل أن يطبق عليها مفهوم إنتاج السلالات بحسب نظرية دايتون.

فهناك هجوم دولي يستعمل خطاب الحق الذي يراد به الباطل يستهدف إعادة اللحمة الوطنية الفلسطينية، وتوحيد الشرعية الفلسطينية، ولكن في إطار الترويض لعملية الممانعة والمقاومة. وكأن اللحمة الوطنية الفلسطينية بكل المحددات الاغترابية المطروحة هي هدف نبيل للشعب الفلسطيني. كما يستهدف الهجوم الانتصار للمتطلبات الإنسانية في غزة بمعناه الاغترابي حيث يختزل المتطلب الإنساني الغزي في الخبز، وكأن غزة ما بعد الخبز ستصبح جاهزة للعودة إلى حاضنة السلالات الدايتونية.

رغم أهمية تضامن المجتمع الدولي مع البعد الإنساني في غزة فإنه بات من الضروري الحذر من إدخال غزة مجدداً في معادلة ترويض تستهدف إعادة إنتاجها اغترابياً، وكأنها أمام خيارين فإما أن ترى نفسها غريبة عن شعبها الفلسطيني في الضفة، أو ترى نفسها مغتربة معه في سلالة سلام فياض.

سلالة الأردن الفلسطينية
السلالة الفلسطينية التي ترغب ذات النظرية الدايتونية السلالية إنتاجها في الأردن، هي سلالة الحقوق المنقوصة، حيث يراد أن تصبح القيمة العليا للوجود الفلسطيني في الأردن كامنة في ما يمكن تحصيله من حقوق مدنية، وما يمكن تحصيله من مكاسب محاصّة في النظام السياسي الأردني، بعيداً عن هوية هذا الوجود الوطنية الفلسطينية النضالية ضد المشروع الصهيوني التي هي جوهر شرعية الوجود الفلسطيني في الأردن.

وقد وضع الإنسان الفلسطيني في الأردن في جهاز طرد مركزي يستهدف عزل المفاهيم الطبيعية وإعادة إنتاجها اغترابياً. ووسط ضجيج جهاز الطرد المركزي المكون من تقارير منظمات حقوق إنسان إلى حرب بيانات إلى إجراءات حكومية إلى أنشطة استقطابية، تجري عملياً محاولة شد الفلسطيني بعيداً عن حقه الأساس في التحرير والعودة ومتطلباتهما، نحو معارك على حقوق لا تحمل في مضمونها عندما تعزل أكثر من حالة اغتراب إنساني مريع، ومقدمة لمعارك دونكشوتية لا تنتج إلا السحق والطحن الذاتي.

ووظيفة عملية التغريب هذه لن تطال البعد الفلسطيني في المعادلة المجتمعية الأردنية، بل تستهدف تغريب البعد الشرق أردني، حيث إن تغريب نصف مجتمع لا يمكن أن يترك باقي المجتمع معزولاً عن منتجاتها.

"
لا ندري من هو دايتون الأردن السياسي الذي سيخرج علينا بعد قليل متبجحاً بأنه استطاع إنتاج هجين فلسطيني أردني جديد مطابق للمواصفات الصناعية الأميركية
"

وكأنه يراد أيضاً للشرق أردني ألا يرى خطراً غير هذه الحالة الاغترابية، ويتجاهل الخطر الصهيوني الزاحف عليه، حتى يتحول بدوره إلى صيغة المتآمر على نفسه. وفي خضم الصراع الاغترابي يجري تحويل الأردن إلى جوائز ترضية لمفرزات نظام الأمن الإقليمي، ومكب أزمات لفوائض النصر الصهيوني، ومكاناً لتعويض الكيان عن استحقاقات ترويضه من حركة إلى دولة طبيعية في المنطقة، وموطن لاغتراب فلسطيني من نوع فريد وجديد يشبع حاجات الجدة الأميركية.

ولا أدري من هو دايتون الأردن السياسي الذي سيخرج علينا بعد قليل متبجحاً بأنه استطاع إنتاج هجين فلسطيني أردني جديد ومطابق للمواصفات الصناعية الأميركية.

هشاشة المجتمعات ونخبها السياسية
رغم إيماني المطلق بأن المجتمعات بالمعنى التاريخي غير قابلة للطرق والسحب والتشكيل كالمعادن، فإن الخوف كل الخوف يكمن في الهشاشة الراهنة لمجتمعاتنا ومظاهر ضعفها وليونتها التي باتت تغري أميركا وغيرها للقيام بعمليات جراحة وإعادة تشكيل، ستدخلنا في نفق اغتراب كالذي حصل في العراق وأفغانستان، أو ربما ندخله طوعاً بدون مجازر مستسلمين لقدرنا، وهذا طبعاً أحد مظاهر الاغتراب البشري الجمعي الفريد.

ففي المثالين الأفغاني والعراقي، ورغم المقاومة المشهودة للشعبين فإننا لا نكاد نصدق أعيننا ونحن نرى نماذج من الممارسات السياسية والأمنية في الصراعات الداخلية تحت الاحتلال الأميركي، والتي لا يمكن أن تصدر عن إنسان طبيعي ضد أبناء مجتمعه.

وهذه الممارسات ليست من القلة بحيث يمكن تجاهلها واعتبارها عرضية. وما يجري في فلسطين رغم عدم إمكانية مقارنة دمويته بما يجري في العراق فإنه يقع في نفس خانة الممارسة الاغترابية للإنسان الفلسطيني.

"
شعبنا في أمس الحاجة اليوم إلى قيادة فلسطينية موحدة تعالج انقساماتنا وتصحح خلل الشرعية المتمثل في سلطة أوسلو، وتكون هي بمثابة هيئة الأركان التي تقرر متى نواجه وكيف نواجه
"

هل ينجح دايتون في تعميم نظرية السلالة الفلسطينية الجديدة؟ وهل ينقسم الشعب الفلسطيني إلى سلالات دايتونية كل بحسب همومه الجديدة؟ وهل ستستمر حالة الفراغ السياسي كما كانت في أعقاب الانتداب البريطاني، حيث كانت الساحة الفلسطينية تخلو من قيادة سياسية موحدة ومن نظام سياسي قادر على إدارة الصراع؟.

نعم، كما الآن كانت هناك -في نهايات الانتداب البريطاني على فلسطين- تنظيمات مسلحة وقوى سياسية متعددة، ولكنها كانت تفتقر إلى هيكل سياسي جامع وموحد، ومظلة سياسية حقيقية تمثل طموحات وآمال الشعب الفلسطيني وترسم له إستراتيجيته الواحدة، فكانت نتيجتها النكبة.

شعبنا في أمس الحاجة اليوم إلى قيادة فلسطينية موحدة تعالج انقساماتنا وتصحح خلل الشرعية المتمثل في سلطة أوسلو، وتكون هي بمثابة هيئة الأركان التي تقرر متى نواجه وكيف نواجه، وإلا فإننا سنكون فعلاً سلالة جديدة لا سمح الله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.