خطورة التسرب النفطي إلى البحار

خطورة التسرب النفطي إلى البحار - الكاتب: سعد الله الفتحي



"إذا أمكن لشيء أن يتعطل فسوف يتعطل"، هذا ما اصطلح على تسميته بـ"قانون مرفي" الذي ثبتت صحته في خليج المكسيك في حادث كارثي وقع في 20 أبريل/نيسان الماضي، ولا تزال تداعياته مستمرة وبشكل تصاعدي. ونقصد بذلك تسرب الغاز والانفجار والحريق اللاحقيْن في منصة "ديب ووتر هورايزن" المملوكة لشركة "ترانس أوشن" والتي تستأجرها شركة البترول البريطانية (BP) في إنتاج الآبار البحرية بحقل "ماكوندو".

إن الأضرار التي لحقت بالمنصة وأدت إلى غرقها كبيرة جدا، ولكن الأهم من ذلك أن أحد عشر من عمال المنصة قد فقدوا حياتهم ولم تنتشل حتى جثثهم. أما البقعة النفطية الضخمة التي تشكلت نتيجة فشل صمام غلق البئر فقد ذكر أن ما يقارب 5000 برميل يوميا تتسرب من البئر إلى قاع البحر وتتجه منتشرة باتجاه الشواطئ وعرض البحر، بحيث أصبحت الآن تغطي آلاف الكيلومترات المربعة من سطح خليج المكسيك الشرقي وتعرض الحياة البحرية فيه لخطر حقيقي.

"
ما يقارب 5000 برميل يوميا تتسرب من البئر إلى قاع البحر وتتجه منتشرة باتجاه الشواطئ وعرض البحر، بحيث أصبحت الآن تغطي آلاف الكيلومترات المربعة من سطح خليج المكسيك الشرقي وتعرض الحياة البحرية فيه لخطر حقيقي
"

وقد ظهرت تقديرات أخرى تشير إلى أن حجم التسرب النفطي أكبر من ذلك بكثير، وقد يصل إلى 75 ألف برميل في اليوم وسط اتهامات لشركة (BP) بأنها تقلل من حجم التسرب.

ومن الصعب الآن تقدير ما يترتب على هذا الحادث ولحد التمكن من غلق البئر ولكن من المؤكد سيكون له تأثيرا كبيرا على مستقبل استكشاف وتطوير وإنتاج النفط من الحقول البحرية.

وفي الوقت الراهن ومنذ اليوم الأول للحادث يتم التركيز على الأضرار التي قد يسببها التسرب في ولايتي لويزيانا وفلوريدا المعروفة بتأثرها السريع بالملوثات، وخاصة ما يتعلق بالحياة البحرية هناك وصعوبة تنظيف تلك الشواطئ لكثرة تشعباتها والجزر الصغيرة التي تكون بعض أجزائها وخاصة إذا وصلت كميات كبيرة من النفط إلى الشاطئ. وإذا كانت لويزيانا قد تأثرت بالفعل وبسرعة فإن تيار الخليج يمكن أن ينقل التأثير ذاته إلى فلوريدا وكوبا أيضا.

ومن الجدير بالذكر أن هذه ليست الحادثة الكبيرة الأولى في تاريخ الإنتاج البحري إذ سبقتها حادثة مماثلة لشركة "يونيون" في سواحل كاليفورنيا في 1969 عندما انفجرت إحدى الآبار البحرية مما أدى إلى تسرب 100 ألف برميل من النفط قبل أن تتم السيطرة عليه. وأدت تلك الحادثة إلى ولادة الحركة البيئية على نطاق عالمي والاحتفال السنوي بيوم الأرض منذ السنة التالية. كما أدت إلى تشكيل وكالة حماية البيئة الفدرالية في الولايات المتحدة الأميركية وتشديد الأنظمة والقوانين ذات العلاقة.

وفي سنة 1988 حدث الانفجار في منصة "بايبر ألفا" العائدة إلى شركة "أوكسيدنتال" في بحر الشمال مما أدى إلى خسارة كبيرة في الأرواح بلغت 167 من العاملين على المنصة، مما جعل التركيز واضحا على هذه الناحية في وقت أخذت فيه الأضرار البيئية مركزا ثانيا من حيث الاهتمام. وقد أدى ذلك الحادث المروع إلى مراجعة كاملة لأنظمة السلامة وأجبرت الشركات على إجراء تعديلات وإضافات احترازية بلغت كلفتها ما يقارب ثلاثة مليارات دولار في حقول بحر الشمال.

وفي السنة اللاحقة ضربت الناقلة "أكسون فالديز" الأرض وتسرب منها أكثر من 250 ألف برميل من النفط الخام في منطقة "برنس وليامز ساوند" في ألاسكا. وقد تحملت شركة "أكسون" التكاليف المتعلقة بتنظيف المنطقة المتأثرة والتعويضات التي بلغت في ذلك الوقت 4.3 مليارات دولار كان نصفها للتنظيف فقط. وأدت تلك الحادثة إلى صدور تشريعات الناقلات ذات الجدارين المكلفة.

لذا فإن من المتوقع أن تتحمل شركة "BP" تكلفة الأضرار وتنظيف البقعة التي قد تصل إلى مليارات الدولارات، وخاصة إذا كان تلوث الشواطئ كبيرا باستمرار التدفق لفترة طويلة. وورد في الأخبار أن "BP" قد صرفت ما يقارب 500 مليون دولار في الأسابيع الأولى الثلاثة منذ بدأ الحدث. ولكن ليس من الواضح من الذي سوف يتحمل التكلفة الاقتصادية في المنطقة التي ستتأثر إلى حد كبير. وتشير بعض التقديرات إلى أن هذه الأضرار قد تصل إلى 12 مليار دولار، بما في ذلك خسارة صناعات صيد الأسماك والسياحة وغيرها.

ويقوم المحامون بدراسة هذه المسائل ورفع بعضهم دعاوى تصل إلى مليارين ونصف مليار دولار عن صناعة صيد الأسماك فقط. إلا أن القانون الفدرالي قد وضع مبلغا متواضعا لا يتجاوز 75 مليون دولار كسقف للتعويضات الاقتصادية التي يمكن أن تتحملها شركات إنتاج النفط عن مثل هذه الحادثة.

وربما كان ذلك لتشجيع إنتاج النفط البحري في السابق ولكن الرئيس أوباما والمشرعين يسعون في الوقت الحاضر إلى وضع تشريعات لزيادة سقف التعويضات إلى 10 مليارات دولار. وليس من الواضح ما إذا كان بالإمكان تطبيق ذلك بأثر رجعي إذا ما أقر، ولكن ذلك سيؤثر بالتأكيد على حسابات شركات النفط في أي تحرك مستقبلي.

وإضافة إلى الخسائر الواضحة أو المتوقعة فإن شركة "BP" قد فقدت حوالي 25 مليار دولار من قيمتها السوقية بسبب تراجع أسهمها. والتراجع نفسه ينطبق على "ترانس أوشن"، شركة الخدمات النفطية التي تملك المنصة وتشغلها وربما يطال شركة "هاليبرتون" و"كامرون" أيضا.

"
تبذل شركة البترول البريطانية "BP" محاولات مستميتة للحد من تدفق البئر، ولكن المشكلة تكمن في وقوع البئر على عمق 1500 متر، حيث لا يمكن للتدخل البشري الاعتيادي أن يعمل هناك، والتدخل الآلاتي قد يستغرق وقتا طويلا "

وتبذل "BP" محاولات مستميتة للحد من تدفق البئر، ولكن المشكلة تكمن في وقوع البئر على عمق 1500 متر حيث لا يمكن للتدخل البشري الاعتيادي أن يعمل هناك والتدخل الآلاتي قد يستغرق وقتا طويلا، فيما تزداد الضغوط على الشركة من الحكومة والأعلام ناهيك عن الناس المتضررين مباشرة. لذا فالشركة تعمل بشكل متواز على عدد من الحلول البسيطة التي قد تستغرق أسابيع قليلة ومعقدة قد تستغرق شهورا. ولم تنجح الحلول البسيطة في غلق البئر أو الحد من تسربه إلا جزئيا، وحتى هذا مشكوك فيه.

وحاليا ليس هناك سوى تنظيف واحتواء البقعة النفطية عن طريق القشط وحرق الزيت على سطح الماء أو تشتيت النفط بالمواد الكيميائية أو امتصاصه بالشعر البشري والحيواني، إضافة إلى مد مئات الكيلومترات من الحواجز الطافية لمنع أو التقليل من وصول النفط إلى الشواطئ. مع العلم بأن استخدام المواد الكيميائية المشتتة قد أصبح أيضا موضع قلق بسبب عدم معرفة تأثيراتها البيئية وخاصة عندما ترش بالكميات الكبيرة اللازمة للتشتيت.

ولحد الآن لم يؤثر الحادث على سوق النفط بسبب كون حجم العرض المفقود صغيرا، لا بل تشهد أسعار النفط انخفاضا في هذه الأيام لأسباب أخرى. ولكن على المدى البعيد سوف يتأثر الإنتاج من المصادر البحرية على الأقل في تباطؤ المشاريع المتعلقة بالحفر في المياه العميقة، وزيادة كلفتها وكلف المخاطر التي ستأخذها الشركات بنظر الاعتبار.

كما ستتم مراجعة نظم الحماية وإجراءات السلامة والقوانين والمعايير من قبل الحكومات والشركات والدوائر المتخصصة على حد سواء، مما سيؤدي إلى فترة انتظار ريثما يتحقق ذلك وما سيتبعه من زيادة كلفة المشاريع والإنتاج.

فالمشاريع التي من المرجح أن يتم تأجيلها بانتظار نتائج هذه المراجعات قد بدأت في الولايات المتحدة على سبيل المثال، إذ لا تصاريح حفر جديدة ستمنح في أي موقع بحري -بما في ذلك المنطقة القطبية- قبل أن يقوم المحققون بتحديد أسباب الحادث واقتراح التغييرات الجذرية الممكنة لتقليل أو منع مثل هذه الحوادث مستقبلا. ونتيجة للحادث قدم مدير خدمات التعدين في الإدارة الأميركية استقالته بعد اتهامه بالتساهل مع الشركات في إصدار تصاريح الحفر.

إن إنتاج الولايات المتحدة في خليج المكسيك يقارب 1.3 مليون برميل يوميا، وكان من المتوقع زيادته بنحو نصف مليون برميل يوميا بحلول عام 2015 بموجب المشاريع والبرامج الموضوعة، ولكن هذه الزيادة الآن موضع شك. فالتفتيش على منصات الحفر والتشغيل يسير بشكل متسارع الآن في خليج المكسيك، وليس هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأن منتجي النفط في أماكن بحرية أخرى لا يفعلون الشيء نفسه. ومن المتوقع زيادة الإنتاج البحري في الصين والبرازيل ودولة الإمارات العربية المتحدة في السنوات القليلة المقبلة، ولكن هذه الدول قد تلجأ إلى مراجعة متأنية قبل المضي في برامجها.

وللدلالة على جسامة الحدث فإن بعض المراقبين قد قارنوا الحادث بكارثة تشرنوبيل النووية عام 1986 التي أدت إلى تأخر كبير في تطوير الطاقة النووية، لا بل إلغاء مشاريعها في بعض الدول، ووضع جداول زمنية في أخرى للخروج من توليد الكهرباء بالطاقة النووية. وهذه الكارثة من الممكن أن تفعل الشيء نفسه بالنسبة لصناعة النفط البحرية.

حتى نظريات المؤامرة لها حصتها في الإعلام إذ يشتبه البعض في توقيت وقوع الحادث عشية يوم الأرض، وبعد فترة أيام معدودة من موافقة الرئيس أوباما على الحفر في المناطق البحرية. وذهب خيال البعض إلى حد اتهام الرئيس تشافيز وكوريا الشمالية بتدبير تخريب البئر في خليج المكسيك.

أما فوكس نيوز فتقول إن التسرب النفطي ليس حادثة، وتشير بشكل غير مباشر لديك تشيني وشركة هاليبرتون المقاولة التي قامت بتركيب معدات تحت الماء قبل وقوع الحادث. وقد أدى تبادل الاتهامات بين الشركات ذات العلاقة لزيادة هذه التقولات، مما دعا الرئيس أوباما إلى أن يطلب من الشركات وقف هذه التصرفات.

"
المنطق الاقتصادي يستدعي العالم إلى التوجه لمناطق الإنتاج ذات الكلف الاستثمارية والتشغيلية الواطئة، كما هي الحال في معظم حقول أوبك وذلك قبل البدء في استنزاف المناطق ذات الكلف العالية
"

إن حجم الاحتياطي النفطي من المصادر البحرية لا يستهان به وخاصة أنه يقترب من 260 مليار برميل، مقارنة بالاحتياطي العالمي البالغ حوالي 1295 مليار برميل. كما علينا ألا ننسى إضافة احتياطي الغاز المصاحب لكلا المصدرين، وأن أهمية الإنتاج البحري الحالي تكمن في أنه يصل إلى ما يقارب 18 مليون برميل في اليوم من إنتاج عالمي يقرب من 86 مليون برميل باليوم.

وقد كان الإنتاج البحري أعلى من ذلك قبل عشر سنوات إلا أن انخفاض إنتاج دول بحر الشمال وغيرها وتأخر مشاريع الاستكشاف والإنتاج في المياه العميقة نتيجة للكلف العالية قد أدى عموما إلى انخفاض الإنتاج من الحقول البحرية. إلا أن أهمية وحجم الإنتاج البحري في إمدادات النفط العالمية لا ينبغي أن يقود العالم إلى الكوارث البيئية، والتوسع في الإنتاج البحري يجب أن يتناسب مع التقدم في تكنولوجيا الحفر والمعدات لمنع الحوادث الكارثية الكبيرة التي نسمع بها، أو تلك الأصغر منها ولكنها متراكمة وتؤدي إلى تلوث البحار ولا نسمع كثيرا عنها كما يحدث في بعض مناطق الإنتاج في نيجيريا.

إن المنطق الاقتصادي يستدعي العالم إلى التوجه لمناطق الإنتاج ذات الكلف الاستثمارية والتشغيلية المنخفضة كما هي الحال في معظم حقول أوبك وذلك قبل البدء في استنزاف المناطق ذات الكلف العالية. إلا أن سياسة الدول الصناعية وهوسها بتقليل اعتمادها على نفط أوبك لأسباب تدعي أنها تتعلق بأمن الإمدادات قد أدت إلى التوسع في الإنتاج البحري بهذا الشكل الذي يجعل أمن الإمدادات مكلفا.

وفي منطقتنا يصل الإنتاج البحري في الخليج العربي إلى ما يقارب ستة ملايين برميل يوميا، وبالتالي فإنه من المهم بالنسبة للحكومات مراجعة الأنظمة والإجراءات والمعايير، وتشديد الرقابة والتفتيش لتجنب وقوع حوادث مماثلة في الحقول الحالية أو تلك التي قد تطور مستقبلا.

وعلى ضوء الإجراءات السريعة المطلوبة من الضروري مراقبة ما يجري في خليج المكسيك من برامج فحص وتفتيش ومحاولة تطبيق برنامج مماثل هنا. وعلى المنظمة الإقليمية لحماية البيئة البحرية (ROMPE) في الكويت أن تقود برنامجا تنسيقيا بين دول المنطقة، ومن الضروري ترقية استعدادها للاستجابة لحالات الطوارئ لتكون متناسبة مع المخاطر من خلال التعلم مما يحدث في خليج المكسيك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.