الخيار الأميركي بين إيران وكوريا الشمالية

الخيار الأميركي بين إيران وكوريا الشمالية - الكاتب: صالح السنوسي

 

ليس هناك ما يربط بين إيران وكوريا الشمالية في الإستراتيجية الأميركية، سوى الملف النووي لكلا البلدين، وليس هناك من شك في أن إمكانية التسلح النووي لأي بلد في المناطق التي تمثل مصالح حيوية بالنسبة للولايات المتحدة والغرب عموما، يعد في نظرها أمرا بالغ الخطورة، لأنه في حالة تحقق تلك الإمكانية فإن أوضاعا جديدة تفرض نفسها في تلك المناطق، تؤدى إلى تعديلات في قواعد اللعبة الإستراتيجية، بل قد تطال بعض ثوابت هذه الإستراتيجية التي أرست قواعدها مدافع بوارج أوروبا منذ القرن الثامن عشر.

لهذا فإن الربط بين كوريا الشمالية وإيران في معادلة القلق الإستراتيجي الأميركي يبدو مبررا حسب منطق وحدة الموضوع الذي يتبادر إلى الذهن من الوهلة الأولى، غير أن فوارق الاختلاف بين الملفين تبدو كبيرة وجوهرية عند مقارنتها على ضوء حجم وأهمية وحيوية المصالح التي تخشى الولايات المتحدة من المساس بها في حالة تحقق أحد الاحتمالين النوويين.

"
الفارق في ردود أفعال أميركا والغرب عموما تجاه إيران وكوريا الشمالية يعد دليلا كافيا لكشف الفارق بين أهمية المصالح المهددة -في نظر الغرب- ببروز قوة نووية في الشرق الأوسط، وبين تلك التي يمكن أن تتأثر بظهور كوريا الشمالية كقوة نووية في جنوب شرق آسيا
"

لعل الفارق في ردود أفعال الولايات المتحدة والغرب عموما تجاه إيران وكوريا الشمالية يعد دليلا كافيا لكشف الفارق بين أهمية المصالح المهددة -في نظر الغرب- ببروز قوة نووية في الشرق الأوسط، وبين تلك التي يمكن أن تتأثر بظهور كوريا الشمالية كقوة نووية في جنوب شرق آسيا.

ورغم أنه يجري ذكر كوريا الشمالية في الخطاب الرسمي الأميركي عند الحديث عن قضايا التسلح النووي، كما تجري إثارة قضية ملفها النووي في جولات بعض المسؤولين الأميركيين في شرق آسيا، فإنه لا تمكن مقارنة ذلك بالجهد الدبلوماسي الأميركي والغربي المكثف والوعيد والتهديد الموجه إلى إيران، فالحملة الأميركية والغربية ضد إيران من خلال المنظمات والمؤتمرات الدولية وجولات التحريض الأميركية للأنظمة العربية التابعة من أجل المساهمة في خلق روح العداء لإيران في المنطقة, كل ذلك يجعل من الملف النووي الكوري موضوعا ثانويا على هامش أجندة الإستراتيجية الأميركية، رغم أن كوريا الشمالية أعلنت أكثر من مرة أنها بصدد العمل على إنتاج سلاح نووي، وليس السعي من أجل امتلاك الطاقة الذرية السلمية فقط كما هو حال الموقف الرسمي الإيراني.

لا شك أن هناك أسبابا تكاد تكون بديهية تقف وراء اختلاف النظرة الأميركية والغربية عموما إلى كلا الملفين، ولعل أهمها:

1- اختلاف حيوية المصالح الأميركية والغربية في المنطقة التي تقع فيها إيران عن تلك التي تقع فيها كوريا الشمالية، فالمصالح الأميركية والغربية في إيران ذاتها وفي المنطقة المحيطة بها تختلف في حجمها وأهميتها ووسيلة التعامل معها عن المصالح الأميركية والغربية في المنطقة المحيطة بكوريا الشمالية، فطبيعة هذه المصالح في المنطقة العربية ليست تبادلية، أي أن المصالح الغربية فقط هي موضوع العلاقة بين الغرب وبين الأنظمة السياسية في دول المنطقة، فهذه الأنظمة بسبب تبعيتها في الوجود والاستمرار لمشيئة الغرب لا تستطيع أن تقايض المصالح الوطنية للأقطار التي تتسلط عليها في مقابل المصالح الغربية الحيوية، فليس لهذه الأنظمة مصالح تدافع عنها وتجادل الغرب من أجلها سوى بقاء حكامها واستمرارية أعقابهم من بعدهم في سدة الحكم، وهو أمر يقبل به الغرب الذي يستطيع أن يمد يد العون لهؤلاء إذا كانوا في حالة ضعف وأن يغض الطرف إذا كانوا في موقف قوة، عما يرتكبونه من جرائم ضد محكوميهم الفاقدين لروح الفعل الجماعي.

إذن هذه المنطقة تمثل بالنسبة للولايات المتحدة والغرب "جنة المصالح" على غرار جنة الضرائب بالنسبة للمستثمرين، فالمصالح التي تجري المحافظة عليها بالغة الحيوية من ناحية ومقصورة من ناحية أخرى على طرف واحد فقط في هذه العلاقة، وذلك على عكس المصالح الأميركية والغربية في المنطقة التي توجد فيه كوريا الشمالية، فهذه المصالح هي في غاية التبادلية وخاضعة لقواعد لعبة مقايضة التنازلات والندية.

فالمصالح الأميركية في الصين -على سبيل المثال- كبيرة ولا شك، ولكن ما تطلبه الصين في مقابل ذلك لا يقل في حجمه وأهميته عما ترغب الولايات المتحدة في الحصول عليه من الصين، وكذلك يفعل الروس والهنود واليابانيون، فهؤلاء جميعا يقايضون مصالحهم الوطنية بالمصالح الأميركية دون أن يشغل بالهم تأثير الرضا أو الغضب الأميركي على وجودهم في السلطة، لأنهم إما أن يكونوا حكاما لقوى عظمى لا تعيش تحت رحمة المزاج الأميركي، أو أن يكونوا حكاما لدول ديمقراطية لا يرتبط وصولهم إلى السلطة أو استمرارهم فيها بدعم أو رضا الولايات المتحدة عنهم، على عكس حال الحاكم العربي الذي يتسلط على محكوميه داخل كيان قزمي ليست له مصالح وطنية مستقلة عن المجال الحيوي الأميركي.

لهذا فإن ظهور كوريا الشمالية كقوة نووية في منطقتها رغم مخاوف الولايات المتحدة ورفضها لهذا الاحتمال، لا يؤثر في نهاية المطاف في حجم المصالح الأميركية زيادة أو نقصانا، ولا يمس قواعد اللعبة التي تحكم علاقاتها مع الصين أو روسيا، فامتلاك كوريا لسلاح نووي قد يزيد من المخاطر بالنسبة للجميع ولكنه لن يؤثر –على سبيل المثال- في إشكالية العلاقة الصينية الأميركية المتعلقة بتايوان أو التجارة الخارجية، وكذا الأمر بالنسبة للقوى المجاورة والبعيدة مثل روسيا أو الهند، بينما سيبدو الأمر مختلفا جدا في حالة بروز إيران كقوة نووية في منطقة "جنة المصالح الغربية".

"
امتلاك إيران لسلاح نووي لا يشكل خطورة على أمن الولايات المتحدة أكثر مما تشكله كوريا، إلا إن نجاح التمرد الإيراني على ثوابت إستراتيجية عريقة عمرها لا يقل عن أربعة قرون يحدث هزة في المنطقة تؤثر في حجم المصالح الأميركية والغربية
"

فرغم أن امتلاك إيران لسلاح نووي لا يشكل خطورة على أمن الولايات المتحدة أكثر مما تشكله كوريا، فإن نجاح التمرد الإيراني على ثوابت إستراتيجية عريقة عمرها لا يقل عن أربعة قرون يحدث هزة في المنطقة تؤثر في حجم المصالح الأميركية والغربية وفي قواعد اللعبة المتحكمة فيها، بل قد تطال بعض محرمات هذه الجنة التي كانت ثمارها حكرا على الغرب غير مقطوعة ولا ممنونة، فمحاولة التمرد الإيراني ونجاحه يعد بمثابة تمرد عبد على سيده وانعتاقه من عبوديته، والأخطر من ذلك هو ما يحدثه ذلك التمرد من ردة فعل بين بقية العبيد.

2- اختلاف مكانة البلدين واختلاف طبيعة علاقة كل منهما بالمنطقة الحيطة بها، فكوريا الشمالية بحكم إمكاناتها المادية والديمغرافية المتواضعة وطبيعة نظامها السياسي لا تستطيع أن تلعب دور المحرض ولا القدوة للقوى الكبرى المحيطة بها، فلا روسيا ولا الصين في حاجة لكوريا نووية للاستقواء بها في مواجهة الغرب، كما أن الولايات المتحدة لا تخشى من تأثير أيدولوجيا كوريا الشمالية على الشعوب المجاورة، فمثل هذه الأيدولوجيا لم تعد تثير مخاوف الغرب حتى عندما تتبناها قوة عظمى مثل الصين، فما بالك أن يتبناها نظام كيم إل سونغ العاجز عن توفير وجبة الأرز اليومية لمواطنيه.

لهذا فان كوريا الشمالية نووية كانت أو غير نووية لا تصلح قدوة ولا مثلا لجيرانها، ولا يخاف الغرب منها على هؤلاء إذا ما استثنينا الشطر الجنوبي لشبه الجزيرة الكورية، الذي يبدو حسب كل احتمال صائرا نحو الوحدة بمجرد تغير الأوضاع السياسية في الشطر الشمالي، فكل المخاوف من كوريا الشمالية تنبع فقط من تسرب معرفتها النووية إلى غيرها من الدول والجماعات.

من هنا يبدو الفارق كبيرا بينها وبين إيران في ما يخص المكانة وطبيعة العلاقة بمحيطها، فعلاقة إيران بالمنطقة العربية نسجها التاريخ والدين والثقافة، حتى إنه ليصعب في بعض الأحيان تمييز الأصل العربي عن الإيراني لكثير من أولئك العلماء والفلاسفة والقادة الذين حملوا لواء الحضارة العربية الإسلامية، ولذا فإن علاقة الشراكة العربية الإيرانية في بناء الأسس والبدايات لهذه الحضارة يعطي لإيران موقعا في التأثر والتأثير في المنطقة لا يدانيه موقع أي بلد إسلامي آخر غير عربي.

وإذا ما أضيف هذا الإرث الذي لا يزال يتمتع بفاعليته وراهنيته إلى إمكانيات إيران الحالية وتم تتويجه بقدرة نووية، فإنها تصبح قوة مؤثرة في منطقتها سواء بالتشجيع أو بالتحريض أو بالاقتداء، فمنذ نهاية السبعينيات وحتى بداية الحديث عن ملف إيران النووي لم يكن أي خطاب عربي رسمي باستثناء الحالة العراقية، يجرؤ على التلفظ علنا بكلمة نووي إلا إذا جاء ذلك في معرض الحديث عن أسلحة إسرائيل النووية، ولكن بمجرد الكشف عن البرنامج النووي الإيراني شهدت المنطقة خطابات وتوقيع اتفاقيات لإنشاء مراكز وبرامج للطاقة النووية السلمية.

سواء كان ذلك بنية صادقة أو من باب المناكفة والمزايدة من قبل بعض الحكومات العربية بتحريض من الغرب، وكيف ما كانت البواعث الحقيقية فإن ذلك يعني أن نتائج وردود أفعال حركة إيران في منطقتها لا تمكن مقارنتها بما ينتج عن أفعال وحركة كوريا الشمالية في محيطها، وهذا أحد الأسباب الجوهرية التي تعطي لملف إيران النووي أولوية على الملف الكوري في أجندة الولايات المتحدة والغرب على حد سواء.

"
خصوصية وأهمية المنطقة التي تنتمي إليها إيران تجعل من بروز أي مكون من مكوناتها كقوة فاعلة حدثا له امتداد على مستوى التاريخ والجغرافيا، في الوقت الذي لا تبدو فيه كل هذه المعطيات متوافرة في المنطقة التي تحيط بكوريا الشمالية
"

3- اختلاف منعة الجوار بالنسبة للبلدين، إذ ليس هناك خلاف حول قوة ومنعة الجوار الكوري، فوجود كوريا الشمالية على حدود قوة عظمى لها مشاكل مع الغرب مثل الصين وقرب كوريا جغرافياً من قوى كبرى أخرى مثل روسيا يجعلها في منعة من الغضب العسكري الأميركي، فمثل هذه القوى لا تسمح لها هيبتها ولا حسابات مصالحها أن تترك الولايات المتحدة تمارس على حدودها وفي منطقة نفوذها سياسة الغزو والاحتلال والسطو المسلح مثلما تفعل في الشرق الأوسط، وهذا لا شك عامل لا يمكن تجاهله بالنسبة لصانع القرار الأميركي عندما يخطط لردة فعل ضد كوريا الشمالية، بينما يبدو الأمر على العكس تماما بالنسبة للمنطقة المحيطة بإيران، فهي بالنسبة للغرب منطقة الانتصارات العسكرية الرخيصة، منطقة تعيش على وقع الاحتلال والغزو وبالتالي فهي مفتوحة مباحة ليس أمام قوى الغرب العظمى فقط، بل تستطيع قوى أقل منها شأنا كإسرائيل أن تمارس فيها العربدة والغزو والاحتلال دون رادع، ولهذا فإن عدم منعة المنطقة المحيطة بإيران يجعل الولايات المتحدة والغرب يتشددون في ردود أفعالهم ووعيدهم، لأن الواقع الجيو/سياسي المحيط بإيران يعطي مصداقية لتلويحهم بالقوة، سواء بسبب ضعف كياناته أو لاستعداد حكوماته كدأبها دائما في التعاون مع غزوات الغرب في المنطقة.

4- خصوصية وأهمية المنطقة التي تنتمي إليها إيران تجعل من بروز أي مكون من مكوناتها كقوة فاعلة حدثا له امتداد على مستوى التاريخ والجغرافيا، فالمنطقة تزخر بالثروات ويتوالى عليها الغزو والاحتلال والهزائم وترزح أجزاء منها تحت الاستعمار الاستيطاني، كما أن شعوبها تحس بأنها قطعان في حظائر يحرسها حكام طيعون للغرب، في الوقت الذي لا تبدو فيه كل هذه المعطيات متوافرة في المنطقة التي تحيط بكوريا الشمالية، مما يجعلها تظهر كحالة شاذة ومعزولة عن التطورات الجارية في محيطها، بينما تبرز إيران -في حالة نجاحها- كدولة إسلامية تعاند الغرب وتسعى لامتلاك القوة، الأمر الذي يعزز مصداقية التيارات الإسلامية التي يعتبرها الغرب عدوه اللدود بما في ذلك تلك التي تختلف مع إيران وتعاديها مذهبيا.

لعل كل هذه الأسباب والاعتبارات هي التي أدت إلى اختلاف نظرة الغرب إلى كلا الملفين النوويين وجعلته في حالة من الاستنفار والاستعجال إزاء الملف الإيراني، كمن يهرع لإطفاء حريق شب بالقرب من مصنع للبارود، ولا شك في أن الغرب –حسب منطقه- محق في ذلك، فالمنطقة تسترخي فيها جملة من مصالحه غير المشروعة والأكثر حيوية والتي يحصل عليها في مقابل ثمن بخس، لا يتعدى غض الطرف عما يفعله حفنة من الرجال بمئات الملايين من رعاياهم الفاقدين لروح الفعل الجماعي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.