في المقاومة

في المقاومة



فرز على قاعدة الحريّة
النّظام العربي والمقاومة
المقاومة الوظيفية والمقاومة الإستراتيجية
مآلات الصراع
خاتمة

تعدّ المقاومة أنبل الظواهر في التاريخ الإنساني، فهي على اختلاف صورها وتباين سياقاتها استجابة لمعنى مركوز فينا فطرةً. وهي بكلّ معانيها علامة على سلامة الفرد والجماعة نفسيّا وقيميّا. ولعلّه لهذا المعنى كان إجماع الشرائع والدساتير على حق المظلوم في ردّ الظلم، والتواصي بمناصرة كلّ طالب حق.

وحينما يسهل الهوان على أمّة تتقلّص ثقافة المقاومة عندها وتربو عليها ثقافة مضادّة تحت عناوين مختلفة. وهذا ما ران على القلوب غداة اتفاقية أوسلو مما أجرأ على خرق أغلظ المواثيق ومنها ميثاق منظّمة التحرير الذي عُمّد بالدم. وهو ميثاق مقاومة بدأت بنقض غزلها مبكّرا تحت كاذب الوعود.

كاد الجميع أن يسلّم بأن صفحة المقاومة قد طويت وإلى الأبد في سياقنا العربي، ولكن أتى من أعاد فتحها، بعد جولات مشهودة سالت فيها دماء زكيّة.

فكيف نفهم هذه الظاهرة؟ وما هي شروطها؟ وهل يمكن تبين مآلاتها؟

فرز على قاعدة الحريّة
يمثّل الاحتلال شرط المقاومة المباشر، وإليه توجِّه فعلَها بغاية استبعاده وجودا يمنع الحياة الطبيعية. وإذا نظرنا في حاضر المقاومة وجدناها ضمن سياق يُميّزه فرز سياسي على قاعدة الحرية قام على أنقاض فرز أيديولوجي عاشت على وقعه حركة التحرر العربي حينا من الدهر، فالتقى، اليوم، من باعدت بينهم المرجعيات المختلفة بالأمس فانفتحت البصائر على حقيقة أنّ الطريق إلى العدل بعدد الخلائق وأنّ سبيل الحرية سالكة أمام من اختارها وأخلص.

واصطدم هذا الفرز بسقف الدولة بوجهيها المستبد (ربيع دمشق، 18أكتوبر، حركة كفاية.. إلخ) والطائفي (لبنان، العراق). ولئن فشلت القوى الوطنية المُفرَزة، رغم اجتماعها على درء الاستبداد، في إرساء شروط حياة سياسية تضمن التداول السلمي على السلطة وتحرّر الفكر والممارسة، فإنّ المقاومة في لبنان نجحت في تحرير الأرض والإنسان، وتعثّرت المقاومة العراقية لتعقّد الوضع الداخلي. وبين الاستبداد والطائفية تقوم غزّة مثالا ثالثا لم يأخذ حظّه من النظر والتحقيق رغم انبثاق الظاهرة من فلسطين التي يمّثّل جرحها قضية العرب الأولى.

"
المقاومة في لبنان نجحت في تحرير الأرض والإنسان, وتعثّرت المقاومة العراقية لتعقّد الوضع الداخلي, وبين الاستبداد والطائفية تقوم غزّة مثالا ثالثا لم يأخذ حظّه من النظر والتحقيق رغم انبثاق الظاهرة من فلسطين التي يمّثّل جرحها قضية العرب الأولى
"

مثلت الانتخابات الفلسطينية في 2006 نقطة تحول مهمّة في تاريخ القضيّة وذلك أنّ حماس التي عبّرت عن رفضها أوسلو منذ قيامها كانت بقبولها المشاركة في الانتخابات، قد رضيت بهذا السقف الذي لا يقلّ سمكا عن سقف الطائفية والاستبداد. ولكنّها تمكنت من اختراقه على مرحلتين: أوّلا بالعمل بجدّية على الفوز في الانتخابات، وثانيا باستثمار هذا الفوز في أدائها باعتباره الوجه السياسي لسلطة أوسلو المنتخبة لأول مرّة فلسطينيّا.

فوضعت خطاب الأطراف الدولية المبشّرة بالسلام والديمقراطية في المنطقة على المحكّ بل سلبته كل مصداقيّة بعد أن جعلت هذه الأطراف من فوز تيّار المقاومة في الانتخابات مسوّغا لعقاب عمّ الشعب الفلسطيني وخصّ حماس. فكان تحييد سلطة أوسلو في غزّة بالقوّة نتيجة لانسداد الآفاق السياسية بعد معاهدة مكّة. وبدت حماس مضطرّة إلى ما أقدمت عليه لأنّها لو خُيّرت لاختارت نفوذا شرعيّا على غزّة والضفّة الغربية مَكّنتها منه صناديق الاقتراع.

فكيف تستبدل الذي هو أدنى (غزّة محاصرة) بالذي هو خير(الضفة الغربية وقطاع غزّة معترف بهما عربيّا ودوليّا)، وهي طالبة نفوذ وامتيازات كما يردّد خصومها. وتمثل الانتخابات الفلسطينية هذه تجربة ثانية بعد تجربة أولى في الجزائر1992 يفشل فيها النظام العربي والمجتمع الدولي في التعاطي السليم مع نتائج انتخابات ديمقراطية حملت إسلاميين إلى السلطة.

إنّ غزّة، منظور إليها من زاوية الفرز على قاعدة الحرّية تُعَدّ اختراقا حقيقيّا لسقف الاستبداد وسقف المجتمع الدولي المشيد وفق مصالح القوة الأميركية ومَنْ ظاهَرَها.

النّظام العربي والمقاومة
قد يُسلّم البعض بالمقاومة من حيث المبدأ، ويقرؤها تعبيرا أصيلا عن الحرية ولكنّه لا يُسلّم بتحالفاتها خاصّة إذا كان أداء الحليف مناقضا للمعلوم من الحرّية بالضرورة. وقد يساعد فحص السياق العربي الإسلامي الذي تتحرّك فيه المقاومة على تبيّن كثير ممّا التبس.

بين المقاومة وسياقها العربي الإسلامي تأثير متبادل. وإنّ مِنْ أثر المقاومة على سياقها بروز فرز في النظام العربي ومحيطه الإسلامي (تركيا، إيران) على قاعدة الموقف من المقاومة نفسها. ورغم ما للمغانم من أثر في كل موقف سياسي فإنّ ما أسميناه بالفرز على قاعدة الحريّة صار أقرب إلى القانون الكلّي فقد طال كلّ أشكال الانتظام مقاومةً وأحزاباً و أنظمةً.

ظهر تأثير المقاومة على محيطها العربي الإسلامي في حربَ تموز، وتوضّح أكثر في الحرب على غزّة من خلال قمّتي الدوحة والكويت: عنوان الأولى حسبي الله ونعم الوكيل وعنوان الثانية لو أطاعونا ما قُتلوا. وجاءت القمتان شاهدا على انقسام النظام العربي ومحيطه الإسلامي إلى ثلاثة أطراف هي سوريا وإيران باسم المغالبة: مناصرة المقاومة، وجلّ الدول العربية بزعامة مصر باسم المطالبة: محاصرة المقاومة. وبين المناصرة والمحاصرة برزت قوّة ثالثة مثلتها قطر وتركيا.

إنّ وراء التقاء سوريا بإيران وتركيا بقطر كثير من مكر التاريخ الذي هو من مكر الله. فلا يمكن أن ينفكّ ماضي تركيا وإيران عن المنطقة العربية، فتعودان إليها تحت ثقل التاريخ ووطأة الوسواس الإمبراطوري. وإذا كان السياق العالمي قديما قد ردّ تمدّدهما الإمبراطوري إلى حدود الدولة القومية (إيران الشاهنشاهية، تركيا الكمالية) فإنّ هذا السياق نفسه مضافا إلى حال العرب الذاتي قد حرما أمّة العرب من أن تبني كيانها السياسي الموحّد.

"
بين المناصرة والمحاصرة تقف قطر وتركيا في منزلة بين المنزلتين, فهُما لا تخفيان علاقتهما بالكيان الصهيوني ولكنّهما تمكّنتا من إدراك مصلحتهما، بمواقف مستقلّة نوعا ما (قمّة الدوحة، أداء رئيس الوزراء التركي) فضلا عن دعمهما المقاومة إعلامياّ وسياسيّا
"

تجتمع الأطراف، على اختلافها، في هوية انتظام سياسي هي الدولة. في مقابل هوية المقاومة التي هي جماعة موحّدة توجهها القيمة في الغالب. وبقدر تعلّق المقاومة بالقيمة تنشدّ الدولة إلى المصلحة للحفاظ على كيانها (سوريا) أو لامتلاك مزيد من عناصر القوّة في مرحلة رسم إستراتيجيات جديدة لتقاسم النّفوذ (إيران).

تبدو القوة العربية التي تتزعمها مصر عاجزة عن إدراك مصلحتها بمثابرتها في تنفيذ أجندة العدو (جدار العار..). ولا معنى للحديث عن أنّ كثيرا من الدول المكوّنة لهذه القوّة لا تعترف رسميّا بالكيان الصهيوني لأنّه ليس في حاجة إلى اعتراف ممّن تطوّع لتنفيذ أجندته في المنطقة وساعده على استعادة توازنه.

تقف قطر وتركيا في منزلة بين المنزلتين. فهُما لا تخفيان علاقتهما بالكيان الصهيوني ولكنّهما تمكّنتا من إدراك مصلحتهما، بمواقف مستقلّة نوعا ما (قمّة الدوحة، أداء رئيس الوزراء التركي) فضلا عن دعمهما المقاومة إعلامياّ وسياسيّا في الحرب على لبنان وغزّة. فضلا عن أنّ أداءهما لم يتعارض، إلى حدّ الآن، مع توجّه المقاومة.

المقاومة الوظيفية والمقاومة الإستراتيجية
لم يستثن الفرز على قاعدة الحريّة المقاومة نفسها. وكما انقسمت قوى النّظام العربي إلى ثلاثة كانت المقاومة صنفين ناطقة وصامتة. فأمّا الصامتة فإنّ صمتها ناتج عن اصطدامها بسقف الدولة الوطنية. ولم تكن الناطقة لتنطق إلا لغياب الحاجز المذكور: الدولة. وصرنا أمام قانون قوامه علاقة تناسب عكسي بين الدولة والمقاومة. فكلّما ضعفت الدولة قويت المقاومة والعكس صحيح. فلا الاحتلال ولا الصفة الإسلامية شرطان كافيان لتكون مقاومةٌ بدليل أنّ جزءا من الأرض العربية (الأردن، سوريا) محتلّ ولا مقاومة رغم وجود أحزاب إسلامية بعضها أقدم من الأنظمة نفسها، لأنّ الدولة تمنع المقاومة تحت ذرائع شتّى وليس من ذريعة إلاّ منطق الدولة ومصالحها التي اختلفت في أكثر من مرّة مع مصالح الوطن نفسه.

ولقد كانت المقاومة اللبنانية سليلةَ الحرب الأهلية بما تعنيه من غياب كامل للدولة. وحينما عادت الدولة ضعيفة بعد مؤتمر الطائف كان تيار المقاومة قد انطلق من عقاله ولا رادّ له، وليس إلاّ البحث عن معادلة جديدة بين الدولة والمقاومة جاريْنِ لكيان متربّص بكليهما. واستطاعت المقاومة بالصدق عند اللقاء وقوافل الشهداء والصبر الجميل أن تقيم توازن رعب حقيقياّ مع العدو.

والمقاومة الناطقة صنفان تبينّاهما ممّا لاحظناه من فروق بين حرب تمّوز والحرب على غزة رغم الشبه القائم بينهما من ناحية هويّة المعتدي والقوّة التي وقفت في وجهه، ونعني توتّر نموذج حزب الله ونموذج حماس بين ما نسميه بالمقاومة الوظيفية والمقاومة الإستراتيجية.

فلئن كان لحزب الله منافذ من خلال سوريا وإيران تيسّر تحرّكه وتُوفّر له الإمدادات فإنه كان محاصرا في الداخل بالحالة الطائفية تحرمه حتى من عائد معنوي نتج عن اعتراف العدو بالانكسار أمامه في تقرير فينوغراد. أمّا غزّة فإنها رغم حصارها المطبق فإنّ مقاومتها حرّة بين أهلها. وإنّ إسرائيل القادرة على احتلال أيّة عاصمة عربية في حرب تقليدية، عجزت وتعجز عن دخول غزة الجائعة الجريحة المحاصرة وهي منها على مرمى حجر، رغم الرصاص المصبوب والذي يمكن أن يصبّ.

ويوم خرج شارون تحت ضغط الانتفاضة التي بدأت ملامح تحولها إلى حركة تحرر وطني مسلّحة واضحة، كان يظن بأنّ العودة إلى غزة ممكنة.

تُفضي المقارنة بين المقاومة في لبنان والمقاومة في غزّة إلى رصد ملامح وظيفيّة في الأولى وملامح إستراتيجية في الثانية. ولا فضل عندنا لهذه على تلك إلا بمدى تمثل القيمة، ذلك أنّ حزب الله على بلائه ودعمه المقاومة في غزةّ يبقى جماعة وظيفية ولا أمل له، في تقديرنا، في تجاوز هذه الحال إلاّ بشرطين الأول داخلي ونعني تجاوز أساس التجربة اللبنانية الطائفي نحو حياة قائمة على المواطنة. ومن المفارقات أنّ حزب الله ذا المرجعية الدينية يعمل جاهدا على تجاوز الدستور الطائفي إلى دستور ديمقراطي قائم على المواطنة في حين تصرّ الموالاة مدعومة من حليفها الغربي الديمقراطي جدّا (فرنسا، الولايات المتحدة) على إبقاء الوضع على ما هو عليه، لأنّ المحاصصة المقيتة هي التي منعت المقاومة من أن يُعترَف لها وطنيّا بتحرير الأرض والأسرى.

"
حزب الله على بلائه ودعمه المقاومة في غزةّ يبقى جماعة وظيفية ولا أمل له، في تقديرنا، في تجاوز هذه الحال إلاّ بشرطين الأول داخلي ويعني تجاوز أساس التجربة اللبنانية الطائفي نحو حياة قائمة على المواطنة, والشرط الثاني فخارجي ويعني إعادة صياغة العلاقة مع معسكر الممانعة
"

وهذه المحاصصة نفسها هي التي مهّدت لهزيمة المحرّرين وحلفائهم في الانتخابات النيابية عوض أن يكون كسْر العدو كافيا لكي يُفرش لهم السجّاد الأحمر لتولي الشأن العام، رغم أنّهم لم يكونوا طُلاّب سلطة ولو أرادوها عنوةً لكانت بين أيديهم. وهذه المحاصصة نفسها هي التي حرمت الموالاة في الانتخابات من انتصارها.

إننا بإزاء وضع طائفي قانونه الخاص: لم يكسب من انتصر ولم يخسر من انهزم. قانون يسري على كل "انتصار" في الحرب كان أو في الانتخابات. إنه وضع سياسي شاذّ يؤبّد وظيفيّة المقاومة وإن حدّثت نفسها بغيرها.

وأما الشرط الثاني فخارجي ونعني إعادة صياغة العلاقة مع معسكر الممانعة، ذلك أنّ موقف حزب الله من مبدأ المقاومة تأثّر بدرجة ما بعلاقته بمصالح حلفائه في المنطقة، فمثلما أنّ دعم إيران للمقاومة في لبنان لا يبرّر مناهضتها للمقاومة الشريفة في العراق ومساندتها لمن ولغوا في الدم العراقي، لا يمكن لوقوف سوريا في صفّ المقاومة أنْ يُسوّغ قهرها الأحرار من قوى المجتمع المدني في الداخل.

لم يكن موقف حزب الله من المقاومة العراقية الشريفة بالوضوح المطلوب فضلا عن تزكيته لبعض الرموز الذين دخلوا العراق مع المحتل ولم يتورّعوا عن هدر الدم العراقي. إننا نستبعد أثر المذهبيّ على الحزب في هذا السياق، وإلا لكان موقفه من المقاومة في غزّة هو الموقف نفسه من المقاومة في العراق. ولكنّنا نعيد تردده إلى دوران موقفه مع موقف الحليف ونعني مصالح إيران في العراق.

وبهذا المعنى تتحدّد وظيفيّة مقاومته. فلا مهرب من التمييز بين المقاومة الإستراتيجية والمقاومة الوظيفية لفهم موقف حزب الله من المقاومة في العراق وقد عقّد النفوذُ الإيراني وإرهابُ القاعدة من مهمتها وفكّا، إلى حين، طوقا عن الاحتلال لم يكن يأمل بفكّه.

تمثل غزّة حالة نادرة في سوسيولوجيا المقاومة، فحماس حركة مقاومة على جزء من أرض محرّرة، ورغم ما تعانيه غزّة من الحصار الخارجي إلا أنّها لا تعيش معادلة حزب الله في السياق اللبناني الطائفي ولا وضعَ المعارضة الديمقراطية في البلاد العربية التي يمنعها سقف الدولة من المشاركة الإيجابية، غير أنّ المقاومة في غزّة ليست في مأمن من السقوط في أخلاق الدولة وضروراتها.

مآلات الصراع
إذا نظرنا إلى تاريخ الصراع العربي الصهيوني من زاوية ما اصطلحنا عليه بهوية الانتظام السياسي أمكن الحديث عن مرحلتين بارزتين: تمتدّ الأولى من بدايات تشكل الكيان الصهيوني إلى آخر الحروب العربية معه سنة 1973ونسميها حرب الدولة.

وتمتد الثانية من حرب أكتوبر إلى اليوم ونسميها حرب المقاومة، وهي في تقديرنا استئناف للاستجابة الشعبية على طول الوطن العربي منذ مطلع الأربعينيات لمّا هبّ الناس أفرادا وجماعات لنجدة الأقصى وفلسطين، ولكن النظام العربي والسياق الاستعماري أجهضا إمكانية الإنقاذ، كما تم تدجين حركة التحرير الوطني الفلسطيني التي لم تخرج من وظيفيّةٍ فرضها النظام العربي في مؤتمر القمّة بالرباط والذي لم يشأ حرمان المنظمة من فكرة الحزب الواحد من خلال صيغة منظمة التحرير الممثّل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.

في مرحلة حرب الدولة، كان الكيان الصهيوني رغم إعلانه قيام دولته في 1948م جماعة عقدية سياسية مقاتلة مستعدّة للموت من أجل الهدف الذي رسمته. وإذا كان لكل دولة جيش فإنّ للجيش الإسرائيلي دولة. وكانت الدولة العربية هويّةً سياسيةً منقسمةً، وكأنّ الاستيطان الصهيوني أدركها وهي في أرذل العمر.

ويفسر حالُ الدولة العربية إلى حدّ بعيد تجربة ثورة يوليو وهزيمة 67. والسبب العميق في تقديرنا أنّ الثورة لم تُنشئ يوتوبياها إلاّ في وقت متأخر وبكثير من التلفيق الفكري، ولم تَبْنِ نموذجَها في الانتظام السياسي، أي لم تصنع دولتها وإنّما سكنت الدولة المصرية الموروثة عن المَلَكية وتجارب الإصلاح الموسومة بالاستبداد. فكان عدم التناسب بين هدف التحرير ووسيلته المتمثلة في الدولة الواهنة.

"
تمكّنت المقاومة من إسقاط مشروع إسرائيل الكبرى, كما نجحت المقاومة في لبنان في إقامة توازن رعب بدأت ملامح التوازن نفسه تتشكل في علاقة غزّة بالعدو, فضلا عن إمكانيات اختراق المقاومة للحالة في الضفة الغربية
"

فلم يكن الانكسار في تقديرنا للأيديولوجية القومية بقدر ما كان انكسارا لهوية انتظام سياسي منقسمة في مواجهة هوية سياسية متماسكة، أسستها النخبة الصهيونية على أرض فلسطين بمباركة الاستعمار، بخلاف النخبة العربية التي فشلت في تأسيس تجربة سياسية قائمة على الاختيار الحر.

وانطلاقا من تحرير الجنوب اللبناني سنة 2000 ومرورا بالحرب على لبنان 2006 ووصولا إلى الحرب على غزّة 2009 ترتسم المعادلة نفسها، غير أنّ الجديد تمثّل في التحاق الكيان الصهيوني سوسيولوجيا بالنظام العربي فصار له خصائص الدولة، ويسري عليه ما يسري على الدولة من سُنن الضعف والمرض والانحلال في مواجهة مقاومة هي عبارة عن جماعة مقاتلة في لبنان ومجتمع مقاتل في غزّة. وكانت له مع القوتين الصاعدتين جولتان سيكون لهما ما بعدهما.

لقد تمكّنت المقاومة من إسقاط مشروع إسرائيل الكبرى. وأضعفت قدرة المؤسسة العسكرية على الردع إلى حدّ كبير. وهذا ما يفسّر، إلى جانب سمات أخرى في الشخصية الصهيونية، السلوك الإجرامي والقتل الجماعي في مواجهة الوريث الفلسطيني في الحرب الأخيرة.

وكما نجحت المقاومة في لبنان في إقامة توازن رعب بدأت ملامح التوازن نفسه تتشكل في علاقة غزّة بالعدو. فضلا عن إمكانيات اختراق المقاومة للحالة في الضفة الغربية. ولا معنى للحديث عن مصالحة فلسطينية، فكما تعمل السلطة في الضفّة على نفي المقاومة، لا أمل للمقاومة إلا بتحرير الضفة. هذا مسار بدأت ترتسم معالمُه عند كثير من مراقبي الوضع الفلسطيني.

تقوم جملة من المؤشرات على مستقبل الصراع. فمن جهة تبدو المقاومة أقوى وأكثر تنظيما وكأنها جعلت الأسوأ وراء ظهرها، ويبدو العدو أكثر قلقا لما بدأ ينخر كيانه من عوامل الضعف، رغم بقايا من عوامل قوة كانت اجتمعت فيه يوما، ولكنّ الأسوأ بانتظاره، ولسنا نعني الجانب العسكري الذي لم يسعفه في حربيه الأخيرتين، وإنما قَصَدنا إلى معاني القوّة المتمثلة في الأسس التي أقام عليها تجربته والتي لم يتنكر لها حتى في حالات الحرب ، بخلاف النظام العربي الذي أبّد القوانين الاستثنائية باسم حرب لم يَخُضْها.

وتشهد القوتان (المقاومة والعدو) تحوّلا متزامنا ومن طبيعة واحدة. فكما لم يعد الكيان الصهيوني قاعدة متقدّمة للإمبريالية، بلُغة الستينيات، وصارت العولمة في خدمة إسرائيل، بلُغة اليوم، أمكن الحديث عن تحول في المقاومة من مقاومة وظيفيّة تخدم مصالح هذا الطرف أو ذاك إلى مقاومة إستراتيجية تقيم معادلة بديعة تنصهر فيها مصلحة الأطرافِ داعمةِ المقاومة بمصلحة الأمّة.

يشير كثير من الخبراء إلى أنّ إسرائيل لا تتحمل حربا لا يكون نصرها فيها حاسما، وليس لها في الآن نفسه ما يضمن هذا النصر، خاصّة مع اشتداد عود المقاومة وأثرها على النظام العربي ومحيطه الإسلامي والرأي العام الدولي.

ولذلك يبدو من مصلحتها أن تُسيّر الأزمة إلى حين رغم تلويحها بالحرب إرهابا. إنّ أكثر ما يخيفها الديموغرافيا وهذا ما يفسّر هلعها بإقامة سورين عنصريين: الأول مادي حقيقي مزّق أوصال الضفّة وعزل مدينة القدس عنها والثاني قانوني تمثّل في يهودية الدولة المدعوم من قبل فرنسا وأميركا. وقد نضيف الأمن الوقائي في الضفة جدارا ثالثا. إنّ فشل الكيان الصهيوني الحقيقي في أنّه لم يستطع أن يصبح جارا بعد إنشائه دولته على أرض فلسطين..

كان قيام الكيان الصهيوني سريعا وانتصاراته خاطفة، فهل يكون انهياره كقيامه وذهاب ريحه كانتصاراته؟!

خاتمة

"
تمثل غزّة حالة متقدّمة من حالات المقاومة ومدخلا حقيقيّا إلى التحرير شرط أن ينجح أهلُها في تأسيس العدل والإحسان بينهم والنأي عن أخلاق الدولة واحتكار العنف والمقاومة وأن تُترك حياةُ الناس تتطور بعفويّة
"

تمثل غزّة حالة متقدّمة من حالات المقاومة ومدخلا حقيقيّا إلى التحرير شرط أن ينجح أهلُها في تأسيس العدل والإحسان بينهم والنأي عن أخلاق الدولة واحتكار العنف والمقاومة، وأن تُترك حياةُ الناس تتطور بعفويّة لا يُكدّر صَفْوَها فرضُ لباس أو نمطٌ من السلوك أو حملٌ على ذوق أو معتقد إلاّ ما كان عن تراض.

وأنْ تُدرِك حماس أنّها امتداد لأجيال من المقاومين والشهداء في حركة التحرر العربي بمختلف مرجعياتها الشعبية والقومية والماركسية، كلّ أولئك إرثٌ في كيانها، وأنّها امتداد لكل معاني التحرّر في التجربة الإنسانية الممتدّة.

حينها فقط يكون انتصار المقاومة وتحرير فلسطين على بعد جيل مُمْكنا مثلما قدّر شاعر الجرح الفلسطيني وهو يَرثي ساردَ الجرح إدوارد سعيد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.