الهوية الوطنية الفلسطينية بين التكريس والتخليع

الهوية الوطنية الفلسطينية بين التكريس والتخليع - إبراهيم عجوة

 

الهوية النضالية رد على السعي للاقتلاع
ماهية الهوية النضالية
سؤال الهوية وتصور الصراع
افتراق سؤال الهوية وسؤال السياسة

تتجلى أهم إنجازات الثورة الفلسطينية المعاصرة، وحركة فتح بالتحديد، في إبرازها الهوية الوطنية النضالية الفلسطينية وتكريس شرعيتها عربياً ودولياً، وتكذيب الرواية الصهيونية القائلة بأن فلسطين أرض بلا شعب، في مواجهة المحاولات الصهيونية لإبادة هذه الهوية فيزيائياً وثقافياً وإرادة مقاومة.

لقد ثبّتت المقاومة الفلسطينية مبدأ "فلسطين" ضد "إسرائيل"، علاقة تناحرية تناقضية طاردة، بدونها لا هوية، بدونها "فلسطينوية" وليست "فلسطينية".


الهوية النضالية رد على السعي للاقتلاع
الهوية الفلسطينية ما كان يمكن أن يحتاجها الشعب الفلسطيني الحامل لهوية عربية إسلامية تاريخية لولا الهجمة الصهيونية الاستيطانية الإحلالية، التي استدعت مثل هذه الهوية لإنقاذ الشعب الفلسطيني وإنقاذ الأمة العربية، وإنقاذ العالم وحتى اليهود أنفسهم من ويلات هذه الحركة العدوانية المجرمة التي تلفعت بغطاء دولة اسمها إسرائيل.

"
إنجاز تاريخي للثورة الفلسطينية المعاصرة، كان يستدعي إدراكاً عميقاً بأن أخطر التهديدات التي تواجه هذه الهوية يتمثل في كسر أي ضلع من مثلث القوة الذي تنبني عليه، والمتمثل في "وحدة الشعب ووحدة الأرض ووحدة القضية"

"

انطلقت الدعوة إلى تكريس الهوية من خلال الدعوة إلى نفي المنفى ورفضه، وإشهار المقاومة بكل ما هو متاح من أجل التحرير، الذي يكافئ تفكيك هذا الكيان الصهيوني وهزيمة الحركة التي أنتجته، ورفض اللجوء والتمسك بحق العودة للوطن. لخصت كل هذا إحدى أغنيات المقاومة المبكرة التي تقول في جزء منها: "ولعوا النار بهالخيام، وارموا كروتة التموين، لا صلح ولا استسلام، بدنا احنا نحرر فلسطين".

إنجاز تاريخي للثورة الفلسطينية المعاصرة، كان يستدعي إدراكاً عميقاً بأن أخطر التهديدات التي تواجه هذه الهوية يتمثل في كسر أي ضلع من مثلث القوة الذي تنبني عليه، والمتمثل في "وحدة الشعب ووحدة الأرض ووحدة القضية". وكان يستدعي إدراكاً بأن أهم واجب للشعب الفلسطيني بعد هذا الإنجاز يتمثل في الحفاظ على هذه الهوية ومراكمة المنجزات بعدها، وعدم السماح بتخليع أضلاع مثلث الهوية بأي شكل من الأشكال، وتحت أي من المغريات أو أي تسوية سياسية مع الحركة الصهيونية وكيانها الغاصب. لأن هذا من شأنه أن يغري هذه الحركة بالعودة ثانية لتجريب الإبادة من خلال مقاربات وأشكال جديدة.

فإذا كانت الهوية لشعب ما -بمعناها العام- عبارة عن مشتركات من الرموز لمجموعة بشرية على أرض وفي سياق تاريخي كاللغة والثقافة والتاريخ، فإن الهوية النضالية الفلسطينية قد تحددت في رمز إضافي شكل بامتياز المرتكز الأساس لهذه الهوية، تمثل في الخبرة المشتركة لعدوان بربري استهدف استئصالها من خلال احتلال الأرض وتفتيت وحدة الشعب بتشريده في المنافي، وتفتيت وحدة القضية من خلال معالجة منتجات التشريد باعتبارها منتجات غير متعلقة ببعضها وذات طبيعة إنسانية في أحسن الأحوال.

وقد بات من غير الممكن تصور الهوية الوطنية الفلسطينية دون هذه التجربة المأساوية وامتدادها عبر ما يقترب من القرن. لكن هذا الرمز الإضافي والأساسي لم ينتقص من، أو يلغي، أو يأتي على حساب، الهوية العربية للفلسطينيين كهوية راسخة مستقرة لها تاريخها الطويل في اللغة والثقافة والفكر والأدب والشعر، وغير القابلة للتهديد باحتلال أو غيره، مما ألغى عنها خطر التبديد وأسقط أوهام الحركة الصهيونية في اجتثاثها.


ماهية الهوية النضالية
وهنا تجدر الإشارة إلى أن قيمة أي هوية تكمن في ما يمكن أن تخلقه من شعور بالخصوصية، وفي ما يمكن أن تقدمه من فرص للتطور لمنتسبي هذه الهوية. وبدون ذلك قد تكون الهوية عبئاً على منتسبيها وقد تكون عاراً أو دلالة على نقص مخجل ومخل.

تساؤل مشروع إضافي يطرح نفسه حول ماهية الهوية النضالية الفلسطينية، وما هي محدداتها التي من شأنها أن تفتح فرصاً للشعب الفلسطيني للتطور والنماء، وتفتح الباب أمام الأمة العربية للتخلص من هذا الخنجر المسموم الذي غرس في جسدها ليبقيها جسداً بلا حراك، قابلاً لكل أشكال الوصاية والتخلف والنهب.

هل هي الهوية بدلالة الدولة؟ وهل هي الدولة بدلالة أوسلو؟ أم هي الهوية بدلالة حق الصراع الوجودي مع هوية صهيونية اصطنعت ليس لنفي الهوية العربية الفلسطينية فقط، بل لتؤسس لهوية تشرد ولجوء ودمار، ولتشكل عائقاً مستمراً أمام تطور المنطقة وتقدمها، وحارساً للتخلف والتشرذم وصانعاً له.

"
لقد عجزت الهوية الصهيونية المتلفعة باليهودية وبدولة إسرائيل عن إنتاج مشروعها أو وهمها، وبدأت تختنق بعدوانيتها وبصمود الشعب الفلسطيني وتشبثه بأرضه وحقوقه
"

يستدعي سعي هوية ما لإبادة هوية أخرى والحلول في حيزها الجغرافي أن يكون الصراع بين الهويتين صراع وجود. ويعني صراع الوجود هنا تنافي الهويتين، واستحالة تعايشهما على نفس الأرض. وفي حال تخلت إحداهما عن جزء من مكونات الهوية فإنها تكون قد سلمت بنفيها، وفتحت الباب على إمكانية تحويلها وفق مقتضيات الهوية الأخرى، مما يعني أن تعريفها لا يعود ذاتياً كما يشاء منتسبوها بل يصبح رهناً بما تحدده لها الهوية النقيضة.

الهوية الصهيونية لن تكف عن العدوان ولا تملك القدرة على التنازل عن عدوانيتها، والهوية النضالية الفلسطينية لا تملك القدرة ولا يجوز لها التنازل عن نضاليتها وعدالتها.

لقد عجزت الهوية الصهيونية المتلفعة باليهودية وبدولة إسرائيل عن إنتاج مشروعها أو وهمها. وبدأت تختنق بعدوانيتها وبصمود الشعب الفلسطيني وتشبثه بأرضه وحقوقه. فالمتحقق هو أن الهوية الصهيونية لا تمتلك من مقومات الهوية غير عدوانيتها وهمجيتها ووظيفتها الإمبريالية، لكن تسلحها الهائل وتطورها العلمي ونوع الحياة التي تعيشها يجعلها لمرحلة مؤقتة أقدر على الصراع. هذا المتحقق يكرس خصوصية العدوان ويجعل الصهيونية غير قابلة للحياة على المدى الطويل.


سؤال الهوية وتصور الصراع
لقد كانت التجربة/المأساة وما نجم عنها هي عماد الهوية النضالية الفلسطينية والمكون الأساس لإنتاجها وإعادة إنتاجها الجمعي الفلسطيني، لكن ما حصل في المستوى السياسي هو اختلال في تصور الصراع أدى إلى تراجع في القدرة على مراكمة مكتسبات الحقوق بعد ترسيخ الهوية النضالية. وتم الدخول في معارك لم تكن تصب في تصور دقيق لآلية تفكيك الكيان الصهيوني وتفكيك هويته القائمة على العدوان.

جاءت الممارسة أبعد ما تكون عن موضوعية قوانين الصراع وأقرب ما تكون لمنطق الغزوات، ممارسة تجريبية، قادت إلى ما نحن عليه اليوم من تراجع.

رفع القوميون شعار أهمية إنجاز وحدة الأمة أولاً، كشرط لازم وكاف لإحداث توازن القوة مع الكيان المدعوم غربياً والمسلح حتى الأسنان للهجوم عليه مرة واحدة وهزيمته واجتثاثه. لم يخطر ببال أحد أنه حتى في حال تحقق الوحدة، فإن القدرة على هزيمة هذا الكيان في ضربة عسكرية خاطفة ليس بالأمر المسموح به على المستوى الدولي، ولا هو بالممكن، ولا هو المطلوب في مشروعنا لتفكيكه.

نتيجة الفشل في تحقيق الوحدة، وابتعاد إمكانيتها في الشروط والمعطيات المتزامنة مع المطلب، ذهب البعض إلى أن صراع الوجود يستدعي بطولة فلسطينية استثنائية تعوض هذا الخلل وتسلحاً فلسطينياً وحرباً شعبية طويلة الأمد ينخرط فيها الشعب الفلسطيني من أجل تدمير الكيان وتحقيق العودة والتحرير.

إلا أن الخلل أيضاً وقع في تصور الصراع للحرب الشعبية الطويلة الأمد، ووظائف كل مرحلة من مراحلها، واقتصار هذا التصور على الشكل العسكري الأقرب إلى الكلاسيكي، وابتعاده عن قوانين حرب الشعب، ووصل إلى طريق مسدود أيضاً، بعد أن أنجز حضور الهوية واستنفد مهمته.

كما لم يكن صحيحاً ذلك المنهج الذي يريد تحرير فلسطين بحرب التحرير الشعبية الفلسطينية العربية بدون الدول والجيوش، وبتجاهل واقعة احتلال أراضي أهم دولتين عربيتين، وبدون سلاح البترول العربي، وبدون السياسة العربية والدولية.

لقد قدم شعبنا وأمتنا تضحيات هائلة في الصراع، وما قلته ليس تقليلاً من صحة الرؤية القومية وصحة الدعوة للهوية النضالية الفلسطينية، وليس تقليلاً من جهود ونضالات الذين حملوا البرنامجين، فأنا من المنحازين لقوميته العربية وحضارته الإسلامية ولبرنامج المقاومة، ولكن السؤال هو لماذا تواضعت النتائج إلى حد التلاشي والتراجع مقابل جسامة التضحيات؟. لا يجوز أن يعزى ذلك لخلل في ميزان القوى فقط، بل الذي هزم في الحقيقة هو تصورنا للصراع.


افتراق سؤال الهوية وسؤال السياسة
نتيجة لتعذر هزيمة المشروع الصهيوني بهذه الأنماط التجريبية من الصراع، لجأت السياسة إلى ما سمي "تسوية الصراع"، وهنا جاءت مقولة الدولة الفلسطينية على أراضي 67 مقابل أراضي 67 ناقصة، ومقولة الدولة مقابل الحكم الذاتي، والحكم الذاتي في الضفة الغربية، مقابل حكم ذاتي ملحق بالدولة الأردنية، ومقولة التوطين مقابل العودة، لتشكل جميعها في جوهرها ابتعادا عن محور الصراع الوجودي، مما قاد إلى ما يسمى في الفيزياء تزايد قوة العطالة الفلسطينية، وتفاقم العجز عن الحركة وارتباكها، وازدياد ابتعادها عن المحور الأساس، ووقع انسداد نسبي للمبادرة والهجوم ومراكمة المكتسبات على خطوط المجابهة، فكيف بالقدرة على تغيير قواعد اللعبة السياسية.

"
الصهاينة على حق حين يقولون أن فلسطين لا تحتمل إلا هوية واحدة. ونحن نقول نعم، فلسطين لا تحتمل هوية الجريمة الصهيونية، وتحتمل هوية العدالة الفلسطينية فقط داخلها، فلسطين هوية عدالة إنسانية لن يكون هدفها غير فلسطين.
"

من الواضح أن سؤال الهوية وسؤال السياسة باتا يفترقان في الواقع السياسي الفلسطيني إلى حد التناقض، والسؤال الذي ينشأ في ضوء هذا التناقض هو: هل يمكن إنهاء الصراع من خلال التخلي عن ركيزة أساسية للهوية الجامعة للفلسطينيين، وفك ارتباطها الوثيق بالصراع الوجودي مع الحركة الصهيونية، وبالنكبة ومنتجاتها؟ وعلى وجه التعيين بوصفها متنافية وجودياً مع الهوية العدوانية الصهيونية، خاصة أن الهوية النضالية الفلسطينية لم تتبلور في نطاق دولة؟ على خلاف الدولة القومية الحديثة التي شكلت عماد تبلور الهويات الوطنية في معظم الحالات ما عدا الفلسطينية.

اتفاق أوسلو كان أبلغ تعبير عن غزو الحلول البراغماتية شكلاً والانهزامية مضموناً، للقيادات والنخب الفلسطينية، والتصور الخاطئ للصراع الذي أفسد القضية الوطنية وسبب لها الكوارث، وحول الفلسطينيين بفعل أوسلو إلى «يهودية شتاتية من دون أرض»، وساهم في تخليع الهوية النضالية الفلسطينية من خلال:

1- كسر وحدة الشعب الفلسطيني من خلال تقسيمه إلى مجموعات بشرية غير ذات صلة. فالمواطن الفلسطيني أصبح هو مواطن الضفة الغربية فقط، ومن يمكن أن يتكرم عليه العدو الصهيوني بمنحه حق العودة إلى بقايا الضفة الغربية. وحول فلسطينيي الوطن المحتل عام 48 إلى مواطنين إسرائيليين لا يقل وضعهم سوءاً عن فلسطينيي الضفة الغربية من حيث المساواة المدنية والحقوقية وليس القومية، وخلق شروط امتناع تطوير مبنى وطني سياسي لهم. وبهذا الحل أيضاً يراد للفلسطينيين في الأردن أن يكونوا مواطنين أردنيين بدلالة سلخهم عن وطنيتهم الفلسطينية، والباقون في المهاجر ينتظرون إيجاد تابعية لهم من خلال ما سمي الحل المعقول.

2- كسر وحدة الأرض الفلسطينية التي هي جوهر الصراع، وقبول اقتسامها مع الحركة الصهيونية قسمة ضيزى، بما يفقد الصراع جوهره وكأن فلسطين لم تعد وطناً وقضية أكثر مما هي عقار مختلف عليه يدعي ملكيته طرفان لكليهما نفس حق الملكية والخلاف على كمها فقط. ووفق أوسلو فإن فلسطين كلها تحت السيادة الصهيونية ومسموح بإدارة ذاتية للسكان على أقل من 20% من مساحتها للفلسطينيين، فماذا بقي من الهوية الفلسطينية؟.

3- تبهيت بل وإخفاء الهدف الأساس للصراع المتمثل في هزيمة الحركة الصهيونية وتفكيك كل منتجاتها العدوانية وعلى رأسها الدولة الإسرائيلية، وتحويل هذا الهدف والقضية الأساس إلى الدولة/الإدارة الذاتية المعالة من الدول المانحة، بما يعني أن التحرير بمقاس أوسلو صار بيعاً للموارد التي نريد تحريرها، إلى رأس المال العالمي، قبل تحريرها.

لماذا أعدنا سؤال الهوية النضالية الفلسطينية؟

فقط للقول إنها هوية ارتبطت عضوياً بعدوانية المشروع الصهيوني ولا شرعيته ابتداءً ببدئه واستمراراً بسبب طبيعته، وحددت لنفسها هدفاً تصبح بلا مضمون بدونه، يتمثل في الصراع الوجودي مع هذا المشروع، مما يبقي سؤال الهوية النضالية مفتوحاً حتى تفكيك المشروع الصهيوني الذي يعبر عن كرهه للإنسانية والعرب ولليهود والفلسطينيين معاً.

وبقدر ما "الفلسطينوية" -التي هي هوية مع تسوية وتوطين- باطل، فـ"الفلسطينية" النافية للكيان الصهيوني حق، صواب، تاريخي، إستراتيجي، تكتيكي. تلك الفلسطينية التي لا تحتمل التوسع سينائياً ولا شرق أردنياً. الصهاينة على حق حين يقولون إن فلسطين لا تحتمل إلا هوية واحدة. ونحن نقول نعم، فلسطين لا تحتمل هوية الجريمة الصهيونية، وتحتمل هوية العدالة الفلسطينية فقط داخلها، فلسطين هوية عدالة إنسانية لن يكون هدفها غير فلسطين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.