بين سليمان الحلبي والمعلم يعقوب

بين سليمان الحلبي والمعلم يعقوب

 

في أصول الخطاب السياسي

نحو التحرر من خطاب الغلبة

كان طلعت حرب نموذجا للنهضوي الذي يتطلع إليه الأمير اللبناني، فهو حافظ للقرآن ومتمسك بالتقاليد الإسلامية ويتمتع بوعي تاريخي وإدراك عميق لعناصر القوة والضعف في عصره، ومسكون بإرادة قوية لامتلاك ناصية التقدم المفيد لمصر وللأمة العربية. ونقف على ملخص لتفكيره النهضوي في https://ar.wikipedia.org/wiki/1907 مقال كتبه عام 1907 على صفحات "الجريدة" قال فيه "نطلب الاستقلال العام ونطلب أن تكون مصر للمصريين وهذه أمنية كل مصري، ولكن ما لنا لا نعمل للوصول إليها؟ وهل يمكننا أن نصل إلى ذلك إلا إذا زاحم طبيبنا الطبيب الأوروبي ومهندسنا المهندس الأوروبي والتاجر منا التاجر الأجنبي والصانع منا الصانع الأوروبي؟ وماذا يكون حالنا ولا (كبريته) يمكننا صنعها نوقد بها نارنا، ولا إبرة لنخيط بها ملبسنا، ولا فابريقة (تعني باللاتينية المحترف أو المصنع الصغير) ننسج بها غزلنا، ولا مركب أو سفينة نستحضر عليها ما يلزمنا من البلاد الأجنبية، فما بالنا عن كل ذلك لاهون ولا نفكر فيما يجب علينا عمله تمهيدا لاستقلالنا إن كنا له حقيقة طالبين وفيه راغبين، وأرى البنوك ومحلات التجارة والشركات ملأى بالأجانب وشبابنا إن لم يستخدموا في الحكومة لا يبرحون القهاوي والمحلات العامة، وأرى المصري هنا أبعد ما يكون عن تأسيس شركات زراعية وصناعية وغيرها، وأرى المصري يقترض المال بالربا ولا يرغب في تأسيس بنك يفك مضايقته ومضايقة أخيه وقت الحاجة، فالمال هو (أس) كل الأعمال في هذا العصر وتوأم كل ملك".

"
كان طلعت حرب نموذجا للنهضوي الذي يتطلع إليه أرسلان, فهو حافظ للقرآن ومتمسك بالتقاليد الإسلامية ويتمتع بوعي تاريخي وإدراك عميق لعناصر القوة والضعف في عصره، ومسكون بإرادة قوية لامتلاك ناصية التقدم المفيد لمصر وللأمة العربية
"

في ضوء هذه القناعة حول طلعت حرب رأس المال إلى وسيلة إنتاج قومي حين كان غيره ينظر إليه بوصفه وسيلة تراكم ريعي شخصي عابر للمكان والزمان، ولعل مصر تدين لهذا الاقتصادي النهضوي حتى اليوم بالسينما الوحيدة في العالم العربي وبالكثير من المنجزات الصناعية الأساسية فضلا عن بنك مصر بطبيعة الحال.

لم يكن بوسع طلعت حرب أن يصنع منفردا ربيع العرب والمسلمين، فكان أن قهرته ثقافة الخضوع المتراكمة كما ستقهر من بعد المشروع النهضوي الناصري.

المؤسف أن تجربة طلعت حرب لم تتحول إلى ظاهرة عامة بل ظلت مثالا فرديا يحاكي أمثلة مشابهة في التاريخ العربي منذ العصر العباسي، وهي أشبه بتجربة الخليفة المأمون صاحب مشروع المناظير الفلكية الشهيرة، فمنذ هذه التجربة كانت شخصيات عربية مسلمة تلمع منفردة دون أن تتحول إلى مدرسة جديرة بالانتشار كما يلاحظ المستشرق المنصف لويس يونغ في كتابه الشهير "العرب وأوروبا"، ما يعني أن شرط النهضة يكمن ليس في تكوين حفنة من النهضويين المعزولين وإنما في ثقافة نهضوية عامة محمولة من سلطة سياسية تضع حدا لقرون من ثقافة الخضوع والتقوقع العربية.

في أصول الخضوع السياسي
إذا كان من السهل الربط بين ثقافتنا العربية الإسلامية وظواهر المقاومة التي لم تنقطع على امتداد تاريخنا الحديث، فإن تفسير انتشار تيار الخضوع في صفوفنا يحتاج إلى وقفة أطول ألخصها في الخطوط العريضة التالية:

أولا- الخلفية العقيدية للخضوع تعود إلى زمن طويل بدأ في القرنين العاشر والحادي عشر حين اندلع سجال بين المفكرين العرب المسلمين حول العلاقة بين علوم العرب الدينية وعلوم الأجانب الفلسفية، وقد حسم السجال لصالح الفصل بين علوم العرب وعلوم الأجانب وبالتالي تحريم الاتصال فيما بينها، وكان أن هزمت دعوة ابن رشد الرامية إلى تحقيق الاتصال وانتصرت دعوة أبي حامد الغزالي التي تقول بوجوب الفصل. وترتب على ذلك أن صارت علوم الأجانب في خانة الكفر وصارت العلوم الدينية الإسلامية المفصولة عن كل علم أجنبي هي المرجع الحصري لكل أشكال الحياة، وبهذه القطيعة تصرف العرب والمسلمون كمن يطلق النار على أهم عناصر نهضتهم القائمة أصلا على دمج علوم الأجانب في الحضارة العربية الإسلامية وترجمتها والإفادة من عناصر التقدم فيها، واستخدامها في بناء حضارة الأندلس التي تسطع حتى اليوم في سماء الغرب والعالم بأسره.

وإذ يعيد العرب والمسلمون اليوم الاتصال بعلوم الأجانب دون مراجعة خطئهم التاريخي، فإنهم يحتاجون إلى جهود جبارة لتجسير الهوة الزمنية الساحقة التي امتدت لأكثر من سبعة قرون بين علومهم وعلوم الأجانب.

ثانيا- أدى الفصل بين علوم العرب وعلوم الأجانب إلى التخندق في موقع دفاعي رأينا أنه لم يكن كافيا للحؤول دون سقوط الأندلس بل وسقوط كل بلاد العرب والمسلمين من بعدُ تحت السيطرة الأجنبية ابتداء من القرن التاسع عشر وحتى أواسط ستينيات القرن العشرين.

ثالثا– لم تتخذ حروب السيطرة على بلداننا أشكالا حربية بحتة، فقد عمد المحتلون الأجانب إلى اختراق دفاعاتنا العقيدية عندما نجحوا في تفكيك سيرتنا الحضارية وجعلوها عابرة بين حضارات فرعونية وفينيقية وسبئية وبابلية وآشورية وكلدانية مبجلة في نظرهم، وبين حضارة غربية ظافرة ومحمودة، وصرنا وما زلنا نستبطن هذه السيرة الحضارية، والدليل أننا في مجال الآثار نبجل ونصرف ميزانيات ضخمة لترميم الآثار الرومانية ونهمل الآثار الإسلامية بل نجعلها تنهار أمام أعيننا، وهو ما يحصل في مصر على سبيل المثال حيث تهمل الآثار الإسلامية وتبجل الآثار الفرعونية، وفي لبنان وسوريا تصح المقارنة بين قلعة طرابلس وأسواقها الإسلامية القديمة ودمشق القديمة وقلعة بعلبك الرومانية والآثار الرومانية السورية.

"
لم تتخذ حروب السيطرة على بلداننا أشكالا حربية بحتة فقد عمد المحتلون الأجانب إلى اختراق دفاعاتنا العقيدية عندما نجحوا في تفكيك سيرتنا الحضارية
"

لقد أدت هذه النظرة المستبطنة إلى حصر الحضارة العربية الإسلامية بين هلالين وبالتالي ترتيب العرب والمسلمين في سياق هرمي يهمل وسيلة تقدمهم ونهوضهم على ما يلاحظ الأمير شكيب أرسلان، ويربط تقدمهم باتباع النمط الغربي، علما بأن هذا الاتباع التافه وغير الإبداعي هو بالضبط ما فعلوه منذ أكثر من قرنين، وهو ما يضمن موقعهم الدوني في الهرمية الحضارية المعاصرة.

رابعا– على الرغم من نجاح العرب في تسطير صفحات رائعة في مجال المقاومة والممانعة فإن الأمر كان وما زال محصورا في الجوانب الحربية والتضحيات الإنسانية، ولم يرتسم على هامش هذه الانتصارات تحول عقيدي فارق يعيد الربط المنشود بين علوم العرب وعلوم الأجانب، لذا كانت الانتصارات تدوم لبعض الوقت ثم تذوي كما هي حال التجربة الناصرية التي لمعت في سماء العرب لمدة 15 عاما وقلبت أوضاعهم رأسا على عقب وتمت تصفيتها في بلد المنشأ خلال خمسة أعوام مضت على رحيل مؤسسها في سبتمبر/أيلول 1970.

نحو التحرر من خطاب الغلبة
استمعت ذات مساء في العام 2007 إلى نادل تركي في إسطنبول يشرح لي كيف أن العرب ليس لديهم "ناموس" أو بلغته "عرب ناموس يوق"، فهو يقول إن العرب يقدرون بنحو 300 مليون نسمة بينما عدد سكان إسرائيل لا يتعدى الخمسة ملايين، ويرى أنه لو اجتمع كل العرب على حدود إسرائيل ورموها بالحجارة الصغيرة لربما تزول الدولة العبرية التي تهينهم وتنتصر عليهم في حروب خاطفة. ولعل أقوال النادل التركي نرددها أحيانا في أحاديثنا مشفوعة بعبارات التأسف والحسرة على تشتت العرب وانقساماتهم العبثية التي لا تنتهي.

من سوء الحظ أن مشاعر الأسف لا تكفي لرسم تصور مختلف لمصير التيار المقاوم عن مصائر المقاومات السابقة، وفي ظني أن الأمر يحتاج إلى تأمل في كيفية تحويل المقاومة إلى قاطرة ليس فقط من أجل إزالة الاحتلال وتحرير الأراضي المحتلة، وإنما كي تكون منطلقا لنهضة متدحرجة تبدأ بقهر المحتل وتنتهي بموقع الشريك في النظام الدولي، وكي يتم لنا هذا لا بد من التركيز على المنطلقات التالية:

أولا- الانتباه إلى أن الانتصار على أعدائنا يحرر قرارنا السياسي من التبعية ويضعنا في موقع السيد الحقيقي على كافة الشؤون، ويملي علينا التفكير بعقل السيد وليس التابع، والسيد هو من يسود نفسه في كل المجالات وليس في مجال واحد.

ثانيا- التغطية السياسية الحقيقية التي توفرها المقاومة والممانعة تتيح الانكباب على مشاريع الإنتاج الوطني الحقيقية التي توفر لنا قاعدة صلبة تدعم انتصارنا السياسي والعسكري وتمنحه الأبعاد الضرورية التي يحتاجها كي يترسخ ويصبح مرجعا للنظر في مجمل مصيرنا.

ثالثا- عقيدتنا الإسلامية تتيح لنا الاتصال بعلوم الأجانب أي بالحضارة الغربية الحديثة التي تملك مفاتيح الحياة العصرية دون الحاجة إلى الانفصال العلماني بين الدين والدولة الحديثة، لأنه ما من حضارة تقدمت على هذه القاعدة، والفصل العلماني بين الدين والدولة تم في الغرب بعد النهضة وليس قبلها.

لقد نهضنا في الأندلس على قاعدة الربط وليس الفصل بين الدولة والدين، ونهضنا في العهد العباسي على قاعدة الربط أيضا، وفي الحالتين ما كنا نحرم الاتصال بعلوم الأجانب، ما يعني أن الربط الميسر بين الدين والدولة معطوفا على الاتصال بعلوم الأجانب ومحميا بشرعية المقاومة، من شأنه أن يضعنا في سياق قطيعة ضرورية مع كل نمط ثقافتنا السياسية السابقة، وينقلنا إلى ثقافة جديدة هي المقدمة الضرورية لانطلاقة نهضوية حقيقية لطالما انتظرتها نخبنا منذ قرنين.

"
انتشار روح المقاومة الشاملة في كل قطاعات الحياة هي الشرط الوحيد بل التاريخي لكي تكون مقاومتنا فرصة ليس فقط لطرد المحتل وقهره، وإنما من أجل تحول مصيري ناهض مرة واحدة وإلى الأبد
"

رابعا- يقولون في العلوم العسكرية إن حماية الأمصار لا تبدأ من حدودها المباشرة وإنما من مسافات بعيدة عن هذه الحدود، وعليه فإن انتصار المقاومة لا يكفي لحمايتنا على المدى الإستراتيجي البعيد وحتى يصبح مصيرنا مضمونا لآماد بعيدة، لا بد من تشكيل كتلة تاريخية شاملة لكل الميادين وتحمل مشروعا نهضويا مترابطا مع المقاومة، بحيث يغدو التعرض لها كأنه تعرض لأمة بكل مكوناتها وبالتالي من الصعب قهرها.

وهنا لابد أن نتذكر أن النصر الباهر الذي حققه صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين اقتصر على الجانب العسكري والدفاعي البحت ولم يعصم هؤلاء بعد ثمانية قرون عن غزو بلداننا والقول لصلاح الدين أمام قبره "ها قد عدنا يا صلاح الدين". وحتى لا يأتي من يقول لنا ها قد عدنا لاحتلال أراضيكم، علينا أن ننتقل من موقع المنتصر مؤقتا إلى موقع المنتصر بنهضته الشاملة التاريخية، وعليه يجدر بروح المقاومة أن تنتج في صفوفنا طلعت حرب وليس صلاح عز الدين أو عثمان أحمد عثمان، وأن تنتج شكيب أرسلان وليس مداحين متحمسين على شاشات التلفزة، أي أنها تحتاج إلى أن نفتح ورشة إستراتيجية في كافة الميادين يكون فيها المقاتل الرائع ليس أقل أهمية من الباحث المقاوم والاقتصادي المقاوم والأستاذ الجامعي المقاوم ..إلخ، كل في مجاله.

إن انتشار روح المقاومة الشاملة في كل قطاعات الحياة هي الشرط الوحيد بل التاريخي لكي تكون مقاومتنا فرصة ليس فقط لطرد المحتل وقهره وإنما من أجل تحول مصيري ناهض مرة واحدة وإلى الأبد، فهل نحن فاعلون؟ هذا السؤال يسمى بلغة المسابقات التلفزيونية سؤال المليون، وكل سؤال آخر يبقى في الهامش ولا يعول عليه.
ـــــــــــ
ملاحظة: استندت في هذه الدراسة إلى كتابي "مصر في عيون الفرنسيس.. بحث في أصول الثقافة السياسية العربية" الصادر عن الدار العربية للعلوم في بيروت عام 2007، فضلا عن رسائل نابليون بونابرت المنشورة في مواقع عديدة على الشبكة العنكبوتية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.