أن تكون فلسطينياً في هذه الأيام
بعد أن فشل أركان السلطة الفلسطينية في رام الله "المحررة" من احتلال حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في محاولاتها البائسة واليائسة لاحتواء الفضيحة الجديدة القديمة، قضية التحرش الجنسي من قبل مدير مكتب من يُسمى نفسه رئيساً، السيّد محمود عبّاس (أبو مازن)، وبعد أن فشلت أيضاً في إقناع الرأي العام الفلسطيني والعربي والعالمي بأنّ كاشف قضية (فتح غيت) الضابط السابق في المخابرات العامة الفلسطينية، فهمي شبانة التميمي، أصبح عميلاً للمخابرات الإسرائيلية، اضطر السيّد عبّاس لتوقيف مدير مكتبه الحسيني عن العمل، وأعلن عن تشكيل لجنة تحقيق في قضية التحرش الجنسي.
في الحقيقة لم يقع علينا نبأ الفضيحة كالصاعقة، فهذه الفضيحة تنضم إلى سلسلة الفضائح التي عودتنا السلطة المنقوصة على إنتاجها وإخراجها، فبعد أن كان الشعب الفلسطيني يُقدّم الشهداء لإيمانه بعدالة قضيته، بات تحت نهج سلطة أوسلو الكارثية يُقدّم للعالم الفضائح التي يندى لها الجبين.
" الحديث لا يدور عن قضية أو قضيتين أو عشر قضايا، إنّما عن نهجٍ خطير يؤكد بشكل حازمٍ وقاطعٍ بأنّ الأمور في السلطة انحدرت إلى الدرك الأسفل، وبات الخجل أو الوجل عملةً نادرةً في أوساط أركان السلطة والمحيطين بها، " |
الحديث لا يدور عن قضية أو قضيتين أو عشر قضايا، إنّما عن نهجٍ خطيرٍ يؤكد بشكل حازمٍ وقاطعٍ بأنّ الأمور في السلطة انحدرت إلى الدرك الأسفل، وبات الخجل أو الوجل عملةً نادرةً في أوساط أركان السلطة والمحيطين بها، أولئك، الذين حاصروا ضمائرهم، وباتوا ينهبون أموال الشعب الفلسطيني، بدون حسيبٍ أو رقيبٍ، هذا الشعب الفقير، الذي يخضع لاحتلالين: الاحتلال الإسرائيلي الذي بدأ في العام 1967، والاحتلال الأوسلوي، الذي بدأ مع توقيع منظمة التحرير الفلسطينية على اتفاق أوسلو مع الدولة العبرية في الثالث عشر من شهر سبتمبر/أيلول من العام 1993.
في حقيقة الأمر لم نفاجأ من الفضيحة على الرغم من محاولات أقطاب سلطة رام الله المهزوزة والمأزومة احتواء قضية الضابط والوثائق التي بحوزته، فالقصة معروفة في الأوساط الفلسطينية منذ عام ونصف العام، ولكن أن تتوجه السلطة إلى سلطات الاحتلال الإسرائيلي لاعتقال الضابط، الذي قرر التغريد خارج السرب، هو باعتقادنا المتواضع جداً، نتاج التنسيق الأمني بين إسرائيل وبين الأجهزة الأمنية الفلسطينية التي يديرها عملياً الجنرال الأميركي، حاكم فلسطين الفعلي، كيث دايتون،
وبموازاة ذلك، حتى إذا كان الزعم بأنّ التميمي هو عميل للمخابرات الإسرائيلية، فهذا عذر أقبح من ذنب.
بمعنى آخر, الاختراق الأمني الإسرائيلي للأجهزة الأمنية الفلسطينية، وصل إلى حدٍ لا يطاق ولا يمكن للعقل البشري أن يتقبله: كيف وبأيّ صفة تقوم الأجهزة الأمنية الفلسطينية بالتعاون مع المحتل، الذي انتهك الأرض والعرض؟ لأوّل مرّة في التاريخ الحديث والقديم نسمع عن تنسيقٍ وتعاونٍ بين خصمين، أو بين عدوين.
ولا يشفع لقادة السلطة القول إنّ عدم تكافؤ القوى هو الذي يدفعها إلى ذلك، الحديث ليس عن تعاون، وليس عن تنسيق، الحديث عن نهج، نهج الانبطاح والاستسلام والإيمان بالمفاوضات العبثية مع الحكومة الإسرائيلية على ما تبقى من فلسطين التاريخية: الضفة الغربية وقطاع غزة، وهاتان المنطقتان، بالمناسبة، تُشكّلان 20% فقط من مساحة فلسطين التاريخية.
وعندما نتحدث عن نهجٍ تفشى كالمرض الخبيث في جميع أقسام السلطة، فإننّا نقصد أنّ هذا النهج يطال جميع مناحي الحياة في الضفة الغربية، التي تُدار من قبل الفلسطينيين والأميركيين والمصريين والأردنيين، وبطبيعة الحال، الحمل الوديع إسرائيل.
هذا النهج، الذي تقوده سلطة أوسلو -التي جلبت الويلات على الشعب العربي الفلسطيني، منذ التوقيع على الاتفاق المشؤوم في سبتمبر/أيلول من العام 1993،-هو نهج مستشرٍ وخطير وستكون له تداعيات وإرهاصات إستراتيجية على مستقبل القضية الفلسطينية برمتها.
وعلى سبيل الذكر لا الحصر، قيام رئيس الوزراء، الدكتور سلام فيّاض، بشجب عملية قتل الجندي الإسرائيلي في الضفة الغربية المحتلة، يوم الأربعاء (10/2/2010) يندرج في إطار هذا النهج، الذي يرى في المقاومة عدواً أكثر من الاحتلال، وهو نفس النهج الذي يتبناه سيادة الرئيس عبّاس، المنتهية ولايته منذ شهر يناير/كانون الثاني من العام 2009، والذي يقول بمناسبة أو بغير مناسبة إنّ صواريخ المقاومة الفلسطينية هي صواريخ عبثية.
والأمثلة على هذا النهج كثيرة ويعرف كل من في رأسه عينان أنّ الاحتلال الإسرائيلي يقمع المقاومة بواسطة الأجهزة الأمنية التابعة للثنائي عبّاس وفيّاض، وبالمقابل تواصل حكومة الاحتلال البناء اليهودي على الأراضي الفلسطينية وفي القدس العربية المحتلة.
نقولها وبفم مليء إنّ من عوّل على عبّاس، لا يمكن أن يُعوّل عليه، فالرجل غائص في وحل المفاوضات العبثية حتى أذنيه، ويتشبث بالحكم بشتى الوسائل والطرق، والمأساة أنّه يعتقد بحقٍ وحقيقةٍ بأنّه رئيس.
لا يا سيّد عبّاس، نحن نعلم بأنّ تنقلاتك داخل وخارج الضفة الغربية تمر عبر سلطات الاحتلال، ونعرف أيضاً أنّ عناصر من وحدة حماية الشخصيات المهمة في جهاز الأمن العام (الشاباك الإسرائيلي) تساهم في حمايتك من أبناء شعبك، ونحن يا سيّد عبّاس، بفضل أعمال أجهزتك الأمنية في قطاع غزة، بتنا الشعب الوحيد في العالم، الذي لا دولة له، ولكنّه يُحكم من قبل حكومتين: الأولى متأمركة في الضفة الغربية، والثانية مقالة برئاسة إسماعيل هنية في قطاع غزة، فهنيئاً لك على هذا الإنجاز غير المسبوق في تاريخ العلاقات الدولية.
" الفضيحة الجنسية والمالية وقعت على السلطة وهي في أضعف مواقفها، ولا نستبعد البتة أيضاً أنّ عناصر فلسطينية منبطحة أكثر من عبّاس وفيّاض، شاركت في نسج خيوطها ونشر الغسيل القذر أمام العالم " |
الفضيحة الجنسية والمالية وقعت على السلطة وهي في أضعف مواقفها، ولا نستبعد البتة أيضاً أنّ عناصر فلسطينية منبطحة أكثر من عبّاس وفيّاض، شاركت في نسج خيوطها ونشر الغسيل القذر أمام العالم، في محاولة لابتزاز "الرئيس" وإرغامه على العودة إلى طاولة المفاوضات مع الحكومة الأكثر تطرفاً منذ قيام الدولة العبرية على أنقاض الشعب العربي الفلسطيني في نكبة العام 1948، والتي يصرح رئيسها، بنيامين نتنياهو، أنّ القدس بجزأيها الغربي والشرقي هي العاصمة الأبدية للشعب اليهودي، وأنّ التكتلات الاستيطانية في الضفة الغربية المحتلة المسماة إسرائيلياً (غوش عتصيون) ستبقى إلى أبد الآبدين تحت السيادة الصهيونية.
وهو بذلك يعتمد على رسالة الضمانات التي سلّمها الرئيس الأميركي السابق، جورج بوش، في شهر أبريل/نيسان من العام 2004 لرئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، أرييل شارون، وتعهد فيها بأنّ الولايات المتحدة الأميركية، تتعهد بأن تبقى هذه التكتلات الاستيطانية ضمن السيادة الإسرائيلية حتى بعد التوصل إلى الحل النهائي مع الفلسطينيين.
وسؤال آخر يتبادر إلى الذهن في هذه العجالة: لماذا حتى الآن لم نسمع أيّ تعليق من الرباعية الدولية (أميركا، وروسيا، والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي) التي تُشرف بواسطة مبعوثها إلى الشرق الأوسط، توني بلير، على السلطة الفلسطينية؟ فمنذ غابر الأزمان والدول الأوروبية تلقي علينا المحاضرات في الديمقراطية وتطالب بالشفافية،
ومع ذلك، وفي العام 2006 عندما قرر الشعب الفلسطيني في انتخاباتٍ نزيهةٍ، باعتراف أميركي وأوروبي، عبر صناديق الاقتراع، انتخاب حركة حماس، ومعاقبة حركة فتح، فإن أوروبا المتنورة رفضت الاعتراف بحماس، لأنّ حماس ترفض الاعتراف بشروط الرباعية الدولية.
ولا نعرف من أين استقى حكّام أوروبا هذه المعادلة الجديدة عن الديمقراطية الجديدة والمشروطة، وهي بذلك لا تختلف عن إسرائيل المسماة في الغرب "واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط"، والتي تشترط منح الموطنين الفلسطينيين في تخومها الواجبات، مقابل تقديمهم للخدمات، ولم نسمع عن دولة تُعرّف نفسها بأنّها دولة ديمقراطية تُقسّم المقسم وتجزئ المجزأ وتحاول تدوير المربع، إلا بعد قيام إسرائيل وإمعانها في قمع الفلسطينيين، أصحاب الأرض الأصليين.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يحق لنا أن نُوجّه السؤال التالي للغرب الديمقراطي، الذي ما زال ينظر إلى الشرق نظرة ازدراء واحتقار بصفته، وفق منطقهم، منطقة متخلفة: لماذا لا تطالبون بالشفافية؟ لماذا لا تسألون كيف تمّت سرقة مئات ملايين الدولارات من الشعب الفلسطيني، وفق أقوال الضابط التميمي، التي تستند إلى وثائق وتسجيلات؟
أليس من حق الشعب الفلسطيني، الذي ينتظر أموال الدول المانحة، أن يعرف إلى أين ذهبت هذه المبالغ الخيالية؟ الجواب لدينا واضح: أوروبا معنية بتكريس هذا النهج في السلطة الفلسطينية، فهذا هو الاستعمار في أبشع تجلياته، هكذا يبقى مسيطراً على الشعب الفلسطيني وخاماته وطاقاته وقدراته.
وختاماً: الرئيس الشهيد ياسر عرفات، قُتل من قبل إسرائيل وعملائها الفلسطينيين، كما كشف قبل عدّة أشهر رئيس الدائرة السياسية في منظمة التحرير الفلسطينية، فاروق القدومي (أبو اللطف)، وبدل أن تقوم السلطة بالتحقيق في أقوال القدومي الخطيرة، المستندة إلى محضر جلسة، قامت حركة فتح، والتي كان القدومي من أبرز مؤسسيها بإقصائه من منصبه، فإذا كانت هذه الجماعة غير معنية بالتحقيق في ظروف اغتيال الرئيس عرفات، فما بالكم بأن تحقق في قضية سرقة مئات ملايين الدولارات من الشعب الفلسطيني.
" ما زلنا نؤمن وسنبقى نؤمن بقدرات الأمّة العربيّة والشعب الفلسطيني على النهوض، ونطمئن أنفسنا بأنّ الشعب الفلسطيني سيبقى عاتياً على العتاةٍ وعصياً على الظلم والغبن والاستبداد إن كان من الاحتلال أو من الإمبريالية أو من زبانيته " |
ومن حقنا أن نسأل أيضاً الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية: في الرابع عشر من شهر فبراير/شباط الجاري صادفت الذكرى الخامسة لاغتيال رئيس الوزراء اللبناني، رفيق الحريري، لماذا حوّلتم الحريري إلى أهم من لبنان؟ لماذا قمتم بتدويل قضية اغتياله، وعينتم لجنتي تحقيق؟ لماذا يا أميركا، يا رأس حربة الإمبريالية العالمية، قطعت العلاقات مع سوريا على خلفية اتهامها بالضلوع في عملية الاغتيال؟ أليس هذا هو النفاق بعينه.
ألا تثبت هذه الواقعة أن الغرب يكيل بمكيالين؟ وهمه الأول والأخير هو ضمان مصالحه في منطقة الشرق الأوسط؟ لماذا تواصلون الاعتقاد أنّ الأمّة العربيّة هي أمّة متخلفة؟ على ماذا تراهنون عندما تقومون بدعم أنظمة العذاب الدكتاتورية المنتشرة في الوطن العربيّ؟
ومع أنّ الصورة سوداوية للغاية، ومع أننّا نتذكر مقولة الشهيد كمال ناصر، الذي اغتالته يد الغدر الصهيونية في عملية فردان (1973) مع الشهيدين كمال عدوان وأبو يوسف النجار: سيأتي يوم تكون فيه الخيانة وجهة نظر، إلا أننّا وبعيداً عن إطلاق الشعارات الرنانة، ما زلنا نؤمن وسنبقى نؤمن بقدرات الأمّة العربيّة والشعب الفلسطيني على النهوض، ونطمئن أنفسنا بأنّ الشعب الفلسطيني، الذي يقف أمام أعتى جيش في العالم بكبرياء وشموخ، سيبقى عاتياً على العتاةٍ وعصياً على الظلم والغبن والاستبداد إن كان من الاحتلال أو من الإمبريالية الداعمة له، أو من زبانيته.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.