انتخابات الأردن.. عصبية العشيرة والمال السياسي

انتخابات الأردن.. عصبية العشيرة والمال السياسي - محمد المصري



بعد يومين سيتوجه الناخبون الأردنيون لاختيار مجلس نواب جديد. ومن المفترض أن تكون هذه الانتخابات واحدة من الانتخابات النيابية المفصلية في الأردن، إذ تأتي في أعقاب انتخابات 2007 التي كان عدم نزاهتها محل توافق، وأنتجت مجلساً لم يحظ أداؤه برضا الشارع الأردني، بل قوبل حله بعد عامين على انتخابه بارتياح عام.

ومع ذلك فإن العملية الانتخابية، وإلى الآن لم تتحول إلى حدث جوهري أساسي تتفاعل معه شرائح المجتمع كافة وتراقب مجرياته حكومات إقليمية ودولية.

وحقيقة الحال أن الانتخابات النيابية في الأردن تستمد أهميتها من الدور الدستوري لمجلس النواب الذي يُعد حسب نصوص الدستور، الهيئة التمثيلية التي تنوب عن المواطنين في المشاركة في الحكم في نظام سياسي عرّفه الدستور بأنه "نيابي ملكي".

فمجلس النواب هو مجلس للحكم ولصياغة السياسات والتوجهات العامة للدولة، وهو المجلس الذي يقوم بالتشريع والرقابة ومساءلة السلطة التنفيذية، إضافة إلى الإشراف على الإنفاق العام.

وعليه، فإن الانتخابات النيابية تمثل، على الصعيد النظري، فرصة للمواطنين للقيام بإعادة تقييم السياسات العامة للدولة من ناحية، وبالمساهمة في صياغة الاتجاه العام للدولة لأربع سنوات مقبلة من ناحية أخرى.

"
العصبية التقليدية غير معنية بمقتضيات سياسية بل على العكس هي جزء من تفتيت العمل الجمعي بدوافع توليد قيادات وزعامات محلية ذات فائدة في تقديم خدمات خاصة للحلقة الضيقة للمرشح
"

ومن ثم، فإن العملية الانتخابية والسلوك الانتخابي للمواطن -بناءً على تعريف مجلس النواب الدستوري- يجب أن يعكسا مدى رضا المواطنين عن السياسات والتوجهات العامة للدولة، ومقدار رغبتهم في مراجعة هذه السياسات أو تغييرها بشكل جزئي أو جذري.

وبذلك يجب ألا تختلف العملية الانتخابية وسلوك الناخب الأردني عنها في دول أخرى أو عن محددات السلوك الانتخابي للمواطن الفرنسي أو البريطاني، على سبيل المثال، ويجب أن تكون الانتخابات في الأردن على القدر نفسه من الأهمية التي تتمتع بها الانتخابات في الأنظمة الديمقراطية في العالم.

إلا أن واقع الأمر في هذه الانتخابات النيابية أو غيرها من الانتخابات السابقة على مدار 17 عاماً الماضية لا تكتسي تلك الأهمية، بل إن الانتخابات لا تمثّل نقطة تحول في السياسات العامة للدولة أو في تشكيل الطيف السياسي الذي يُلقى على عاتقه إدارة الدولة.

وتكون المفارقة أن المواطن الأردني نفسه قد تابع الانتخابات النصفية الأميركية معتقدا أن نتائجها ستؤدي إلى تغير في السياسات.

إن فقدان الانتخابات النيابية الحالية لأهميتها وقيمتها المضافة لم يكن بقرار توافق عليه المواطنون بين ليلة وضحها، بل جاء محصلة لعملية تراكمية طويلة.

إن مبدأ الصوت الواحد الذي اعتمد في قانون الانتخاب منذ عام 1993 (صوت واحد للناخب في دائرة متعددة المقاعد، يطلق عليه الصوت المجزوء) قد ساهم في تحويل الأطر الاجتماعية التقليدية من عشيرة وتجمعات بلدات الأصل إلى إطار سياسي يهدف إلى ترشيح أحد أفراده أو دعم أحد المرشحين.

وهذه العصبية التقليدية غير معنية بمقتضيات سياسية بل على العكس هي جزء من تفتيت العمل الجمعي بدوافع توليد قيادات وزعامات محلية ذات فائدة في تقديم خدمات خاصة للحلقة الضيقة للمرشح أو همزة وصل بين هذه الحلقة الضيقة ومؤسسات الدولة التنفيذية، وليس في إطار مراجعة سياسات عامة.

إن الانتخابات الداخلية في العشائر أو الروابط أو الانقسام داخلها على أكثر من مرشح التي شهدتها الانتخابات الحالية هي ظواهر تعكس مدى المأسسة للعصبية التقليدية السياسية التي تعبر عن كتل اجتماعية من الناخبين لم يصبحوا جزءاً من هذه العصبية بحكم خيارهم، بل بحكم ميلادهم.

كما أن هذه العصبيات التقليدية غير قادرة على الاتفاق إذ إنها محصورة بواقعها الجغرافي وبأهدافها ومصالحها في إطار مجتمع محلي ضيق، أي إنها أداة تنقل أجندات المجتمع المحلي لتصبح أجندات وطنية عامة.

فما الشعارات العمومية التي يطرحها كثير من المرشحين اليوم مثل (الوحدة الوطنية والحرية والعهد والوعد والصوت المُدوِّي) إلا مثال صارخ على طرح العموميات التي تفتقر إلى محتوى محدد وواضح، وبذلك لا يستطيع الناخب أن يدرك من خلاله ما هو طرح المرشح، وما مدى تأثير هذا الطرح على الحياة العامة وعلى مستقبل البلاد.

"
تعريف مجلس النواب تحول لدى الرأي العام إلى مجرد هيئة وسيطة بين المواطنين والسلطة التنفيذية وأجهزتها
"

وإذا ما كان هذا هو الحال الغالب على العملية الانتخابية في معظم التكوينات الاجتماعية الثقافية التي تسيطر عليها الأطر التقليدية، فإن الناخبين في التكوينات الاجتماعية، حيث لا تسيطر الأطر التقليدية، أصبحوا ساحة مفتوحة لتأثير وابتزاز مرشحي ما يسمى بـ"المال السياسي"، وهم الذين يوظفون مقدراتهم الاقتصادية والمالية في جذب أصوات الناخبين، أو ساحة مفتوحة لبيع وشراء الأصوات.

وعلى الرغم من أن روح النص الدستوري تقتضي أن تشكل الحكومات من جانب الكتلة الأكبر في مجلس النواب (وقد جرى ذلك في حكومة سليمان النابلسي 1956) فإن عدم تشكيل الحكومات من جانب مجلس النواب قد ساهم، إلى حد كبير، في أن ينظر إلى مجلس النواب ليس بوصفه شريكا في صناعة القرار، وإنما باعتباره متلقيا للسياسات.

ومن ناحية أخرى، فإن تطبيق التقليد الذي ساد على مدار أربعة عشر عاماً الماضية بعدم السماح للنواب بأن يكونوا وزراء في الحكومات المتعاقبة قد ساهم في تكريس اعتقاد مفاده أن مجلس النواب ليس شريكاً في الحكم، كما ينص الدستور وليس مطبخ صنع السياسات العامة للدولة.

هذا التقليد، مترافقاً مع طغيان السلوك الانتخابي القائم على العصبية أو جذب صوت الناخب إلى نطاق تأثير المال السياسي، أسس لعلاقة بين الحكومة بوصفها سلطة تنفيذية ومؤسسات الدولة التنفيذية ومجلس النواب.

وقد تحول الأخير إلى هيئة شبه اضطرارية تضفي شرعية على تشريعات وسياسات يتم صياغتها من السلطة التنفيذية، ومنها الموازنة العامة، وأصبحت العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية تُحكم في إطار علاقات خدمات تبادلية يتم من خلالها إشباع الأجندات المحلية للنواب، مقابل تنازلهم عن المشاركة في صناعة القرار.

لذا فالعلاقة لا ترقى في مجملها إلى مستوى الحوار حول الاتجاه أو السياسات العامة للدولة، بل إنها علاقة يشوبها الخلل، وكان مجلس النواب فيها -باعتباره مؤسسة- هو الحلقة الأضعف.

إن صيرورة انتقال مجالس النواب في الأردن إلى مجالس تتجاذبها تشكيلة تعتمد على العصبيات التقليدية أو التأثير المتزايد لرأس المال السياسي، وفي ظل غياب قوى سياسية منظمة قوية، أديّا إلى إعادة تشكيل إدراك الرأي العام لدور مجلس النواب الدستوري.

فأكثرية المواطنين اليوم على غير دراية بالدور الدستوري لمجلس النواب، بل إن تعريف مجلس النواب تحول لدى الرأي العام إلى مجرد هيئة وسيطة بين المواطنين والسلطة التنفيذية وأجهزتها.

فالمحدد للسلوك الانتخابي للمواطن اليوم لا يأتي من مفهوم أن صوته يشكل مجلسا يقوم مع السلطة التنفيذية على صناعة القرار السياسي وعلى وضع السياسة العامة للدولة، بل يأتي من مفهوم أن المجلس ونوابه وسطاء يقومون بنقل مشكلات الناخبين في دوائرهم إلى أصحاب القرار في السلطة التنفيذية.

"
ما يمكن تحقيقه من هذه الانتخابات من شرعية للدولة مرتبط بقدرة الحكومة على إدارة الانتخابات بنزاهة وشفافية وحرية تستطيع أن تمحو من أذهان المواطنين ما شاب الانتخابات النيابية والبلدية العام 2007
"

وهذا يفسر اتجاه الرأي العام خلال السنوات القليلة الماضية الذي يفضل المرشح "الأمين" "القادر على نقل مشكلات أبناء الدائرة"، أو "يقدم خدمات التوظيف"، و"الرعاية الصحية المجانية".

لقد تحول مجلس النواب في إدراك المواطن من مؤسسة حكم إلى مجموعة ضغط أو مؤسسة مجتمع مدني أو مجلس لنقل شكاوى المواطنين.

في إطار قانون انتخاب يشجع تحويل الإطار التقليدي الاجتماعي غير الطوعي إلى عصبية تقليدية سياسية تؤدي دورا محوريا في تحديد تشكيلة مجلس النواب وتدفع بصراعات وأجندات وأولويات مجتمعات محلية لتكون هي الأجندة العامة والغالبة على مجلس النواب، وفي ظل أكثرية من المرشحين لا يطرحون سياسات في برامجهم الانتخابية أو يبدون نيتهم لمراجعة سياسات عامة مترافقاً مع إدراك عام غالب لدى المواطنين بأن مجلس النواب هو أقرب إلى مؤسسة وسيطة بين المواطن ومؤسسات الدولة.

سيصبح من المفهوم أن يكون هنالك تيار عام في الشارع الأردني يعتقد أن لا جدوى من الانتخاب ولا جدوى من التصويت وأن الانتخابات لا تغيّر شيئا، ويصبح من السهل إدراك ظواهر بيع وشراء الأصوات أو التمترس غير العقلاني وراء العصبية التقليدية السياسية.

وعليه، فإنه ليس من المنتظر أن تشهد العملية الانتخابية الحالية طفرة جينية في السلوك الانتخابي تقود إلى مجلس نيابي يعيد صياغة السياسات العامة في الدولة أو يؤثر فيها أو يتحول إلى مؤسسة شريكة في صناعة القرار السياسي.

إن أفضل ما يرتجى من هذه الانتخابات هو وصول قلة من المرشحين الذين يؤدون دورهم بوصفهم نواباً وليسوا وسطاء.

وعليه، فإن هنالك جمهوراً من الناخبين الذين لا تدفعهم عصبيات تقليدية أو دوافع أخرى سيشعرون بأن لا جدوى من تصويتهم في الانتخابات القادمة، وبخاصة في ظل مقاطعة الإخوان المسلمين، الحزب الأكثر تأثيراً في الساحة الأردنية.

وبذلك تبقى الفجوة قائمة بين أهمية العملية الانتخابية في الأردن وغيرها من الدول العربية، وتلك الأهمية في الديمقراطيات الغربية، وحتماً ستبقى الفجوة قائمة بين دور المجالس النيابية في الدول العربية ودور أقرانها في الدول الديمقراطية.

وفي هذا السياق، فإن الانتخابات الحالية لا يمكنها أن تمثّل تجديدا في العلاقة التبادلية بين المواطنين من جهة والدولة ومؤسساتها من جهة أخرى، تساهم في تكريس شرعية الدولة من خلال إضفاء شرعية أخرى ودينامكية.

ويبقى ما يمكن تحقيقه من هذه الانتخابات من شرعية للدولة -ليس رفع نسبة المصوتين أو إنتاج مجلس نواب فاعل- مرتبطاً بقدرة الحكومة على إدارة الانتخابات بنزاهة وشفافية وحرية تستطيع أن تمحو من أذهان المواطنين ما شاب الانتخابات النيابية والبلدية العام 2007.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.