كيف نؤلف حكومة في سبعة أيام دون معلم؟

فاضل الربيعي - عنوان المقال: كيف نؤلف حكومة في سبعة أيام دون معلم؟



ثمة درس ناقص في الديمقراطية، أعني التجربة التي يقال لنا إنها تجربة ديمقراطية في العراق الجديد.. هذا صحيح. لكن، هل المشكلة في النظرية أم في التطبيق؟ في المفهوم أم في الممارسة؟ وأيهما أسبق؟ أي هل يكمن هذا النقص في الديمقراطية كمفهوم، أم يكمن في الديمقراطيين الممارسين لها؟

وإذا كنا من أتباع الفلسفات البيزنطية في النقاش السياسي الدائر اليوم حول مسألة تشكيل الحكومة، فعلينا أن نتساءل عن جدل العلاقة بين الديمقراطية والديمقراطيين، وما إذا كان بوسعنا رؤية ديمقراطية من دون ديمقراطيين، أم أن علينا إعادة طرح السؤال نفسه كما طرح في العاصمة البيزنطية القديمة إسطنبولس يوم كان الفلاسفة يجادلون أيهما أسبق البيضة أم الدجاجة، بينما كانت بيزنطة نفسها تترنح تحت ضربات الفرس؟

الديمقراطية شيء عظيم حقا، لكن هناك الكثير من النواقص والعيوب في "الدارسين الديمقراطيين" العراقيين.. هذا صحيح. لكن، هل بوسع محبي وعشاق الديمقراطية حول العالم أن يستخلصوا بسهولة الحقيقة القائلة إن معضلة الديمقراطية في هذا البلد ليست في المفهوم النظري ولا في الممارسة العملية السائدة، بل في الجانب المسكوت عنه من تجربة احتلال هذا البلد تعيس الحظ؟

نعني أن النقص الفادح في التجربة يتصل أولا وأخيرا بالطريقة التي يقوم بها المحتل بتعليم الشعب الرازح تحت الاحتلال أصول وقواعد اللعبة، وأن علينا أن نتجه بأنظارنا صوب "نظام تعلم الديمقراطية الإلزامي" الذي يطبقه الأميركيون، لا إلى التلاميذ العراقيين؟

"
كل ما يطلبه العراقيون اليوم وبعدما يئسوا من إمكانية إحداث التغيير، أن يروا حكومة حتى وإنْ لم يكن من بين مهامها إخراج الزير من البير
"

ذلك أن هؤلاء برهنوا على أنهم نجباء وأذكياء ويتعلمون بسرعة، خصوصا بعد تجربتين انتخابيتين عام 2005 ثم عام 2010، فضلا عن تجارب صغيرة موازية مثل انتخابات مجالس المحافظات.

المشكلة ليست في النظرية ولا في التطبيق.. إنها في نظام تعليم الديمقراطية نفسه.. إنه يطبق بالطريقة ذاتها التي يجري بها تطبيق نظام الخدمة الإلزامية في العديد من بلدان العالم الثالث، فهو قد يخرج جنودا مقاتلين، ولكنه لن يصنع منهم أبدا جنودا أكفاء ومتعلمين.

هذه الصورة الساخرة هي خلاصة المرارة وعصارة الألم الذي يشعر به ثمانية ملايين ناخب توجهوا في مارس/آذار الماضي -كما قيل للعالم كله عبر 55 فضائية عراقية وما يزيد عن مائة فضائية عربية جندت نفسها لهذا الحدث- وهم يتحدون كل صنوف الإرهاب، ليغمسوا أصابعهم في الحبر البنفسجي في أكبر عرس ديمقراطي في المنطقة العربية.. هذه المنطقة التي يقال عادة في الغرب إنها تعج بالمستبدين الذين لم يعد لهم وجود في العراق الجديد!

لقد خرجوا للتصويت من أجل التغيير، ولكنهم لم يحصلوا على أي شيء، بل خرجوا مثل أبطال الأساطير الإغريقية وهم يتحدون وحش الإرهاب بصدورهم العارية.. هذا رائع، لكن على ماذا حصل هؤلاء الأبطال؟

بعد سبعة أشهر من إعلان النتائج، ما يزال رئيس الوزراء هو هو، وما تزال الحكومة الجديدة في علم الغيب. لم يحصل هؤلاء حتى على "مجرد حكومة جديدة"، أي مجرد إدارة جديدة ترش القليل من السكر على موتهم المر.

وبالفعل، فكل ما يطلبه العراقيون اليوم، وبعد أن يئسوا من إمكانية إحداث التغيير، هو أن يروا "حكومة" حتى وإنْ لم يكن من بين مهامها إخراج الزير من البير؟

هل تعرضنا لخديعة؟ هذا السؤال يتردد على ألسنة العراقيين بقوة.

دعونا إذا من السخرية ولنتحدث بجد، فالذين يعيشون الألم في كل لحظة لا يعبؤون في النهاية بمن يجب أن يلقى عليه اللوم، بل يفتشون عن العلاج، وفي أسوأ الأحوال يبحثون عما يخفف أوجاعهم.

وفي حالة العراقيين المخدوعين، يتعين أن يُقال بصراحة وشجاعة إنهم كانوا ضحية خداع شارك فيه سياسيون وأحزاب ودول ومؤسسات إعلامية وحتى فلاسفة.. لقد صوروا لهم الأمر على نحو بسيط وسهل للغاية.. تماما كما يقال لصياد هاو، كل ما عليك أن تفعله هو الخروج للصيد وإطلاق النار على الطريدة وبعد ذلك ستحصل على طعام، ثم سرعان ما يكتشف الصياد الهاوي أن الصيد لعبة كر وفر طويلة يتخللها الجوع والتعب والخطر.

وهذا تماما ما حدث للعراقيين حين قيل لهم: كل ما يتعين عليكم فعله للحصول على تغيير جذري في حياتكم التعيسة، هو أن تخرجوا -فقط أن تخرجوا- للتصويت.. فمن هم المشاركون في صناعة الخديعة؟

أولا- الأحزاب والجماعات المناهضة للاحتلال، فقد هللت للعرس الانتخابي بعضُ الجماعات والقوى والأحزاب التي قدمت نفسها كطرف في الصراع مع الأميركيين طوال السنوات الماضية، وبشكل أخص حزب البعث العربي الاشتراكي.

لقد سعى البعث بجناحيه وبكل الوسائل والإمكانيات إلى حشد العراقيين في الداخل والخارج من أجل التصويت بكثافة للقائمة العراقية بزعامة إياد علاوي الذي صور في الكثير من المناسبات كما لو كان المخلص يسوع الذي سينتشل العراقيين من براثن الموت.

"
لم يقل أحد -لا من الزعماء ولا من الفلاسفة ولا من المحللين السياسيين- إن الديمقراطية لا يمكن اختزالها بهذه الطريقة، وإن بين التغيير المنشود والواقع الراهن مسافة تقاس بالسنوات الضوئية
"

والسؤال الذي يطرحه الكثير من العراقيين على البعثيين في الخارج هو: ما هي بالضبط التحليلات والاستنتاجات والحسابات التي قادت الحزب إلى اتخاذ مثل هذا القرار؟

هل تخيل البعث أنه إذا ما تسلل إلى العرس الانتخابي يمكن أن يصبح من المدعوين إلى الوليمة؟ أي أن يعود إلى السلطة من الشباك بعدما طرد من الباب؟

إذا كانت مثل هذه الحسابات موجودة بالفعل، فهذا يعني أنه لم يتعلم أي شيء من تجربة الاحتلال الكارثية، لأن الدرس الوحيد الذي تعلمه في هذه الحالة وهو درس غير نافع، أن يعود إلى السلطة بأي ثمن حتى وإن أدى ذلك إلى خديعة الشعب، بينما يجب عليه أن يتعلم الدرس الحقيقي القائل إن العالم تغير من حولنا، وإن عودة الحزب إلى السلطة باتت ضربا من الخيال.

أما الجماعات الأخرى -ومعها بعض الفلاسفة- فقد اتضح أنهم كانوا جميعا يشاركون في صياغة وعي سياسي زائف عند ملايين العراقيين، بأن الحل رهن بمشاركتهم في لعبة ديمقراطية تديرها جماعات، يتهمهما هؤلاء ليل نهار بأنها جماعات إجرامية؟

وهذه مفارقة مروعة، إذ كيف ندعو الناس إلى المشاركة في الانتخابات بينما نتهم من يديرونها بأنهم قتلة؟ وبعض هذه الجماعات فاجأت العالم كله بأنها تغدق أموالا فلكية على الحملات الانتخابية (تكفي لإطعام سكان الجنوب الشيعي الفقراء ونصف الجائعين في فدرالية كردستان).

واحدة من القوائم المشاركة في الانتخابات أنفقت وحدها ومن كيس مالها الخاص -بحسب تصريح زعيمها لقناة العربية- نحو مليار دولار، ذهب قسم كبير منها لنحو ستمائة مستشار وخبير ومدير حملة انتخابية، بينهم منظم حملة أوباما الانتخابية شخصيا بشحمه ولحمه؟

اليوم ولأجل معالجة الدرس الناقص في الديمقراطية، يتعين تقديم كشف حساب دقيق وشفاف وعلني بالأفكار والرؤى والتحليلات التي قادت هذه القوى إلى المشاركة في الخداع، وإلى تقديم كشف مماثل بمصادر الأموال التي أغدقت.

كما يتعين لأجل احترام الدرس الديمقراطي أن تقوم كل هذه الجماعات والأحزاب بمراجعة شاملة لتجربتها في تعلم الديمقراطية دون معلم، وتقديم اعتذار علني لكل المخدوعين.


ثانيا- الدول والمؤسسات الإعلامية والفلاسفة، فقد انخرطت -كما لم يحدث من قبل في أي تجربة أخرى- كل الدول الديمقراطية والدكتاتورية في العالم، سواء بسواء، ومعها مؤسسات إعلامية وفلاسفة ومحللون سياسيون- ما أكثرهم وما أحلى تحليلاتهم- في دعم وتسويق فكرة العرس الديمقراطي في العراق الجديد.

ما من زعيم دولة ديمقراطية أو نصف دكتاتورية إلا وهنأ الشعب العراقي على شجاعته في الخروج للتغيير، حتى اعتقد العراقيون -في لحظة زهو- أنهم شعب الله المختار، وأن العناية الإلهية وحدها هي التي انتدبتهم لصنع المعجزة: أن يشقوا البحر مرة أخرى.

بعض هذه المؤسسات الإعلامية الكبرى ظلت تعمل طوال أسابيع سابقة على العرس الانتخابي من أجل ضمان أفضل تغطية إعلامية لهذا الحدث التاريخي.

ولذلك فهي -مثل السياسيين العراقيين- تتحمل المسؤولية بالقدر ذاته، لأنها ساهمت في صياغة وعي زائف لمفهوم الديمقراطية، بوصفها تجربة اقتراع وحسب، وأن العراقيين بتوجههم إلى صناديق الاقتراع سيصنعون تجربة نادرة في التاريخ، أي أنهم ليسوا بحاجة إلى مؤسسات ديمقراطية ولا إلى ديمقراطيين حقيقيين، بل هم بحاجة فقط إلى صناديق اقتراع.

لم يقل أحد، لا من الزعماء ولا من الفلاسفة ولا من المحللين السياسيين، إن الديمقراطية لا يمكن اختزالها بهذه الطريقة، وإن بين التغيير المنشود والواقع الراهن مسافة تقاس بالسنوات الضوئية لا بالأيام الأرضية، وإن تعلم الدرس بشكل صحيح يتطلب ديمقراطيين مؤهلين للدخول في مدرسة نظامية، لا البقاء على الرصيف وتصفح كتيبات تعليم شبيهة بكتيبات تعلم اللغة الأجنبية دون معلم.


"
تصوير مسألة تشكيل الحكومة كموضوع تنافس مرير بين ديمقراطيين فائزين في الانتخابات.. تزوير فاضح للحقيقة، لأن الدرس الأول في الديمقراطية هو أن يقبل المهزوم بالهزيمة، وأن يتوجه المنتصر بالتحية لخصمه
"

ثالثا- قوى العملية السياسية، فالصراع الدائر بين الكتل والقوى والجماعات التي انخرطت في تجربة الانتخابات يبدو في التحليلات السائدة كأنه ينحصر في مسألة واحدة هي تشكيل حكومة.

العالم كله مشغول بمسألة تشكيل الحكومة العراقية بعدما انشغل بالعرس الانتخابي التاريخي، وهذا جزء مكشوف من التضليل، فليس ما يجري صراعا على منصب رئيس الوزراء وحسب، بل هو صراع على السلطة تديره جماعات يتأسس فكرها السياسي إما على نظريات استبدادية تتأجج فيها روح الثأر والانتقام، وإما على نظريات وأفكار ليبرالية هي أقرب إلى المزاعم منها إلى النظريات.

وقد سبق لبعض القادة الليبراليين -حتى لا ننسى- أن استخدموا الاستبداد والقسوة والعنف الشرس، حين تطلبت "الديمقراطية" أن يُضرب فقراء النجف ومشردو الفلوجة بالطائرات والصواريخ دون رحمة، وهو -أخيرا- صراع يجري فعليا بين ثقافة دكتاتورية يعاد إنتاجها بلغة ديمقراطية، وثقافة أخرى تريد تعلم الديمقراطية، ولكن من دون التخلي عن الماضي غير الديمقراطي.

إن تصوير مسألة تشكيل الحكومة كموضوع تنافس مرير بين ديمقراطيين فائزين في الانتخابات تزوير فاضح للحقيقة، لأن الدرس الأول في الديمقراطية هو أن يقبل المهزوم بالهزيمة، وأن يتوجه المنتصر بالتحية لخصمه، ثم يذهب كل منهما إلى موقعه الجديد في اللعبة.

ما يجري في العراق نوع من خداع متواصل، وقد آن الأوان للقول صراحة إن ثمة درسا ناقصا: اللغة.

في العراق اليوم جماعات وقوى مسحورة بكلمة الديمقراطية، لكن لم يجرب أي منها بعدُ تعلمها كلغة، أي تعلمها واستيعابها كفكر سياسي لا كألاعيب ومناورات، وهذا هو السر الحقيقي وراء الاستعصاء في تشكيل الحكومة.. إنهم يريدون شراكة وطنية بقيادة دكتاتورية!

منذ سنوات.. غالبا ما يصادف المرء على أرصفة الشوارع في العالم العربي كتيبات لتعلم اللغة تحمل عنوانا موحدا: كيف تتعلم الإنجليزية (الألمانية، الروسية، الهندية إلخ..) في سبعة أيام دون معلم.

المشكلة أننا لم نصادف تلميذا واحدا بعد كل هذا الوقت يؤكد لنا بشكل صادق أنه تعلم لغة أجنبية واحدة وهو يقف على الرصيف.

ما أشبه الديمقراطية في العراق بكتيب تعلم اللغة الأجنبية: يقال لك، ستتعلمها مع مرور الوقت وفقط خلال سبعة أيام دون معلم، ثم تكتشف أن الرصيف يعلم لغة شوارع لا لغة علم!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.