الدور الفرنسي في منطقة الشرق الأوسط
من النكوص إلى الحضور
الانفتاح على دمشق
الدخول على خط التسوية
بين الرغبة والفشل
مبادرات الوقت الضائع
أظهرت الحركة النشطة التي قامت بها مؤخرا الدبلوماسية الفرنسية مدى اهتمام فرنسا بمنطقة الشرق الأوسط، حيث زار الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي المملكة العربية السعودية، واستقبلت باريس قبلها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وفي أعقاب زيارته سلمت الدبلوماسية الفرنسية الرئيس الفلسطيني محمود عباس "أفكارا" لتحريك عملية السلام، ثم زار العاصمة الفرنسية الرئيس السوري بشار الأسد.
وتشير كل هذه التحركات إلى تطلّع الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي للعب دور دولي نشط في عملية السلام المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي، وذلك بعد أن تراجع الدور الأميركي، الذي بدأ بزخم مع مجيء الإدارة الأميركية الجديدة.
ويبدو أن الدبلوماسية الفرنسية في وضع دولي يمكنها من الإسهام في تحريك العملية التفاوضية بين السلطة الفلسطينية والإسرائيليين وإعادة الاعتبار للمسار التفاوضي بين السوريين والإسرائيليين، خصوصا بعد إهمال المساعي الأميركية لهذا المسار، وفشلها في إعادة إحياء المفاوضات على المسار الفلسطيني الإسرائيلي بسبب تعنت وتشدد المواقف الإسرائيلية، وعدم رغبة حكومة اليمين المتشدد بالدخول في مفاوضات سلام شامل وعادل في المنطقة.
" يهدف "الاتحاد من أجل المتوسط" إلى البحث عن عمق إستراتيجي يتعدى البحر الأبيض المتوسط، ويعكس حاجة فرنسا والأوروبيين إلى منفذ طبيعي يوسع مجالهم الجغرافي والسياسي في ظروف عالمية تفرض توسيع التكتلات الاقتصادية والإقليمية " |
من النكوص إلى الحضور
دخلت منطقة الشرق الأوسط التفكير السياسي الفرنسي منذ أمد بعيد، حيث شهدت المنطقة دخولا فرنسيا قويا إبان مرحلة الاستعمار المباشر، وبعد استقلال دول المنطقة، بدأ النفوذ الفرنسي يتراجع شيئا فشيئا مقابل الدخول القوي للولايات المتحدة الأميركية، وباتت منطقة الشرق الأوسط محل تجاذب وصراع نفوذ بين القوتين العظيمتين إبان فترة الحرب الباردة التي أعلن انتهاءها انفراد الولايات المتحدة، كقوة عظمى وحيدة، بالهيمنة على المنطقة، وتتوج تدخلها السافر في شؤونها بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، وتكلل مع الغزو الأميركي للعراق واحتلاله.
وقد عارضت فرنسا بشدة الغزو الأميركي للعراق، لكن الدور الفرنسي اعتراه النكوص كثيرا في أواخر فترة حكم الرئيس السابق جاك شيراك.
ومع وصول ساركوزي إلى الرئاسة الفرنسية بدأ هذا الدور يعود تدريجيا، بعد أن أضحت السياسة الخارجية الفرنسية مهيأة لتحولات مهمة، تدفع نحو الابتعاد وبشكل جليّ وواضح عن المواقف الفرنسية التقليدية المعروفة، من خلال تبني سياسات ومواقف تقرّبها أكثر من السياسات الخارجية الأميركية.
وطرح ساركوزي مع وصوله إلى الرئاسة الفرنسية مشروع "الاتحاد من أجل المتوسط"، الذي أصبح مشروعا أوروبيا بعد أن تبناه الاتحاد الأوروبي لاحقا.
والأوروبيون جادون في مشاريعهم ومخططاتهم، حيث بيّنت التجارب أنهم يخططون بدقة، ثم ينفذون ما يتماشى مع ضمان مصالحهم الإستراتيجية، لذلك شيدوا السوق الأوروبية المشتركة وأسسوا للاتحاد الأوروبي، فألغوا الحدود والحواجز الجمركية، ووحدوا عملتهم، وانفتحوا على بلدان أوروبا الشرقية، فضمّوا بعضها إلى اتحادهم، وما زالوا يسيرون في طريق تعزيز مكانتهم وتقوية دورهم الدولي.
ويهدف "الاتحاد من أجل المتوسط" إلى البحث عن عمق إستراتيجي يتعدى البحر الأبيض المتوسط، ويعكس حاجة فرنسا والأوروبيين إلى منفذ طبيعي يوسع مجالهم الجغرافي والسياسي في ظروف عالمية تفرض إشادة وتوسيع التكتلات الاقتصادية والإقليمية.
" قاد ساركوزي تغييرا جذريا لسياسة العزلة ونهج القطيعة مع سوريا الذي ساد في عهد الرئيس السابق جاك شيراك، وكان المدخل من الباب الجيوسياسي، إذ كان ساركوزي يعلّق آمالا كبيرة على نجاح مشروعه المتوسطي " |
قاد الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي تغييرا جذريا لسياسة العزلة ونهج القطيعة مع سوريا الذي ساد في عهد الرئيس السابق جاك شيراك منذ عام 2004، حيث بدأت زيارات المبعوثين الفرنسيين تتواتر إلى العاصمة السورية بعد وصوله إلى الرئاسة، وكان المدخل من الباب الجيوسياسي، إذ كان ساركوزي يعلّق آمالا كبيرة على نجاح مشروعه المتوسطي، على خلفية اعتباره منطقة البحر الأبيض المتوسط منطقة أوروبية، ذات نفوذ فرنسي قبل كل شيء، وليست منطقة نفوذ أميركي.
وقد كان هذا المشروع يشكل هاجساً حقيقيا بالنسبة إليه، منذ خوضه حملة انتخابات الرئاسة الفرنسية. وبعد وصوله إلى السلطة، بدأت سياسته الخارجية ترتكز بشكل كبير في اتجاه تحقيق هذا المشروع.
لذلك اعتبر ساركوزي أن إسهام النظام السوري في حلّ الوضع في لبنان يحمل فرنسا على تطبيع العلاقات معه ويدخله في النادي المتوسطي، الذي سيسهم في إخراجه من عزلته السياسية في المنطقة والعالم، ويجعل سوريا تلحق بالدول المتوسطية، أي يفضي إلى إخراجها من "محور الشر" الذي ابتدعه الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش، بمعنى أنه سيبعد سوريا عن المحور الذي شكلته إيران معها، إلى جانب أن فرنسا تعتبر المشروع المتوسطي رابحا للجميع، وأن سوريا بحاجة إلى هذا المشروع المتوسطي، كونه يشكل -بالنسبة إليها- منعطفا إستراتيجيا.
لكن فرنسا ظلت تخفي الأوجه الأخرى للمشروع، وبخاصة الوجه الذي يحمل التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، وسارت في اتجاه سياسة الانفتاح على سوريا، وكان التغيّر سريعا حيالها إلى درجة أنه أثار في الواقع تساؤلات حول ما الذي تريده فرنسا منها.
الدخول على خط التسوية
حمل التحرك الدبلوماسي الفرنسي الجديد دعواتٍ علنية إلى الرئيس الفلسطيني محمود عباس للعدول عن قراره عدم الترشح للانتخابات الرئاسية الفلسطينية المزمع إجراؤها مطلع العام المقبل، وتحدث المسؤولون الفرنسيون عن "أفكار مهمة" للدفع بعملية السلام في الشرق الأوسط، وشاع حديث نفته الأوساط الإسرائيلية عن تحميل نتنياهو باريس رسالة إلى الرئيس بشار الأسد تتعلق باستئناف المفاوضات مع سوريا على أساس الانسحاب إلى حدود عام 1967.
لكن اللافت أن بروز الدور الفرنسي جاء بعد نكوص وتراجع الدور الأميركي، على الرغم من دخوله بقوة على خط التسوية في الشرق الأوسط، إذ اعتادت الدبلوماسية الفرنسية على الظهور إلى ميدان الوساطة في الوقت الضائع، أي حين ينكفئ دور الإدارة الأميركية أو تعتري رؤيتها الضبابية.
بين الرغبة والفشل
ترغب الأطراف العربية في أن يكون الدور الفرنسي في المنطقة فاعلا، وأن لا يشكل حلقة في سلسلة الفشل الذي لازم العملية السلمية منذ انطلاقتها، وأن يكون واضح المعالم، ويسهم في إعادة إحياء عملية السلام، ويفضي إلى قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، وإعادة الأراضي العربية المحتلة لأصحابها، وحل قضايا الوضع النهائي، بما فيها حقوق اللاجئين الفلسطينيين المشروعة.
" الدور الفرنسي في عملية السلام محكوم بالفشل، على الرغم من تطلع ساركوزي إلى دور يتوج بمؤتمر للسلام تحتضنه باريس، ويكتسب زخما دوليا وداخليا، وأسباب الفشل مرتبطة بالطرف الإسرائيلي " |
وقد عرض الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي على العاهل السعودي عبد الله بن عبد العزيز فكرته عن عقد قمة بين الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في باريس لدفع عملية السلام.
ولا شك أنه عرض فكرته أيضا على الإدارة الأميركية والرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف، ويطمح من خلالها إلى عقد "مؤتمر للسلام" بمشاركة أساسية للإدارة الأميركية ودول الرباعية وقيادات الدولتين الأساسيتين في الشرق الأوسط، السعودية ومصر.
ويبدو أن الرئيس الفرنسي على قناعة أن الإدارة الأميركية أخطأت حين حددت وقف الاستيطان الإسرائيلي كشرط لعودة التفاوض بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، ويرى أنه ينبغي وضع كل الملفات المختلف عليها على الطاولة والتفاوض عليها، بما فيها وقف الاستيطان والقدس والحدود والمياه وسواها. إلا أن هذه القناعة اصطدمت بالتصلب الطرف الإسرائيلي، الذي لا يريد أي دولة فلسطينية، ولا يريد كذلك تقديم أي تنازل من أجل السلام الغائب عن قاموسه.
ويعلم جيدا الطرف الإسرائيلي أن الرئيس الفرنسي هو الصديق الأكبر لإسرائيل، لذلك يأمل ساركوزي أن يكون لصوته صدى لدى ساستها، كونه يحاول لعب دور محرّك السلام في الشرق الأوسط بعد انحسار دور أوباما، كما يحاول أن يسوق مقولة مفادها أن إسرائيل تريد التفاوض وتريد السلام، لذلك أعلن نتنياهو عن استعداده للقاء الرئيس الأسد في أي وقت يريد وفي أي مكان يريد، ومن دون أية شروط مسبقة.
لكن ردّ الرئيس السوري كان واضحا وثابتا، وتلخّص في أن سوريا ليست لديها شروط، كونها صاحبة حقوق مشروعة ولن تتخلّى عن حقوقها، وأنها لا تتفاوض على الجولان.
وقد ترك الطرف السوري الباب مفتوحا للتفاوض عبر الوسيط التركي، ولم تتحقق رغبة ساركوزي في الحصول من نظيره السوري على دور أساسي في المسار التفاوضي الذي تعطل منذ الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة وتدهور العلاقة التركية الإسرائيلية، مع أن الطرف الإسرائيلي يفضل ساركوزي كوسيط على الوسيط التركي لاعتبارات عديدة. في حين أن الرئيس السوري أكد علنا أنه عازم على الإبقاء على الوسيط التركي، وأن على صديقه الجديد ساركوزي الضغط على إسرائيل أن تحسن علاقتها مع تركيا لتقبل بالوسيط التركي وتعاود المفاوضات.
إذاً، الدور الفرنسي في عملية السلام محكوم بالفشل، على الرغم من تطلع ساركوزي إلى دور يتوج بمؤتمر للسلام تحتضنه باريس ويكتسب زخما دوليا وداخليا، وأسباب الفشل مرتبطة بالطرف الإسرائيلي وبعدم ممارسة الإدارة الأميركية الضغط الكافي كي يغير نتنياهو نهجه تجاه الفلسطينيين ويسير فعلا نحو مسار تفاوضي سلمي.
" يبدو أن كل الأطراف المعنية بعملية السلام والمهتمة بإشغال الفراغ في الدور الأميركي، بانتظار اتضاح معالم التحرك الأميركي المقبل حيال ملف الصراع العربي الإسرائيلي " |
تقدم كل المعطيات التي صاحبت ما تسمى "العملية السلمية" أن المهم ليس إطلاق مؤتمر جديد لعملية السلام، لأنه سيفضي إلى عملية تفاوض طويلة وشاقة مع الطرف الإسرائيلي وسيصطدم بصلفه وتعنته ومراوغاته، والمطلوب هو أن تدرك كل القوى الدولية أن السلام الحقيقي لا يتحقق إلا بإنهاء الأسباب التي تفضي إلى انتفائه، وأهمها إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية المحتلة.
وعلى فرنسا الابتعاد عن لعبة تبادل الأدوار مع الولايات المتحدة الأميركية إن كانت فعلا تريد الدخول إلى حلبة إحياء مفاوضات السلام وتتطلع إلى لعب دور دولي في المنطقة، وتنسجم مع طموحاتها في مشروع الاتحاد من أجل المتوسط في جمع شطري البحر الأبيض. وما يبرر التخوف من دخولها اللعب في الوقت الضائع هو محاولاتها تسويق التغير في موقف الولايات المتحدة من قضية تجميد الاستيطان الهامة والحيوية لإحياء مفاوضات عملية السلام.
ولا شك أن الأشهر المقبلة تشكل فترة فراغ بالنسبة للدور الأميركي حيال عملية السلام، بعد الفشل الذريع لهذا الدور في إحياء التفاوض على المسار الفلسطيني الإسرائيلي، بسبب التصلب والتشدد الإسرائيليين، وحصر مفاوضات هذا المسار في قضية الاستيطان وليس الاحتلال بأكمله، وكذلك بسبب إهمال المسار التفاوضي السوري الإسرائيلي.
ويبدو أن كل الأطراف المعنية بعملية السلام مهتمة بإشغال هذا الفراغ في الدور الأميركي، بانتظار اتضاح معالم التحرك الأميركي المقبل حيال ملف الصراع العربي الإسرائيلي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.