القرار الفلسطيني بين الاستقلال والتبعية
قرار فلسطيني أم قرارات؟
أسباب ضعف القرار الفلسطيني وتشتته
هل هناك مخرج؟
وكما أن الشعب الفلسطيني يعاني داخل الوطن فهو يعاني خارجه بصورة لا يجد من يدافع عنه، ولم يكن هذا الأمر موجوداً من قبل بالصورة التي يعانيها الآن، فقد عانى آلاف الفلسطينيين على الحدود الليبية المصرية لسنوات، وما زال يعاني آلاف مثلهم على الحدود العراقية الأردنية دون أن يجد هؤلاء من يصحح وضعهم أو يقدم لهم النجدة.
وكذلك سكان بعض المخيمات الفلسطينية والمثال الشاهد على ذلك مخيم نهر البارد المدمر، كل ذلك بسبب تبعثر العمل الفلسطيني وتشتته، وفي أحيان كثيرة تصادمه وتضاده الداخلي، وأعتقد أن ذلك بسبب من غياب القرار الفلسطيني المستقل والموحد.
" أدت وفاة الرئيس ياسر عرفات إلى تبعثر حقيقي للقرار الفلسطيني، إذ بعد غياب الشخصية الكارزمية سعت بعض الشخصيات من الصف الثاني إلى التقدم لاحتلال الصف الأول مما خلق صراعاً داخلياً " |
كان المرحوم الرئيس ياسر عرفات قد تمسك بقوة باستقلالية القرار الفلسطيني، وما خروجه إلى المنفى في تونس واليمن بعيداً عن خطوط المواجهة إلا لمحاولته إبقاء القرار الفلسطيني مستقلاً، وخصوصاً من الهيمنة السورية، ولكن الظروف الإقليمية والدولية كانت تسير على غير ما يشتهي ويسعى، فقد كان تمسكه باستقلال القرار الفلسطيني إنجازا بحد ذاته ولكنه كمن ربح أرضاً بعد صراع طويل مع خصومه وفي صباح اليوم التالي اجتاح الأرض طوفان هادر.
ولكن الظروف التي أعقبت ذلك والدخول في مؤتمر مدريد وتوقيع اتفاقيات أوسلو، وما تبع ذلك من ظروف محلية وإقليمية ودولية أدت إلى النتائج التي نراها على أرض الواقع بالنسبة للحقوق الفلسطينية، فلم تثمر اتفاقيات أوسلو دولة، والتي تم التضحية بالمجلس الوطني الفلسطيني محل الإجماع الرئيسي الفلسطيني، ولم يتم إعلان أن السلطة الفلسطينية قد حلت محل المجلس الوطني الفلسطيني، وبقيت الأمور متداخلة، وأصابها الوهن من الفعل ورد الفعل، ومن مفاوضات استهلكت الجهود دون أن تحقق الحقوق، وتداخلت القضايا مع الأشخاص والظروف والمواقف مع الأطراف المحلية والإقليمية والدولية، كل ذلك أدى إلى تشتت العمل الفلسطيني، وعدم الوصول إلى مكتسبات حقيقية ومحددة يمكن الركون إليها والاعتماد عليها للبناء من أجل الاستمرار إلى مستقبل أفضل.
لقد أدت وفاة الرئيس ياسر عرفات إلى تبعثر حقيقي للقرار الفلسطيني، فهشاشة النظام السياسي داخل السلطة بسبب من تركيبته وبسبب من ظهور العديد من الشخصيات المتوازية في القوة في إطار تنظيم فتح المتصدر في السلطة، بعد غياب الشخصية الكارزمية المسيطرة التي تستطيع ضبط مختلف الانحرافات الكبرى المؤثرة في السلطة أو في تنظيم فتح، خلق هذا بدوره سعي بعض الشخصيات من الصف الثاني إلى التقدم لاحتلال الصف الأول مما خلق صراعاً داخلياً انعكس بصورة سلبية على تحقيق أي انجاز على الأرض.
ولذلك نشأ نوع من المباراة بين أركان السلطة في تقديم الأفكار والمبادرات لبيان أن الشخص المتصدر هو شخصية نافذة يمكن الركون إليها والتعامل معها، ونتج عن ذلك أن بعض المتنفذين كانوا في بعض الأحيان يرفضون قرارات رئاسية يرونها في غير مصلحتهم في حين أنهم احتلوا مناصبهم بالقرارات ذاتها، مما أوهن القرار داخلياً، وأسقطه خارجياً.
أسباب ضعف القرار الفلسطيني وتشتته
يعاني القرار الفلسطيني بعد اتفاقيات أوسلو وفي وضعه الراهن من محاولة يائسة للتوفيق بين عدد كبير من المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية ليستطيع أن ينجز شيئاً أو على الأقل ليبقى صامداً أكثر أمام هذه التحديات التي تعصف به، ومن أبرز عوامل ضعف القرار الفلسطيني وتشتته العوامل التالية، وهي عوامل متداخلة ومتشابكة ومزمنة:
1- العوامل الداخلية
ويقصد بالعوامل الداخلية ما يتعلق بالفلسطينيين وحدهم وعلاقاتهم الداخلية، وأهدافهم، ومؤسساتهم، وكيفية إدارتها، فقد أدى هيمنة تنظيم فتح على السلطة لمدة تزيد على عقد دون أن تحقق شيئاً، بل وأسست نمطاً من الديكتاتورية في ظل الاحتلال أدى إلى خلق انقسام شديد بين التنظيمات الفلسطينية مع التنظيم الحاكم، وقد تم استثمار ذلك التناقض في الانتخابات التي جرت وأدت إلى فوز حركة حماس، النقيض الأيديولوجي والسياسي لفتح، مما أدى في النهاية إلى تضارب المشروعين بين حركة تحكم من خلال حكومة تسيطر على المناصب العليا حسب شرعية شعبية وبين حركة معارضة للحكومة ولكنها تحكم بالفعل من خلال سيطرتها على الأجهزة الفعلية في السلطة يؤيدها رئيس يتبنى منظورها، فوقع الازدواج وبدأ الانقسام الحقيقي للقرار الفلسطيني.
" انقسم القرار الفلسطيني في الداخل إلى قرارين، بعد أن تم تغييب الإجماع في القرار كما في موضوع المجلس الوطني الفلسطيني، وما زال يعاني الانقسام والتشرذم مما أدى إلى مزيد من الشلل والتراجع في الواقع الفلسطيني " |
فما يريده رئيس السلطة، يتعارض مع ما يريده رئيس الحكومة، فأصاب الشلل القرار الفلسطيني، وتوسعت الأزمة مما أدى إلى المواجهة المسلحة لحسم هذه الازدواجية بالقوة، فانقسم القرار الفلسطيني في الداخل إلى قرارين، بعد أن تم تغييب الإجماع في القرار كما في موضوع المجلس الوطني الفلسطيني، وما زال يعاني الانقسام والتشرذم مما أدى إلى مزيد من الشلل والتراجع في الواقع الفلسطيني.
ومما زاد من تشتت القرار الفلسطيني أيضاً وجود عدد من المؤسسات الفلسطينية التي تدعي أنها صاحبة القرار، فهناك المجلس التشريعي الفلسطيني وهناك مجلسان للوزراء، وهناك رئاسة فلسطينية وهناك في المقابل ما يسمى بالداخل والخارج، وهو ما نراه اليوم حاداً في موضوع المجلس المركزي لحركة فتح على سبيل المثال، وتسود روح الشك وغياب الثقة بين هذه المؤسسات، مما أدى إلى تعدد القرار وبالتالي اتصافه بعدم المصداقية.
2- العوامل المحلية
إن أسوأ شيء وقع فيما يتعلق بالقرار الفلسطيني هو وجود السلطة الفلسطينية تحت الاحتلال ولا قوة لديها ولا ضامن لها، ولا سند يعززها أمام التغول الإسرائيلي الذي تصرف حسب مصالحه ورغباته في الزمان والمكان الذي يريده، فقد تنصلت إسرائيل من كل القرارات والاتفاقيات التي وقعتها مع الجانب الفلسطيني، فما انتفاضة الأقصى وما نتح عنها من شهداء، وما محاصرة الرئيس عرفات وموته، وما إعادة احتلال مدن الضفة وقراها وما تمارسه إسرائيل فيها يومياً إلا أمثلة بسيطة أدت إلى إطلاق النار على القرار الفلسطيني الذي أصبح محاصراً لا يستطيع أن يفعل شيئاً، أمام القوة الإسرائيلية، فهي تفعل ما تشاء وتمنع الجانب الفلسطيني أن يفعل شيئاً، مما أدى إلى فقدان الثقة بالقرار الفلسطيني، وإلى وقوع الجانب الفلسطيني في مصيدة رد الفعل وليس الفعل.
ومما عزز هذا الجانب عدم احترام الشرعية الفلسطينية من قبل عدد من القادة الفلسطينيين الذين كانوا ومازالوا يتصرفون حسب هواهم في التعامل مع الموضوع الفلسطيني، فقد تبين أن هناك عدداً من هؤلاء يسعون إلى السلطة بغض النظر عن النتائج، ولذا ارتبط هؤلاء بإسرائيل وجعلوا من المشروع الفلسطيني مطية لهواهم، وتبين ذلك من عدم احترامهم الشديد للشرعية الفلسطينية وعدم إعارتهم أي اهتمام لمصالح الشعب الفلسطيني، مما عمق الشرخ في القرار الفلسطيني المعبر عن الحدود الدنيا من مصالح هذا الشعب.
ويعزز هذا الاتجاه وجود قوة داخلية تؤثر في القرار الفلسطيني إلى غير مصلحة الشعب الفلسطيني والمتمثلة أساساً في قوة دايتون التي تهيمن على القطاع الأمني، العصب الرئيسي للسلطة، وتوجهه إلى حيث يخدم الجانب الإسرائيلي، بل ويتصرف باعتباره قوة مستقلة بذاتها، وهذا التجاوز الخطير أهان هيبة القرار الفلسطيني داخلياً على أقل تقدير.
3- العوامل الإقليمية
" العديد من الأطراف الفلسطينية بسبب الواقع، ارتبطت بأطراف عربية وإقليمية تراها تساهم في تحقيق رؤيتها ومساندتها في تحقيق مشروعها الذي ليس بالضرورة المشروع الوطني الفلسطيني " |
أدت ولادة السلطة الفلسطينية بوضعها المحاصر، ألا يكون لها مخرج مستقل ترتبط به مع العالم، وأن تكون المخارج برية فقط وعن طريق الدول المجاورة والتي لها مصالحها وارتباطاتها الخاصة، التي انعكست على القرار الفلسطيني، فكل طرف يحاول أن يحقق مصالحه من خلال إملاء شروطه التي يراها مناسبة، وهذه لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال مصادرة القرار الفلسطيني بكل بساطة، وإلا فالتجويع والإغلاق الدائم لمليون ونصف المليون في غزة خير مثال على ذلك، فالجانب المصري تقريباً قد صادر القرار الفلسطيني إلا ما يحقق رؤيته وإملاءاته.
ومما عزز من سوء ما يجري أن العديد من الأطراف الفلسطينية بسبب الواقع، قد ارتبطت بأطراف عربية وإقليمية تراها تساهم في تحقيق رؤيتها ومساندتها في تحقيق مشروعها الذي ليس بالضرورة المشروع الوطني الفلسطيني، سواء عن طريق السلام أو عن طريق المساندة العسكرية الموهومة، مما عزز الارتهان والتشتت والتضاد في القرار الفلسطيني.
4- العوامل الدولية
إن أقوى ارتهان حقيقي يصادر القرار الفلسطيني ويجعله مشلولاً بصورة قوية هو المساعدات المالية التي يقدمها المانحون الدوليون للسلطة الفلسطينية، التي لا تستطيع أن تفعل شيئاً إذا ما توقفت المساعدات الدولية، التي لا يمكن تقديمها إلا بعد ابتزاز كبير للقرار الفلسطيني وخضوعه للإملاءات الخارجية التي تخدم في النهاية المصلحة الإسرائيلية، وما نراه من تأخير لرواتب أكثر من مائة وستين ألف موظف في السلطة، وما يخلقه ذلك من تأثير نفسي واجتماعي على قطاع كبير من الفلسطينيين لهو دليل على منهجية واضحة لمصادرة القرار الفلسطيني ليصبح خاضعاً لمتخذين غير أصحابه الشرعيين، وهذا ما نراه في بعض الأحيان من مواقف وقرارات غرائبية ليس لها علاقة بمصلحة الشعب الفلسطيني.
" إذا لم يع الفلسطينيون بكل طوائفهم السياسية والفكرية والاجتماعية واقعهم ويسرعوا إلى تصويبه، فإن الواقع المؤلم الذي يسيرون إليه سيذكرهم من خلال نتائجه السيئة، فيندمون، وحينذاك لات ساعة مندم " |
هل هناك مخرج؟
إن تشتت القرار الفلسطيني يعود في المقام الأول إلى تعدد المرجعيات وكثرة الزعامات، وإلى الظروف المحلية والداخلية والإقليمية والدولية التي ذكرناها أعلاه، ولا أحد ينكر ما لها من تأثير سيئ على مصادرة هذا القرار أو على الأقل تشتيته، وهو يعاني أزمة حقيقية، انعكست بصورة سلبية على الواقع الفلسطيني، ولذا فإن على الفلسطينيين العودة من جديد إلى الاحتكام إلى نقطة مركزية وهي مصلحة الشعب الفلسطيني من خلال العودة إلى الشعب الفلسطيني ذاته، وأن يكون المجلس الوطني الفلسطيني هو المرجعية الكبرى، لأنه يضم ممثلي الفلسطينيين في الداخل والشتات.
إن استبعاد فلسطينيي الشتات بعد أوسلو قد أدى إلى ضعف كبير للقضية الفلسطينية، وهذا يستدعي احترام الشرعية، وعدم التصرف فردياً أو فئوياً بعقلية العصابة. لقد أصبح الواقع الفلسطيني على مفترق طرق، يعد الأخطر منذ وقوع النكبة، وإذا لم يع الفلسطينيون بكل طوائفهم السياسية والفكرية والاجتماعية واقعهم ويسرعوا إلى تصويبه، فإن الواقع المؤلم الذي يسيرون إليه سيذكرهم من خلال نتائجه السيئة، فيندمون، وحينذاك لات ساعة مندم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.