الآباء والأبناء والصراع على مستقبل إيران

الآباء والأبناء والصراع على روح إيران



يبدو مع انجلاء الغبار عن شوارع إيران المنهكة أن رجال السلطة كسبوا الجولة الأولى ضد منافسيهم الإصلاحيين, إلا أنهم خسروا الكثير من مشروعيتهم السياسية والأخلاقية في عيون شعبهم.

"
ما يحدث في إيران صراع بين الآباء والأبناء، وهو صدام ثقافي بين جيلين ونوعين مختلفين من الوعي والإدراك ونظرتين مختلفين للعالم بل وتصورين مختلفين لإيران
"

وفي المقابل, يبدو أن الحركة الإصلاحية لم تهزم بل اكتسبت مزيدا من الزخم، والثقة في النفس والجرأة، ومزيدا من المناصرين كذلك.

ومرة أخرى لقد فاجأ الإيرانيون العالم وأظهروا أنهم مجتمع وشعب يتمتع بحيوية وديناميكية كبيرة, وعلى عكس الصورة النمطية الموجودة في الغرب عن المجتمع الإيراني, فإن الإيرانيين أظهروا أنهم ليسوا قطيعا يقاد, بل هم شعب يتوق إلى الحرية ويحلم بغد أفضل.

ولا شك أنهم, بشتى مشاربهم, تمكنوا من التغلب على هاجس الخوف وقرروا التخلي عن اللامبالاة السياسية, فنزلوا إلى الشوارع مصرين على إسماع صوتهم ومؤكدين على أهميته.

وللمرة الأولى منذ اندلاع الثورة في عام 1979, ها هو جزء كبير من المجتمع الإيراني, بشتى أطيافه ونحله, يتحدى سيطرة المحافظين, ويطالب بتمكينه من إدارة شؤونه الخاصة بنفسه.

وما تشهده إيران اليوم, هو تنام وليس نهاية ولا تراجعا لحركة إصلاحية برهنت على أنها حركة اجتماعية تمتلك مقومات البقاء, وتعمل على تنفيذ أجندة أكثر ديمقراطية يجد فيها ملايين الناس, بغض النظر عن خلفياتهم الاجتماعية والاقتصادية, ضالتهم المنشودة.

وأيا كانت النتائج التي سيتمخض عنها الجدل الانتخابي الحالي, فإن الحركة الإصلاحية قد نجحت بالفعل في إثبات ذاتها وتعرية رجال السلطة الذين لا يحترمون إرادة الشعب. ولم يعد خطاب النظام الثوري مسيطرا أو مهيمنا على الساحة الإيرانية, بل أصبح مثارا للجدل على نطاق واسع في أوساط الرأي العام الإيراني.

لقد مل العديد من الإيرانيين, بعد ثلاثين عاما من اندلاع الثورة, التعبئة الأيديولوجية, بل أصبحوا منذ أمد بعيد يتوقون إلى العودة للحياة الطبيعية وتنشق الهواء الطلق, فالأزمة الاقتصادية الخانقة (معدل البطالة ما بين 20 و30% -حسب أرقام غير رسمية-  والتضخم أصبح حوالي أكثر من 10% والفساد المالي غدا آفة مزمنة) دفعت الشبان الإيرانيين وخاصة الطبقة الوسطى إلى شفا جرف التمرد على شِيبهم  وآبائهم.

ما يحدث في إيران صراع بين الآباء والأبناء، وهو صدام ثقافي بين جيلين, ونوعين مختلفين من الوعي والإدراك ونظرتين مختلفين للعالم, بل وتصورين مختلفين لإيران, أحدهما يملك الثقة الكاملة بوطنه وأمته يريدها بلدا في سلام مع نفسه ومع العالم, يريدها مجتمعا منفتحا يحترم الحريات الفردية والاجتماعية لأفراده, بينما يدفعها أصحاب التصور الآخر إلى شبه صراع  لا يتوقف مع أعداء الداخل والخارج, وإلى انتهاج شكل من أشكال القمع الشعوبي يملي على الإيرانيين المثل الأخلاقية ويسن قوانين تحدد أطر وطبيعة العدالة الاجتماعية.

فعلى مرأى ومسمع من العالم, شهدت الشوارع الإيرانية في الأسابيع القليلة الماضية صراع أجيال وثقافات ورؤى أيديولوجية متضاربة.

فالجدل الانتخابي الذي تشهده إيران حاليا لم يكن سوى الشرارة التي أججت نارا كانت منذ أكثر من عقد من الزمن تحت الرماد, ورغم أن جماهير المحتجين المعارضين شملت قطاعات عريضة من أطياف المجتمع الإيراني المختلفة, فإن الهيمنة كانت للأبناء والبنات.

ولا شك أن تلك الوجوه الشابة تعكس الهيمنة الديمغرافية لهذه الفئة العمرية في التركيبة السكانية, إذ تشير الإحصاءات إلى أن 70% من سكان إيران البالغ عددهم 72 مليونا هم تحت سن الثلاثين.

وعلى الرغم من الانتكاسة التي منيت بها الحركة الإصلاحية في الأسابيع الماضية, فالمرجح أن يلعب هذا الجيل الشاب دورا محوريا في تقرير مصير إيران في المستقبل.

لقد أثبت هذا الجيل الشاب، وخاصة الطبقة الوسطى، أن المجتمع الإيراني أكثر تعقيدا وتركيبا من النظرة النمطية المعروفة عنه في العالم.

"
بدلا من الاستماع إلى تطلعات ومخاوف الشبان الإيرانيين ومحاولة إشراكهم, قرر رجال السلطة المحافظين سحق الاحتجاجات الشعبية وتكميم أفواه المعارضين
"

"نريد الحرية" و"ليسقط للديكتاتور" هتف بها المحتجون على نتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية الأخيرة بصوت واحد, متحدين بذلك التحذيرات الصارمة لمرشد الثورة في إيران علي خامنئي الذي أصدر أمرا بوقف الاحتجاجات, وقد فسر خامنئي دوافع الشباب الإيراني لهذا الاحتجاج بالقول "الشباب في حيرة من أمرهم, إذ أدى ابتعادهم عن الروحانية إلى تفشي الارتباك والالتباس بينهم فلم يعودوا يعرفون ما يفعلون".

ولكن عشرات آلاف المعارضين الذين وضعوا أرواحهم على أكفهم عندما تصدروا المحتجين لم يكونوا مشاغبين اختلط عليهم الأمر ولا دمى يحركها الغرب, بل كانوا مواطنين غيورين على مصالح بلدهم, وداعمين بحق للإصلاحات الديمقراطية التي تجدد وتسرع جريان الدماء في خلايا المجتمع الإيراني، لا محاولين الانقلاب على النظام الإسلامي وتغييره.

وبدلا من الاستماع إلى تطلعات ومخاوف الشبان الإيرانيين ومحاولة إشراكهم, قرر رجال السلطة المحافظين سحق الاحتجاجات الشعبية وتكميم أفواه المعارضين, كما تجاهلوا دعوة شعبية واسعة النطاق شارك فيها العديد من رجال الدين والساسة الوطنيين لإجراء تحقيق شفاف في مزاعم التزوير المنظم لنتائج تلك الانتخابات.

لقد أعلنت أعلى هيئة انتخابية بإيران أنها لم تكتشف "تزويرا ذا شأن" وأنها لن تلغي نتائج الانتخابات التي أجريت في 12 يونيو/ حزيران. كما أعلن مجلس صيانة الدستور على لسان المتحدث باسمه عباس علي كدخداعي أنه "لم يعثر على أي خرق أو تزوير كبير في الانتخابات", مضيفا أنه "نظرا لذلك, لا مجال لإلغاء نتائج هذه الانتخابات".

ومع ذلك فإن مجلس صيانة الدستور نفسه, كان قد أعلن قبل ذلك بيوم واحد -فيما اعتبر اعترافا نادرا- أن مخالفات في التصويت قد حصلت في خمسين محافظة، بما في ذلك فرز لأصوات صناديق تجاوز عدد الأصوات المعبر عنها فيها عدد الناخبين المسجلين. ورغم ذلك كله، فإن المجلس أكد أن الخروق لم تكن متسعة لحد التأثير على نتيجة الانتخابات.

ولم يكن إعلان مجلس صيانة الدستور هذا مفاجئا في ضوء ما ذكره المرشد الأعلى, فقد تحدث خامنئي لمدة ساعة ونصف الساعة في خطبة صلاة الجمعة أمام عشرات الآلاف من الأشخاص في جامعة طهران, من ضمنهم الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد, فرفض مطلقا اتهامات المعارضة، وأشاد بالفوز الكاسح المعلن عنه للرئيس الحالي أحمدي نجاد واصفا هذا الفوز بأنه "لحظة ملحمية تحولت إلى لحظة تاريخية".

وبدعمه القوي للرئيس المتشدد، علما أنه القائد الأعلى للقوات المسلحة يكون خامنئي قرر التنازل عن دوره كحكم يسمو فوق الخلافات السياسية, ويكون قد أغلق الباب أمام إمكانية التوصل إلى تسوية، واحتاط لذلك بقوله "كيف يمكن استبدال أو تغيير 11 مليون صوت؟ إن الجمهورية الإسلامية لن تغش أو تخون أصوات الشعب".

كما حذر خامنئي زعماء المعارضة من القيام بأية تظاهرات احتجاجية جديدة، وقال إنهم بذلك سيتحملون "مسؤولية الفوضى وسفك الدماء" وهو ما اعتبر تهديدا مبطنا مفاده أن الجمهورية الإسلامية ستتصدى بقبضة من حديد لمن يخالف أمر المرشد.

وقد أقام المسؤولون بالفعل, محاكم خاصة لمحاكمة المتظاهرين، واعتقل العديد من القيادات الإصلاحية، وبدا سيل الاعترافات عن مؤامرة تحاك ضد إيران في الغرب.

"
قمع المعارضة على نطاق واسع سوف يزيد من تفاقم أزمة شرعية النظام الإسلامي القائم ويضعفه محليا ودوليا
"

ولا شك أن رجال السلطة المحافظين وهم من يحكمون البلد ويسيطرون على الأجهزة الأمنية بشكل كبير, تمكنوا من استعادة النظام واعتماد ولاية جديدة لأحمدي نجاد للسنوات الأربع القادمة, وهو ما يمكن اعتباره قياسا مضللا للنجاح.

صحيح أن القيادة الإيرانية انتصرت في المعركة الحالية، ولكن يبدو أنها خسرت الحرب من أجل قلوب وعقول مواطنيها، وخاصة الطبقة الوسطى والشبابية.

ومن المؤكد أن الأزمة الانتخابية الحالية لم تكشف الفجوة العميقة بين كبار رجال الدين الإيرانيين فحسب, وإنما سلطت الضوء كذلك على فجوة أعمق وأوسع تعكس صراع أجيال ثقافيا ينخر جسم المجتمع الإيراني.

فالحركة الإصلاحية موجودة لتبقى, وإن كان التكهن بشكل المعارضة الذي ستنتهجه، لم يتضح بعد؟ ورغم بقاء النظام الإسلامي خارج دائرة الخطر, فإن قوة تأثيره وهيبته ومشروعيته على المدى البعيد قد وضعت على المحك.

غير أن هناك نقطة يجب أن تكون واضحة، الحركة الإصلاحية تمثل ظاهرة اجتماعية أكبر وأعظم وأشمل من الحملة الانتخابية لمرشح المعارضة موسوي، ويشاطره فيها الرأي عدد من رجال الدين المحافظين المعتدلين كالرئيس السابق محمد خاتمي، وعلي أكبر هاشمي رفسنجاني ومنتظري وغيرهم.

فموسوي الذي يعتبر ابنا بارا  للثورة الإسلامية أصبح اليوم رمزا لملايين الشبان الإيرانيين، لكن آمالهم وأجنداتهم تتجاوز آمال وأجندات موسوي نفسه, إذ يطمحون لحياة أفضل وحريات أوسع، يرجح أن لا تتلاشى بعد رحيله.

ولا شك أن قمع المعارضة على نطاق واسع سوف يزيد من تفاقم أزمة شرعية النظام الإسلامي القائم، ويضعفه محليا ودوليا.

لقد انقلب ميزان القوى الاجتماعية على الخطاب الثوري، والسؤال المهم هو ما طول المدة التي تفصلنا عن المواجهة القادمة بين التيار الإصلاحي والتيار المهيمن على السلطة الذي يرفض الإصلاح جملة وتفصيلا؟ وهل سيبرز قائد جديد من داخل النخبة الحاكمة يستطيع استمالة الحركة الإصلاحية، وإضفاء الطابع المؤسسي عليها، أم هل ستتشقق هذه الحركة وتتبدد طاقتها وقوتها في التناحر والاقتتال الفصائلي؟

وعلى كل حال, فالمؤكد أن إيران لن تعود أبدا كما كانت في السابق، فمن جهة لن يستطيع النظام الثوري في إيران بعد الآن استخدام سلاح (المقدس) ضد خصومه السياسيين في الداخل وأعدائه في الخارج.

يبدو أن (المقدس) كان من أهم الضحايا في الأزمة الانتخابية في إيران، ومن جهة أخرى أثبت الإيرانيون بأصواتهم الحية الأكاذيب التي يرددها أعداء إيران في الخارج على أنها تشكل خطرا على السلام العالمي.