نفط العراق إلى أين؟

نفط العراق إلى أين؟



يكثر الحديث عن الأوضاع البائسة التي وصلت إليها صناعة النفط العراقية وقيام مجلس النواب باستدعاء الوزراء الذين تعاقبوا على الوزارة منذ الاحتلال لاستجوابهم عن الحالة وعن الادعاء بخصوص الفساد في أجهزة الوزارة.

"
من المرجح أن لا تؤدي التغييرات الإدارية والخطط المعجلة إلى حل سريع ما دام الانقسام وعدم استقرار الأوضاع العامة الناجمة عن الاحتلال قائمة، خاصة أن إدارة القطاع منذ الاحتلال أسيرة التوازنات السياسية بين كتل متصارعة لا تجمعها مصلحة سوى مكاسبها الضيقة
"

ويشدد الإعلام بصورة خاصة على استجواب الوزير الحالي، حسين الشهرستاني لقضائه أطول فترة مقارنة بمن سبقه، خاصة أن من سبقه وبمعية نائب رئيس الوزراء قد كتبوا من التقارير ما أدى إلى هذا الاستدعاء.

وقد انقسم الناس بين مؤيد ومعارض للوزير وتبودلت الرسائل والمقترحات حول كيفية طرح وجهة النظر هذه أو تلك. والمؤسف أن البعض قد ركز على هذا الشخص أو ذاك أو على هذا الحزب أو غيره دون أي ذكر للاحتلال والمأساة التي جلبها لشعب العراق وصناعته النفطية.

مرت ست سنوات منذ الاحتلال وصناعة النفط لم تتعاف حتى إلى مستوى ما قبل الغزو، و بدأ التدهور بعد الاحتلال مباشرة رغم المليارات التي ضخت، وكانت نتائجها ضعيفة لا تقارن حتى مع سنوات الحصار وضآلة الإمكانيات آنذاك.

بلغ إنتاج النفط في 2008، 2.4 مليون برميل يوميا (مب/ي) بالمقارنة مع 2.6 مب/ي في 2001. وعلى الرغم من أن هذا يمثل تحسنا عن السنوات السابقة، إلا أن هناك علامات تدهور في إنتاج نفط الجنوب الذي تراجع بأكثر من مائتي ألف برميل في اليوم ليصل إلى 1.73 مب/ي في نيسان 2009.

أما شركة نفط الشمال فقد ازداد إنتاجها إلى ستمائة ألف برميل يوميا وهو ثلثا إنتاجها قبل الاحتلال، وتعاني حقولها من المشاكل وعدم إحراز تقدم في إضافة قدرات جديدة من (قبة خورمالة) حيث يمنع مهندسو الوزارة من إكمال عمليات البناء من قبل الأكراد انتهاكا وتمديدا لصلاحياتهم خارج مناطقهم دون موقف حازم من الحكومة لفرض سلطتها على أراضيها ومواردها، وكما يحدث في جميع العقود التي وقعها الأكراد رغما عن الوزارة وحكومة بغداد.

ومن المرجح أن لا تؤدي التغييرات الإدارية والخطط المعجلة إلى حل سريع طالما أن الانقسام وعدم استقرار الأوضاع العامة الناجمة عن الاحتلال قائمة، خاصة أن إدارة القطاع منذ الاحتلال عديمة القدرة على طرح الأسبقيات ومعالجة الاختناقات بشجاعة ومسؤولية، لكونها أسيرة التوازنات السياسية بين كتل متصارعة لا تجمعها مصلحة سوى مكاسبها الضيقة.

ولحد الآن لا توجد سياسة تحظى بدعم واسع للتوجه نحو المستقبل. ففي البداية ترك كل شيء للأميركيين على أساس أنهم المدمر والمنقذ، وعملوا بمعزل عن العراقيين في الأغلب وكلنا يعلم مدى السرقات والتبذير اللذين قامت بهما الشركات الأميركية كمقدمة لنشر الفساد واستشرائه في عموم العراق.

وإن بعض المشاريع التي باشرت بها منذ الاحتلال ما زال غير منجز، مثل مشروع حقن الماء في الجنوب وكل الأعمال كانت بكلفة عالية بغض النظر عن من دفع.

ثم جاء إياد علاوي في 2004 ليعلن تخصيص مبلغ من الصادرات لتمويل العمليات والإسراع بالتصليح والتحديث وإعطاء شركة النفط الوطنية إدارة وتشغيل الحقول المنتجة فقط، وإحالة الحقول المكتشفة إلى الشركات الأجنبية، بدون النظر إلى الاختلافات بين الحقول وإلى أن قاعدة عامة واحدة لا يمكن أن تؤدي الغرض.

وطرح أسلوب المشاركة بالإنتاج كأفضلية مسبقة، مثيرا بذلك زوبعة لم تهدأ إلى اليوم، وأن كل ذلك سيؤدي إلى طاقة إنتاج 8 مب/ي في 2010.

ولم يتم تحقيق أي من ذلك، وتمسك من جاء بعده بتمشية الأمور متعللين بعدم وجود قانون للنفط وعدم إقرار دستور دائم وغير ذلك من الأمور التي على أهميتها كان بالإمكان الاستمرار بالعمل بدونها آنيا بتشريع مستقل لأي مشروع، خاصة أن القوانين القائمة كفيلة بذلك لو كانت هناك الإرادة اللازمة لتطويعها.

جاء الوزير الحالي ليخرج على الملأ بأفكار جديدة لم يكن أي منها لينضج حتى يكون قد غير رأيه، وتذهب الجهود التي بذلت هباء كما حدث لمشاريع اتفاقات المساعدة الفنية التي تم التفاوض بشأنها مع الشركات النفطية الأجنبية المتمرسة بعد مدة طويلة من العمل على أساس أنها مناسبة وفعالة لكونها محدودة الهدف والمخاطر، والمبالغ اللازمة من ضمن إمكانيات الوزارة وأن مشاركة العراقيين فيها عالية وستكون لهم مدرسة مهمة للتدريب.

وبدلا من المضي في ذلك عرض الوزير الحقول العملاقة المنتجة التي يديرها العراقيون منذ التأميم وحتى قبله لتسليمها للشركات الأجنبية لتطويرها بواسطة عقود خدمة طويلة الأمد وبدون أدنى مبرر.

ثم أعلن جولة تراخيص جديدة لعدد كبير من الحقول المكتشفة وبطريقة غير مسبوقة في أي من الدول النفطية، وكل اتفاق يصل إليه يعتبر من صلاحية الحكومة دون مصادقة مجلس النواب.

وفي هذه الأجواء التي لا تبعث على ثقة العراقيين ولا المستثمرين فإن النتيجة ستكون مزيدا من عدم الإنجاز وسيبقى تدهور الحقول العراقية ماثلا للعيان.

ولا يختلف الوضع كثيرا في قطاع المصافي ومعالجة الغاز حيث تعمل هذه المنشآت بما لا يزيد عن 65% من طاقتها في وقت تستورد فيه البلاد المنتجات النفطية على مدى السنوات الست الماضية.

"
إرضاء الإدارات المحلية لبعض المناطق يطغى على التخطيط السليم للمشاريع حيث تشتد الحاجة إلى مشاريع تكرير كبيرة لا يجري العمل فيها إلا ببطء شديد
"

وعلى الرغم من وجود تحسن في 2008 فإن إنتاج المنتجات الخفيفة (الغاز السائل والغازولين والمقطرات الوسطية) لم يتجاوز 225 ألف برميل يوميا وهو أقل بنسبة 25% من المستوى المتوسط في عامي 2001 و2002.

وقد هان الوضع بسبب الانخفاض الكبير في الطلب على المنتجات بنسبة 18% منذ 2005 بسبب الوضع الاقتصادي المتردي والبطالة وعدد العراقيين الذين أجبروا على اللجوء إلى البلدان المجاورة أو النزوح في الداخل.

ويتباهى البعض بهبوط معدلات الاستيراد دون أن يشير إلى تدهور الطلب على المنتجات وتدني إنتاج المصافي.

نعم لقد انخفض الاستيراد بنحو 60% في 2008 مقارنة بعام 2005 وهذه نتيجة إيجابية لو كانت بسبب التحسن في الإنتاج والحد من التهريب وليس بسبب تزايد عدد العراقيين العاطلين عن العمل الذين غادروا البلاد أو النازحين في الداخل.

ويكثر الحديث عن مشاريع تكرير منذ الاحتلال ولكن الإنجاز حتى الآن ضئيل، وبعض المشاريع المطروحة مشكوك في جدواها أو الحاجة إليها، وخاصة مصفاتي العمارة وكركوك بطاقة 150 ألف برميل باليوم لكل منها.

فميسان لا تستهلك أكثر من عشرين ألف برميل يوميا وكركوك تتم تغذيتها بخطوط أنابيب المنتجات وفيها مصفاة بطاقة ثلاثين ألف برميل باليوم.

وستخلق الطاقات الجديدة لو تحققت عبئا للتخلص من الفوائض في وقت يتم التغاضي فيه عن العمل بسرعة وجدية لتطوير المصافي عموديا للتخلص من زيت الوقود وزيادة المنتجات الخفيفة وتقليل الحاجة إلى مزيد من النفط الخام.

فالزيادة في طاقة التكرير لم تتحقق إلا عن طريق بناء وحدات تصفية صغيرة في مواقع تحتاج إلى طاقات خزن أو إلى ارتباط بشبكة الأنابيب، وليس إلى مصاف صغيرة بمواصفات منتجات متدنية ستصبح عالة على صناعة التكرير مستقبلا حتى لو قامت بتلبية بعض الاحتياجات الآنية.

ولكن يبدو أن إرضاء الإدارات المحلية لبعض المناطق يطغى على التخطيط السليم للمشاريع حيث تشتد الحاجة إلى مشاريع تكرير كبيرة لا يجري العمل فيها إلا ببطء شديد.

فقد تم تحويل موقع مصفاة الوسط أكثر من مرة لأسباب لا يبدو أن فيها أي معقولية، وخاصة بعد الملايين التي صرفتها الوزارة منذ نهاية الثمانينات على ذلك الموقع الذي كان مخططا له كي يكون بديلا لمصفاة الدورة الذي يجري توسيعه لمجرد قدرة العاملين فيه، وبعيدا عن أي تصور مستقبلي بإضافة طاقات تكرير كبيرة كبديل للوحدات القديمة وتوسيعا للطاقة دون النظر لمواصفات المنتجات ودون النظر لعمر البنى الأساسية للمصفى وموقعه وسط مدينة سكانها أكثر من خمسة ملايين نسمة.

وبات الحفاظ على أعلى معدلات الاستخدام في المصافي بعيد المنال، إما بسبب تزايد المشاكل الفنية أو لفقدان المهندسين والمشغلين ذوي الخبرة وأحيانا حتى لعدم إمكانية إيصال النفط بالكميات المطلوبة كما في الدورة، أو لعدم التمكن من التخلص من فائض زيت الوقود كما في الدورة أحيانا وفي بيجي خصوصا.

أما وحدات إزالة الكبريت من زيت الغاز فقد بقيت دون إصلاح في البصرة وبيجي، وهي غير موجودة أصلا في الدورة بالرغم من توفر الموارد المالية وكون هذه المشاريع مشخصة منذ زمن وأن طرح زيت الغاز بهذه النسبة العالية من الكبريت فيه أضرار بالبيئة والمعدات.

وإذا كان فائض زيت الوقود عائقا أمام اشتغال المصافي بطاقات عالية فإن الحل لا يبدو قريبا لعدم قيام الإدارات المتتالية بتحسين قدرة منظومة التصدير في الجنوب الذي لا يستطيع استيعاب زيت الوقود المنتج في البصرة، ناهيك عن بقية المصافي.

وقد كان المؤمل نقل الفائض إلى الجنوب للتصدير بأيد ومعدات عراقية بدلا من الاعتماد على منافذ أخرى مكلفة لا يشتغل بها العراقيون.

كما أن وحدة التكسير بالهيدروجين في بيجي للتخلص من نسبة كبيرة من زيت الوقود لا تعمل رغم الجهود المضنية التي بذلت في إصلاحها ووضعها قيد العمل في 2001.

كان العراق سباقا منذ 1959 في إنشاء صناعة متقدمة لزيوت التزييت بلغت طاقتها ما يقرب من نصف مليون طن في السنة وأنتجت ما لا يقل عن مائتي ألف طن في 2002 بالرغم من الدمار الذي أصاب أجزاء منها في عدوان 1991 والحاجة الماسة للمواد الكيماوية وقطع الغيار، بل وأنتجت حتى في 2004 حوالي تسعين ألف طن قبل أن يبدأ التراجع إلى 22 ألف طن فقط في 2008.

"
الإعصار الذي يواجه العراق يقتضي إعلان الطوارئ التي لها أحكامها الخاصة، والحل المؤكد مرتبط بما هو خارج نطاق النفط إذ على البلاد التخلص من الاحتلال، والثقافة التي جاءت معه
"

وعوضا عن معالجة أسباب تدني إنتاج الزيوت يتم الاعتماد على الاستيراد الذي يكلف مبالغ طائلة، ولا يمكن ضبط الجودة لقيام القطاع الخاص بالاستيراد في الأغلب بدلا من أن يكون العراق من الدول المصدرة لزيوت الأساس.

وفي آخر القصة المحزنة نجد أن الغاز الطبيعي الذي كان إنتاجه واستهلاكه في عام 2002 قد بلغ 865 مليون قدم مكعب يوميا من الغاز الجاف تراجع في عام 2008 إلى ما يقرب من 480 مليون قدم مكعب يوميا، في حين بلغ الغاز المحروق هباء في 2008 حوالي خمسمائة مليون قدم مكعب يوميا.

ونتيجة لذلك اضطرت صناعة الكهرباء لاستخدام الوقود السائل بديلا بما في ذلك النفط الخام الذي بلغ متوسط استخدامه في 2007 حوالي سبعين ألف برميل يوميا، وزيت الغاز أكثر من ثمانية آلاف برميل يوميا في توليد الكهرباء التي كانت ستستفيد كثيرا من الغاز الأنظف والأسهل والأكثر اقتصادية لو كان متوفرا.

وينطبق الشيء ذاته على إنتاج الغاز السائل الذي بلغ في 2002 ما مجموعه أربعة آلاف طن باليوم من مجمعي الشمال والجنوب وإلى ألف طن يوميا من المصافي كان يصدر الفائض منه إلى الدول المجاورة لحين الاحتلال، أما في 2008 فقد بلغ إنتاجه ألفي طن باليوم من مجمعي الغاز وستمائة طن باليوم من المصافي، ويستمر الاستيراد للتعويض ولو جزئيا عن النقص في حاجة المواطنين.

ولم تفعل الحكومات المتعاقبة ما يذكر للنهوض بهذا الواقع، لا بل إن البعض قد عول على الاستيراد واستسهله، خاصة في 2004 و2005 حين بلغ معدل استيراد المنتجات ما يقرب من 150 ألف برميل يوميا فيها 25 ألف برميل يوميا من الغاز السائل.

وأخيرا وفي 2007 ادعت الوزارة إيجاد الحل بتوقيع اتفاق مبدئي مع شركة أجنبية يقضي بإيداع كل الغاز المنتج في الجنوب حاليا ومستقبلا وكل منشآت غاز الجنوب والمجمعات التي تنشأ لاحقا إلى شركة مشتركة وبشروط غير ملائمة كتب الكثير عنها، بدلا من أن تقوي الوزارة من أساليبها التنفيذية باستدعاء الشركات المنفذة لتصليح وتأهيل وتحديث منشآت غاز الجنوب خاصة وغاز الشمال وإكمال مشاريع خطوط الأنابيب للربط الكافي بينهما.

إن ما ذكرته هنا ليس انتقادا للعاملين في قطاع النفط، فهم أنفسهم الذين بنوا وشغلوا هذه الصناعة في ظروف قلما كانت ملائمة، وهم أنفسهم الذين أعادوا إعمار ما دمر منها في الحروب المتتالية، وهم أصحاب مشاريع التنفيذ المباشر الذي كان مدرسة لعدد كبير من الفنيين بالرغم من الخسائر التي أصابتهم منذ الاحتلال لحد الآن، وهم ما زالوا قادرين على الإنجاز إذا ما تهيأت لهم الظروف المناسبة للعمل ككتلة وطنية واحدة.

ولكن الخروج من هذه الحالة القاتمة ليس سهلا في الظروف التي تفتقر فيها الإدارة إلى رؤية واضحة وليس لها القدرة على اتخاذ القرارات الصعبة وحفز العاملين للمضي قدما.

إن الدعوة إلى هيئة إنقاذ نفطي تتولى اتخاذ القرارات لتحقيق أهداف محددة بالصناعة النفطية الحالية فقط لانتشالها من هذا الوضع، ولا تكون مكبلة إلا بأهدافها وخارج كل السياقات الاعتيادية، ربما يكون أفضل ما يمكن اقتراحه.

فالإعصار الذي يواجه العراق يقتضي إعلان الطوارئ التي لها أحكامها الخاصة. والحل المؤكد مرتبط بما هو خارج نطاق النفط إذ على البلاد التخلص من الاحتلال، والثقافة التي جاءت معه.

وإذا كان النفط سببا لاحتلال العراق، فإن المحتلين فشلوا فشلا ذريعا وجروا معهم من جاء على دباباتهم ومن التحق بها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.