مفاوضات من أجل المفاوضات
ماهية المفاوضات
هل للمفاوضات أهداف ووسائل؟
وقفة لا بد منها
انتشرت في النصف الأول من القرن العشرين مقولة الأدب من أجل الأدب، وهي أن يكتب الأدب ضمن مناهجه بعيداً عن اهتمامه بمعالجة جوانب الحياة المختلفة، فقد تكتب رواية كاملة تعالج جمال الفراشة، ويتم فيها حشد كل صور الأدب ومناهجه وأدواته فقط لبيان جمال الفراشة.
وقد نسي أصحاب هذه المقولة في النهاية أن الأدب انعكاس لواقع الناس في كل حالاتهم، ولهذا فشلت هذه المقولة وماتت. ولكننا نرى فلسفة هذه المقولة تظهر الآن في السياسة الفلسطينية، رغم أن السياسة هي في الأصل مصالح ومنافع لا مجرد أفكار، وبالتالي فإن المقولة في الإطار السياسي تتضمن تناقضاً بين الفكرة وواقعها، ولكن يؤيد زعمنا بوجودها ما نراه في الساحة الفلسطينية منذ توقيع اتفاق أوسلو وما نتج عنه، ظهور مقولة المفاوضات من أجل المفاوضات قد طبقت في الواقع الفلسطيني، فهناك مفاوضات تجرى بصورة سريالية في المنتجعات والفنادق، وواقع فلسطيني يتمزق ويتردى ويتقهقر إلى مستويات خطيرة.
ماهية المفاوضات
ولم تكن المفاوضات وما نتج عنها منذ اتفاق أوسلو إلا مصلحة إسرائيلية ووسيلة تكتسب إسرائيل من خلالها المزيد من الوقت لتحقيق مكاسب على الأرض، ويتبدى ذلك في إصرار كل الحكومات الإسرائيلية على التمسك بالمفاوضات والدعوة إليها، في مقابل تراجع خطير على الجانب الفلسطيني الذي يخسر المزيد من حقوقه وفي كل الميادين.
فمن يرى الوضع الفلسطيني الآن ويقارنه بما كان عليه الحال عشية توقيع اتفاق أوسلو يكتشف حجم الخسائر التي مني بها الحق الفلسطيني، وتم كل ذلك خلال جولات المفاوضات المتعددة التي يرى أصحابها أن المرحلة تتطلب المفاوضات وأن خيار المقاومة المسلحة بات مستهلكاً وقد استنفد أغراضه، وباتت كلفته عالية، وبالتالي فإن الخيار الوحيد أمامهم هو خيار التسوية السلمية والطريق المتاح هو طريق المفاوضات فقط، وهذا كمن يرى بربع عين ويغلق الأخرى.
" لم تكن المفاوضات وما نتج عنها منذ اتفاق أوسلو إلا مصلحة إسرائيلية ووسيلة تكتسب إسرائيل من خلالها المزيد من الوقت لتحقيق مكاسب على الأرض، في مقابل تراجع خطير على الجانب الفلسطيني " |
إن الطرف الفلسطيني وخاصة السلطة التي تصدت للمفاوضات بحكم أنها دشنتها مع أوسلو، يعلن في كل مناسبة ومع كل تغيير يجري في التركيبة السياسية في إسرائيل على ضرورة المفاوضات وأهمية استمرارها، بل واعتبارها الهدف الإستراتيجي الذي لا هدف بعده، والذي ينبغي التمسك به وأن لا خيار ولا بديل عن المفاوضات، رغم كل ما يجري على الأرض، من تراجع لأبسط الحقوق للمواطن الفلسطيني يومياً والانتهاكات الإسرائيلية المستمرة التي بلغت من الناحية السلبية عشرات أضعاف ما كان عليه الوضع قبل التوقيع على اتفاق أوسلو عام 1993.
لقد بقيت المفاوضات عاجزة عن إنجاز شيء ملموس للجانب الفلسطيني، وكانت نتائجها تنعكس بصورة سلبية في كل ما يتعلق بحقوق الشعب الفلسطيني، فرغم المفاوضات المتكررة في الزمان والمكان فإنها لم تحقق أي شيء إيجابي للشعب الفلسطيني، الذي طال انتظاره ليرى نتائج فعلية وإيجابية لتضحياته العديدة منذ مائة سنة من الصراع، ولكنه يرى الواقع الذي يعيشه وقد تردى وتراجع في كل المجالات.
فالسلطة لم تستطع أن تقدم له شيئاً حقيقياً، وفي الوقت نفسه لم تتمكن من حمايته من العدوان الواقع عليه ليل نهار، بل ازداد الأمر سوءا بقيام أجهزة السلطة ذاتها بممارسة البطش والاعتقال ضده في كل المناسبات اتساقاً مع نصوص الاتفاقيات وروحها، ويبدو أن لها أرواحاً كثيرة.
لقد تراجعت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للشعب الفلسطيني بكل فئاته وعلى كل المستويات، فما زال يمارس عليه الاضطهاد والقهر والمصادرة، وكل ذلك ازداد سوءا بعد المفاوضات التي استبشر الناس بدايتها، وأملوا نيل حقوقهم من خلالها بديلاً عن الموت والدم والمعاناة، ولكن ترتب عليها بعد حين اتفاقيات سوء، لم يلتزم بها إلا الجانب الفلسطيني فقط وبصورة خدمت الجانب الإسرائيلي وحده.
ومما يؤسف له أن كل جولة من المفاوضات كان يتبعها تراجع خطير في الواقع بصورة أسوأ من ذي قبل، وكأن واقع الحال يقول للطرف الفلسطيني وللفلسطينيين عموماً لا داعي للمفاوضات وعليكم القبول بما أنتم عليه وإلا سوف تخسرون المزيد في الجولات القادمة.
أما على مستوى الواقع الفيزيائي ذاته فقد تراجعت الأوضاع بصورة أصبح الوطن ذاته لسكانه ولسلطته سجناً كبيراً، فالأوضاع على الأرض الفلسطينية ساءت بصورة غير مسبوقة.
فقد أدى بناء جدار الفصل العنصري إلى تمزيق الأرض الفلسطينية، وزاد من تشتت الشعب الفلسطيني داخل أرضه، بل وحتى داخل قراه ومدنه، وراح الاحتلال يستولي على ما بقي من الأرض الفلسطينية، وأصبح المواطن الفلسطيني محاصراً في كل شيء حتى الحركة داخل المدن الفلسطينية وبينها أضحى منذ اتفاقيات أوسلو أمراً عسيراً، بل وتحول هذا التنقل إلى وسيلة بشعة من وسائل التعذيب والإهانات والعبث بكرامة المواطن الفلسطيني على مئات الحواجز المقامة على كل الطرق ومداخل المدن والقرى، دون أن تفعل المفاوضات أو المفاوضين شيئاً.
" مفاوضات الجانب الفلسطيني ليست فعلاً بل رد فعل على شراسة المفاوض الإسرائيلي وتشرذم المفاوض الفلسطيني وقهر رعاة المفاوضات وابتزازهم للمفاوض الفلسطيني سواء فيما يتعلق بالمنح والمساعدات أو سيطرة القوة على الأرض من قبل إسرائيل " |
إن من يريد التفاوض ينبغي عليه في الحد الأدنى أن يعرف على ماذا يفاوض وما هو الهدف النهائي والمقدس الذي يسعى إلى تحقيقه وما هي الوسائل المناسبة لتحقيق هذا الهدف؟ ولكن المفاوضات منذ خمسة عشر عاماً لم تتبين هدفها ولم تتبن وسائلها المناسبة، فأضحت المفاوضات وخاصة من الجانب الفلسطيني ليس فعلاً بل رد فعل على شراسة المفاوض الإسرائيلي وتشرذم المفاوض الفلسطيني وقهر رعاة المفاوضات وابتزازهم للمفاوض الفلسطيني سواء فيما يتعلق بالمنح والمساعدات أو سيطرة القوة على الأرض من قبل الحكومة الإسرائيلية.
وبدأ الانحراف يتجه بعيداً عن طموحات الشعب الفلسطيني إلى مسارات فرعية وأهداف جزئية أدت إلى متاهة لم يتم الخروج منها حتى الآن، بل وقد أدت إلى نتائج عكسية في العديد من مراحلها وواقع الحال يبين ذلك، وأسباب ذلك عديدة فلسطينياً وإسرائيلياً وعربياً ودولياً، ولن نتطرق هنا إلا إلى الأسباب الفلسطينية في هذا المجال.
وبات من الضروري إعادة النظر في هذه الوسيلة التي تم استبعاد الوسائل الأخرى أو القضاء عليها أو محاربتها في التعامل مع إسرائيل، وكأن المفاوض الفلسطيني يملك القدرة على أن يفعل، والحقيقة أنه لا يفعل أي شيء، سوى تقديم المزيد من الخسائر سواء على الورق أو من خلال الإجراءات على الأرض سواء من السلطة أو من خلال الجيش الإسرائيلي الذي يسعى في كل لحظة إلى المزيد من الابتزاز والسعي إلى استكمال المشروع الصهيوني سواء في الضفة عامة أو في القدس خاصة، والشواهد اليومية أمثلة حية على الأفعال.
وقفة لا بد منها
لم تحقق المفاوضات للشعب الفلسطيني في الداخل أو الخارج أي مكاسب، فلم نر الدولة الفلسطينية تقوم حرة على أرض عام 67 كما تم الاتفاق عليه، ولم تتحقق أمنية عودة القدس عاصمة لهذه الدولة، ولم يتم هدم المخيمات في الداخل أو الشتات وإعادة ساكنيها إلى قراهم ومدنهم أو على الأقل إلى مدن وقرى الدولة الفلسطينية الموعودة، ولم تتحقق حرية المواطن الفلسطيني في الداخل في وطن حر يتمكن من زيارة أقرب المدن أو القرى بحرية، ولم تتأسس أي ممارسات يفخر بها الشعب الفلسطيني بعد هذه التضحيات.
بل النقيض هو الذي تم على أرض الواقع، فالحريات أضحت نهباً للجيش الإسرائيلي وللقوى الأمنية في السلطة، التي تتمسك ببقاء السلطة حتى النهاية رغم أنها لم تعد تعبر عن أي طموح من طموحات الشعب الفلسطيني، بل أضحت فكرة لعدد من الأشخاص يريدونها كيفما كانت النتيجة، وهذا ما أدى إلى شلل في العمل الوطني الفلسطيني، فقد توقفت كل مساراته، وبات الموضوع الفلسطيني كله مرتبط بصراع بين قوى حول من هو صاحب الحق، ومن الذي يملك الرؤية الصائبة، وتم اختزال القضية الفلسطينية في صراع داخلي حول أي طرف هو صاحب الشرعية، في زمن بات الوطن كله في مهب الريح.
تدعو حكومة اليمين الإسرائيلي المتطرفة (نتنياهو، ليبرمان) إلى استئناف المفاوضات، وأظن أنها تريد بدء المفاوضات من جديد، بمعنى استئناف المفاوضات من الوضع القائم، وليس بالرجوع إلى اتفاقية أوسلو كمرجعية، مما يستدعي ضرورة إعادة تقييم لمجمل العملية التفاوضية كلها من جديد وبيان ما تم تحقيقه من إنجازات وما تم الإخفاق فيه، وما هي السلبيات التي وقعت فيها عملية المفاوضات، والظروف الإيجابية والسلبية التي كانت تحيط بالعملية من خلال المتغيرات المحلية الفلسطينية والإسرائيلية والعربية والدولية.
" إذا لم يتم إعادة النظر في العملية التفاوضية من جديد واعتبارها أحد مسارات ووسائل الحصول على الحقوق الفلسطينية وليس المسار الوحيد، فسوف يصل المفاوض الفلسطيني إلى أن يجد أنه لم يبق ما يفاوض عليه " |
ولا بد من إعادة تعريف الهدف وتحديد الوسائل وتعيين لجنة متخصصة تضم الخبراء وليس السياسيين فحسب، وتكون قادرة على قراءة الأوضاع بصورة موضوعية واستثمار المتغيرات لصالح المصالح الفلسطينية، وأن تكون مصلحة الشعب الفلسطيني في كل مكان هو الهدف وليس مصلحة طرف دون آخر، وأن يتصرف المفاوض على أن الشعب الفلسطيني هو شعبه لا شعب فئة أخرى يقف منه موقف العداء، وأن يتم تقييم كل جولة من المفاوضات بصورة لا تسويف فيها، وأن يتم التركيز على الأوضاع العربية والعلاقات الدولية حتى لا يبقى مستقبل الشعب الفلسطيني عرضة للتقلبات العربية ومصلحة الطرف الإسرائيلي وعصا راعي المفاوضات، أو جزرة المانحين التي أدت في النهاية إلى خلخلة البنية المجتمعية الفلسطينية ذاتها، وهذا موضوع آخر، وأن يتم بناء إجماع فلسطيني على الهدف المنشود والآلية المتبناة، بحيث يتم الاستمرار في المفاوضات بصورة إيجابية بغض النظر عن الفريق المفاوض.
إذا لم يتم إعادة النظر في العملية التفاوضية من جديد واعتبارها أحد مسارات ووسائل الحصول على الحقوق الفلسطينية وليس المسار الوحيد، كما يتم الإعلان عنه بداع أو دون داع غير تأكيد الالتزام بمفهوم المفاوضة، فسوف يصل المفاوض الفلسطيني بعد حين من الزمن وأراه ليس بعيداً إلى أن يجد أنه لم يبق ما يفاوض عليه، فتكون إسرائيل قد أكملت مصادرة الأراضي وانتشرت المستوطنات كالسرطان في جسد الأرض الفلسطينية، ولا يبقى ما يتم التفاوض عليه بعد سياسة الأمر الواقع التي نجحت إسرائيل فيها طوال تاريخها، ولم ينجح المفاوض الفلسطيني في ردم الهوة بين ما يسعى إليه وبين ما يتم الاستيلاء عليه خلال المفاوضات ذاتها.
وإذا لم يتم استدراك الخلل الواقع في مجمل العملية التفاوضية، فسوف نراها وقد تحولت بالفعل إلى حالة سريالية فريدة، مفاوضات تجري على موضوع لم يعد موجوداً وعلى حقوق قد تم مصادرتها تماماً، وحينذاك يصبح الأمر كحال الملك أبي عبد الله الأحمر -آخر ملك عربي في الأندلس- عندما بكى ملكه الذي ضاع منه عندما وثق بأعدائه ووعودهم وسلمهم مدينته، فلا بكاؤه ولا ندمه قدما له لحظة مضت تم التفريط بها ثقة أم جهلاً، فالزمان لا يعود إلى الوراء أبداً.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.