أسرى 48 بين مطرقة عباس وسندان الصهيونية

أسرى 48 بين مطرقة عباس وسندان الصهيونية



والدة الأسير السياسي سمير صالح سرساوي من قرية إبطن الواقعة على الشارع الرئيسي بين حيفا وشفاعمرو، والمحاطة بالمستوطنات اليهودية التي أقامتها الدولة العبرية على أراض صودرت من الفلسطينيين، تذرف الدموع بدون توقف.

نجلها محكوم عليه بالسجن لمدة 45 عاما وهو معتقل منذ 21 نوفمبر/تشرين الثاني 1988، وقد زُجّ به في السجن وهو في العشرين من عمره، وقضى نصف مدته هناك، ولا يُعلم هل ستأتي اللحظة التي سيخرج فيها إلى الحرية أم لا؟

"
عائلات الأسرى في الداخل تعول -ولكن بهدوء تام- على حركات المقاومة بأن تدرج أسماء أسراهم في القائمة المقدمة للحكومة الإسرائيلية في الصفقة التي قد تخرج إلى النور بين حماس وإسرائيل
"

تقول الوالدة إن "السلطات الإسرائيلية منعته حتى من المشاركة في مراسم تشييع والده.. أرى ابني فأبتلع الحزن والهموم وأكبت الدمع في مقلتي، ورغم الاختناق الذي يعتصر قلبي كأي أم خطفوا منها مهجة فؤادها فإني أضحك معه، وكلكم تعرفون ما هو قلب الأم".

أما أخوه فيتساءل عن دور حركة فتح التي انتمى إليها سمير قبل توجيه التهمة إليه عام 1988 ويقول "أين حركة فتح من أخي؟ لماذا باعوه ونسوه؟ أخي سمير زُجّ به في السجن قبل اتفاق أوسلو.. نريد من أبو مازن تحرير أسرانا، فنحن لا نشعر بأن لدينا عنواناً يدافع عنا ويحاول تحرير أسرانا.. لقد زارنا نواب في الكنيست كثيرون وتلقينا وعودا أكثر، لكن لم يحدث أيّ شيء على أرض الواقع.. نريد من الزعماء العرب أن يتحركوا لمساعدة الأسرى الفلسطينيين.. لقد قضى سمير عقدين من الزمن في السجون الإسرائيلية وحرم من حياته، ونحن في العائلة نشعر أن أعمارنا أصبحت قصيرة.. 21 عاما ونحن ندق أبواب السجون.. أين الرؤساء العرب؟ إنهم لا يشعرون بما نشعر به.. لقد تغيرت حياتنا".

على بعد 30 كلم من قرية إبطن، تجلس السيدة صالحة حمدوني في بيتها بمدينة طمرة في قلب الجليل الغربي، نجلها الشيخ خالد يقبع في غياهب السجون منذ العام 2004 بعد إدانته بمحاولة اختطاف جندي إسرائيلي.

تقول "وا أسفاه على النواب العرب، سيحاسب الله كل المسؤولين من قادة وزعماء، سيحاسبهم على دموع الأمهات، ورغم الخيبة والخذلان الذي تعاني منه عائلات الأسرى فإنني لا أفقد الأمل، فالشهامة لن تموت من جذورنا العربية.. ثقتي بالله كبيرة وأسأل الله أن يعينني أنا وزوجي كي نبني بيتا لابننا خالد يجد فيه ما يبهج قلبه عند عودته من السجن".

وتقارن والدة الأسير الشيخ خالد بين التضامن مع عائلة الأسير الإسرائيلي الوحيد قائلة "من يعرف أسماء أسرانا؟ لقد دمروا غزة لأجل شاليط (القصد الجندي الإسرائيلي الأسير جلعاد شاليط الذي أسرته المقاومة الفلسطينية يوم 25 يونيو/حزيران 2006، وما زال في الأسر) ودمروا لبنان لأجل أسيرين، هل يوجد قلب أم رؤوف يمكنه أن يقف إلى جانبي في مظاهرة أو في اعتصام، هل قلب أم شاليط غير قلب الأم الفلسطينية؟".

عائلات الأسرى الفلسطينيين من عرب الداخل لا تجد من تشكو إليه ولا تعرف من تتوجه إليه، فالسلطة الوطنية الفلسطينية أعلنت بصريح العبارة براءتها من أكثر من 150 أسيراً سياسياً من عرب الداخل أو عرب الـ48 أو فلسطينيي الداخل، والدولة العبرية تعتبرهم مواطنين إسرائيليين خانوا دولتهم وقدموا المساعدة للعدو أثناء الحرب، أي أن الأسرى والعائلات يقعون تحت مطرقة السلطة في رام الله وسندان الدولة العبرية، أو كما يقولون في الدواوين باللغة الفلسطينية العامية: لا مع ستي بخير، ولا مع سيدي بخير.

هذه العائلات تعول -ولكن بهدوء تام- على حركات المقاومة بأن تدرج أسماء أسراهم في القائمة المقدمة للحكومة الإسرائيلية في الصفقة التي قد تخرج إلى النور بين حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وإسرائيل.

وهكذا في ظل الحديث عن صفقات التبادل بين حماس والدولة العبرية، تتعالى الأصوات في الداخل الفلسطيني لإدراج أسماء الأسرى السياسيين من مناطق 48 في هذه الصفقات.

المؤسف والمخجل والمريب أن السلطة الوطنية الفلسطينية بقيادة رئيسها في رام الله المحتلة محمود عباس تبنت الموقف الإسرائيلي القائل إن الأسرى من عرب الداخل موطنون إسرائيليون خانوا دولتهم وقدموا المساعدة للعدو أثناء الحرب. هذا الموقف الإسرائيلي الرسمي ينسى ويتناسى أن هؤلاء "المواطنين" يتعرضون لأبشع أصناف وأجناس التمييز العنصري من قبل المؤسسة الحاكمة في الدولة العبرية.

كما أن هذا الموقف يتجاهل -عن سبق الإصرار والترصد- الدعوات المختلفة التي تُطلق في إسرائيل لترحيل هؤلاء "المواطنين" أو العمل على تضييق الخناق عليهم، مثل طرح وزير الخارجية المتشدد والمتطرف أفيغدور ليبرمان القاضي بطرد كل عربي فلسطيني يحمل الجنسية الإسرائيلية إذا رفض إعلان الولاء للدولة العبرية والإقرار بأنها دولة يهودية صهيونية.

والأخطر أن رئيس الوزراء الجديد بنيامين نتنياهو الذي يرى أن "عرب إسرائيل" قنبلة ديمغرافية موقوتة، وافق في الاتفاق الائتلافي مع رئيس حزب "إسرائيل بيتنا" ليبرمان على تشريع قانون الولاء العنصري الفاشي الذي ابتكره ليبرمان.

"
لا يمكننا أن ننكر أن القيادة الفلسطينية وضعت عمليا الأسرى السياسيين من عرب 48 جانبا، وحولتهم إلى أولاد غير شرعيين للثورة الفلسطينية
"

ومن سخرية القدر أن "الأعداء" الذين جندوا وأرسلوا هؤلاء الفدائيين للمشاركة في الكفاح المسلح للثورة الفلسطينية، هم اليوم من يسمون تيار الاعتدال في القيادة الفلسطينية ويفاوضون الجانب الإسرائيلي على مجمل القضايا العالقة بين الطرفين، وبغض النظر عن رؤيتنا القائلة إن هذه المفاوضات أكثر من عبثية، ولم تجلب خلال 16 عاماً سوى الويلات والمآسي للشعب العربي الفلسطيني..

فلا يمكننا أن ننكر أن هذه القيادة وضعت عملياً الأسرى السياسيين من عرب 48 جانباً وحوّلتهم إلى أولاد غير شرعيين للثورة الفلسطينية، بحيث باتوا بسبب انبطاح هذه القيادة مثل الأيتام على موائد اللئام.

وللتذكير فقط، منذ اتفاق أوسلو أطلق الاحتلال الإسرائيلي أكثر من تسعة آلاف معتقل فلسطيني من الضفة والقطاع، ولكن القيادة الحكيمة ما زالت تصر على موقفها. والأنكى أن محمود عباس ينعت عرب الداخل بعرب إسرائيل، ويقول في تصريحات بصوته وصورته إن مواقفهم المتشجنة تعود على القضية الفلسطينية سلباً، وإنه لا حق لهم بالتدخل في الشأن الفلسطيني.

وهذا الموقف المائع لعباس خطير للغاية ليس على عرب الداخل فقط، وإنما على الشعب الفلسطيني برمته، ويدخل في إطار مشروع تقسيم العرب إلى عربين أو أكثر، ومن المؤسف أنّه يتماشى ويتماهى مع موقف "الكولكتيف" الصهيوني في الدولة العبرية وحتى مع غلاة اليمين المتطرف فيها.

وإذا كان عباس -وهو لاجئ من صفد في أعالي الجليل الأشم- قد تنازل عن حقه في العودة، فهذا الأمر لا يعني بأي حال من الأحوال أنه ينسحب على السواد الأعظم من أبناء الشعب العربي الفلسطيني.

على أي حال، يجب التذكير بأن قائد الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين-القيادة العامة أحمد جبريل أجبر إسرائيل في صفقة التبادل عام 1983 على إطلاق سراح أسرى من عرب الداخل، وخيّرهم -أي الأسرى- بين البقاء في فلسطين أو السفر إلى خارج البلاد، أي أن هذا التنظيم الصغير نسبياً تمكن من إرغام الدولة العبرية العظمى على الموافقة على شروطه.

وبالتالي يمكن القول الفصل إن خيار المقاومة في هذه المسألة بالتحديد -وطبعاً في مسائل أخرى- أثبت تفوقه على خيار الاعتدال والمفاوضات العبثية.

ولكن الأهم هو أن الجبهة الشعبية-القيادة العامة سحبت من تحت أرجل أركان الدولة العبرية المقولة الكاذبة بأن الحكومة الإسرائيلية ترفض إطلاق سراح الأسرى من عرب الداخل، أو كما يُسمون في الدولة العبرية وفي سلطة رام الله عرب إسرائيل.

والحقيقة الساطعة المستندة إلى تعامل السلطة المنهجي معنا هي أنه لا يوجد معنى حقيقي لمواطنة الفلسطينيين في إسرائيل، فالخطاب حول "المواطنين" بصدد الفلسطينيين في إسرائيل الذي تمّت صياغته بشكل أساسي في الأكاديمية الإسرائيلية وانتقل بعد ذلك إلى حلبتي السياسة والإعلام، إنما هو منطلق يهدف إلى ممارسة السلطة والسيطرة، وإلى الفصل بين الفلسطينيين في إسرائيل والفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة.

من هنا يمكن إدراك لماذا تم تطوير وترويج هذا الفهم أو المنطق بالذات في أعقاب الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة في يونيو/حزيران 1967.

وباستثناء المشاركة في الانتخابات التي تعتبر معانيها ودلالاتها العملية محدودة للغاية، فإن الفلسطينيين في إسرائيل لا يحصلون على أي حماية أو ضمان لحقوقهم الأساسية المنبثقة عن حقيقة كونهم مواطنين.

فهل هذا نابع -يحق لنا أن نسأل- من النظرية التي تبناها رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون بأن العرب في هذه الديار أكثر خطورة على كيان الدولة من الدول العربية مجتمعة، وهي التي بمقدور إسرائيل دحرها عسكريا كما أكد المؤرخ والصحفي الإسرائيلي توم سيغف من صحيفة هآرتس في أحد مقالاته التي نشرها مؤخرا.

"
الرهان على القيادة الفلسطينية الحالية أثبت فشله، ومن ثم نرى من واجبنا الوطني والأخلاقي تجاه أسرانا الذين نريد أن ينفك قيدهم، أن نقول بملء الفم إن التنظيمات الفلسطينية ملزمة -وليست مطالبة- بأن تأخذ هذا الأمر على محمل الجد وتُدرج أسماء ألأسرى من عرب الداخل في صفقات التبادل مع إسرائيل
"

إضافة إلى ذلك يجب أن نأخذ على محمل الجد الدعوة التي أطلقها رئيس الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني الشيخ رائد صلاح وأكد فيها أن قضية إدراج الأسرى من عرب الداخل يجب أن تكون أحد الثوابت الفلسطينية مثل حق عودة اللاجئين، وقطع الطريق على "أعداء" شعبنا من أبناء جلدتنا بتقسيمنا، لأن خطورة هذا التقسيم ليست تكتيكية وإنما إستراتيجية.

وتحمل هذه الخطوة في طياتها الأبعاد والتداعيات والإرهاصات الخطيرة للغاية لأن التيار الذي تقوده ما تُسمى القيادة الفلسطينية التي أفرزها اتفاق أوسلو عام 1993، يعمل على بتر عرب 48 من الشعب الفلسطيني وسلخهم عن أمتهم العربية، وتحويلهم إلى ما يُسمى "العرب الصالحين" في الدولة العبرية أو العرب الجيدين، وهو مصطلح إسرائيلي جديد العهد هدفه تدجين وترويض نحو 1.2 مليون فلسطيني ما زالوا منذ النكبة المشؤومة متشبثين ومرابطين على أرضهم وفي وطنهم.

بمعنى أو بآخر، فإن هذه المجموعة تعمل بتنسيق أو بدونه، بتواطؤ مع المشروع الإمبريالي الصهيوني الأميركي على تجزئة المجزأ وتقسيم المقسم وحتى تربيع المثلث، رغم أن هذا الأمر يتناقض جوهرياً وأساسياً مع أبسط قواعد الهندسة المستوية وغير المستوية.

في الماضي غير البعيد قلنا وأكدنا أن العودة أهم من الدولة، بمعنى أن حل القضية الفلسطينية لا يمكن أن يكون عادلاً ومنصفاً إلا بعد إعادة جميع اللاجئين الفلسطينيين الذين شردتهم العصابات الصهيونية عام 1948 إلى لبنان وسوريا والأردن.

وها نحن اليوم نعود للمرة الألف لنؤكد هذا الموقف، ونؤكد للقاصي والداني أن تحرير جميع الأسرى الفلسطينيين -وبطبيعة الحال العرب- من غياهب السجون الإسرائيلية، يجب أن يكون ثابتاً تُجمع عليه جميع ألوان الطيف الفلسطيني، مثل حق العودة والقدس عاصمة الدولة المستقلة والسيادة على التراب الفلسطيني المغتصب.

نؤكد على هذا الأمر لأن الرهان على القيادة الفلسطينية الحالية أثبت فشله، ومن ثم نرى من واجبنا الوطني والأخلاقي تجاه أسرانا الذين نريد أن ينفك قيدهم، أن نقول بملء الفم إن التنظيمات الفلسطينية ملزمة -وليست مطالبة- بأن تأخذ هذا الأمر على محمل الجد وتُدرج أسماء الأسرى من عرب الداخل في صفقات التبادل مع إسرائيل، لكي نقطع المحاولات على المتواطئين والمتآمرين كي لا يواصلوا نهجهم من أجل تحويل الشعب الفلسطيني إلى فئات دينية ومذهبية وسياسية وعشائرية، وهو المشروع الذي فشلت فيه إسرائيل على مدار ستين عاماً عندما حاولت -وما تزال- شرذمة فلسطينيي الداخل ورفضت الاعتراف بهم كأقلية قومية أصيلة تعيش على أرضها منذ آلاف السنين.

من هنا نُطلق صرخة باسم مئات العائلات الفلسطينية في الدولة العبرية بأنه يجب حل هذه المشكلة التي استفحلت كثيرا، ويجب إطلاق سراح جميع الأسرى من كل أضلاع المثلث الفلسطيني (الفلسطينيون في الدولة العبرية، والفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة، والفلسطينيون في الشتات) والرد على زعم إسرائيل المتعلق بأن أيادي العديد منهم ملطخة بدماء اليهود والإسرائيليين، كما قالت وزيرة المعارف الإسرائيلية السابقة شولميت ألوني في محاضرة ألقتها أمام كبار الجنرالات والضباط في جيش الاحتلال "من منكم لم تتلطخ يداه بدماء العرب والفلسطينيين؟".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.