فهمي هويدي يكتب: أوان الإفاقة والمراجعة
من مفارقات القدر وسخرياته أنه في حين يتردد خطاب التصالح بين الخصوم بقوة في الساحة الدولية، فإن الاستقطاب والتقاطع بين الأشقاء أصبحا يخيمان على المشهد السياسي العربي.
(1)
" الفرز للآخر بما يؤدى إلى التميز بين المعتدلين والمتطرفين في الساحة الإسلامية، أمر جديد على الخطاب السياسي الأميركي، وأغلب الظن أن ذلك التميز يقف وراء دعوة أوباما في حديثه إلى نقل تجربة العراق إلى أفغانستان، والشروع في محاورة «العناصر المعتدلة» في حركة طالبان " |
حينما دعا الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى فتح صفحة جديدة مع إيران في خطابه الذي وجهه بمناسبة عيد النوروز يوم الجمعة الماضي «20/3» فإنه كان يتقدم خطوة إلى الأمام على الدرب الذي اختار السير فيه، بعيدا عن نهج سلفه الرئيس بوش، وهو ما بدا واضحا في الحوار الذي أجرته معه صحيفة نيويورك تايمز «في 8/3 الحالي»، وجاء خاليا من لغة الاستقواء والغطرسة التي دأب بوش على التحدث بها، ذلك أن الرجل لم يشر إلى الإرهاب أو محوري الشر والخير أو الفوضى الخلاقة أو نشر الديمقراطية، أو غير ذلك من المفردات التي ظل الرئيس الأميركي السابق يلوح بها طوال سنوات حكمه الثماني، وإنما حرص أوباما على أن يطل على الجميع وقد مد يده إلى الآخرين، مبديا رغبته في أن يتعاون معهم في تحقيق التعايش الآمن والأهداف المشتركة، حتى إنه في حديثه عن العراق، ذكر أن من بين أسباب النجاح في تحقيق «الاستقرار» هناك، أن قيادة القوات الأميركية مدت يدها إلى «أشخاص تعتبرهم إسلاميين أصوليين أبدوا استعدادا للعمل معنا».
الرسالة في الإشارة الأخيرة يمكن أن نفهمها على نحو أوضح حين نطالع العدد قبل الأخير من مجلة نيوزويك «الصادر في 10/3» الذي كان عنوان غلافه: الإسلام الراديكالي حقيقة من حقائق الحياة، كيف نتعامل معه؟ وفي الداخل المقال الذي كتبه في الموضوع رئيس تحرير المجلة فريد زكريا، وكان عنوانه «تعلم العيش مع الإسلام الراديكالي». وفي سياق المقال قال إننا لسنا مضطرين إلى الموافقة على رجم المجرمين بالحجارة، ولكن حان الوقت للتوقف عن معاملة كل الإسلاميين وكأنهم مشاريع إرهابيين.
هذا الفرز للآخر بما يؤدي إلى التميز بين المعتدلين والمتطرفين في الساحة الإسلامية، أمر جديد على الخطاب السياسي الأميركي، وأغلب الظن أن ذلك التميز يقف وراء دعوة أوباما في حديثه إلى نقل تجربة العراق إلى أفغانستان، والشروع في محاورة «العناصر المعتدلة» في حركة طالبان.
(2)
صحيح أن الرئيس الأميركي الجديد منحاز منذ وقت مبكر إلى فكرة الحوار مع الجميع دون تمييز، كما قال لي أحد الذين كانوا ضمن فريقه في حملته الانتخابية، إلا أننا ينبغي أن نلاحظ في خطابه أمرين، أولهما أنه يريده تغييرا في الوسائل وليس في الأهداف، ذلك أن الأهداف الإستراتيجية الأميركية كما هي لم تتغير، ولكن التطور الحاصل هو في سبل تنفيذها، حيث يريد أوباما أن يستخدم «القوة الناعمة» في حين أن سلفه كان يلجأ دائما إلى القوة الخشنة والباطشة.
الأمر الثاني أنه في تعامله مع ملف الصراع العربي الإسرائيلي، ينطلق من انحيازه إلى الرؤية الإسرائيلية التي تتبناها وتساندها مراكز قوة لا يستهان بها في الولايات المتحدة. وحتى إذا اختلف مع تل أبيب في أمر ما «توسيع المستوطنات مثلا» فإن خلافه سيظل من قبيل تعدد الاجتهاد في تحقيق مصلحة إسرائيل.
لابد أن نلاحظ أن حديث أوباما عن التفاهم مع من أسماهم «معتدلي طالبان» جاء متزامنا مع قرار الحكومة البريطانية التعامل مع حزب الله في لبنان، الذي كان مدرجا ضمن «الجماعات الإرهابية»، ومع قيام وفد يمثل البرلمان الأوروبي بزيارة دمشق والالتقاء برئيس المكتب السياسي لـ«حماس» خالد مشعل والأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي رمضان عبد الله وآخرين من قادة فصائل المقاومة، كما جاء ذلك الكلام في أعقاب وصول أكثر من رسالة من واشنطن إلى دمشق عبر أعضاء الكونغرس الذين توافدوا على العاصمة السورية في الأسبوع الذي سبقه.
" أوباما يريد تغييرا في الوسائل وليس في الأهداف، ذلك أن الأهداف الإستراتيجية الأميركية كما هي لم تتغير، ولكن التطور الحاصل هو في سبل تنفيذها، حيث يريد أوباما أن يستخدم «القوة الناعمة» في حين أن سلفه كان يلجأ دائما إلى القوة الخشنة والباطشة " |
لا تفوتنا أيضا ملاحظة أن الإدارة الجديدة في واشنطن تحدثت عن فتح صفحة جديدة للعلاقات مع روسيا، كما أبدت رغبتها في إجراء «حوار صريح» مع كوريا الشمالية وفي ذات الوقت أصدر الكونغرس قانونا يرفع جزئيا حظر السفر إلى كوبا وتصدير الأدوية إليها في بادرة تخفف من الحصار المفروض عليها وتمهد لتطبيع العلاقات معها.
ما أريد أن أقوله هو أن الاتجاه إلى مد جسور الحوار والتفاهم بين الخصوم، بمن فيهم عناصر حزب البعث في العراق الذي عملت حكومة بغداد على «اجتثاثه»، هو سمة هذه المرحلة، وثمة عوامل عدة أسهمت في توفير تلك الأجواء. فالأزمة الاقتصادية صارت هم الجميع الذي ينبغي أن تتضافر جهودهم لمواجهته. ثم إن الإدارة الأميركية دخلت حربين فاشلتين في العراق وأفغانستان وتضغط إسرائيل لتوريطها في عمل عسكري ضد إيران، ذلك كله من شأنه أن يرفع من درجة التوتر وعدم الاستقرار الذي ينبغي أن يوضع له حد. من ناحية ثالثة، فإن الصمود المشرف الذي وقفته غزة في مواجهة الانقضاض الإسرائيلي الشرس على المدنيين في القطاع أقنع كثيرين في الغرب بأن قوة السلاح فشلت في تركيع الفلسطينيين، وأنه لم يعد هناك مفر من التفاهم مع حركة حماس التي تسيطر على القطاع.
(3)
هذه التطورات المهمة أصبحت محل لغط وجدل في الأوساط السياسية والإعلامية الغربية، بحيث لم يعد السؤال: هل تتحدث حكومات القرار في أوروبا وأميركا مع إيران وحماس وحزب الله أم لا؟، وإنما أصبح السؤال: كيف يمكن أن يتحقق ذلك، وما النتائج المرجوة من ذلك الحوار؟
فقد نشرت صحيفة التايمز البريطانية في 26/2 الماضي رسالة بعنوان «التوصل إلى السلام لا يتحقق إلا بالتحاور مع حماس»، وقعها 11 من السياسيين البارزين في بريطانيا والعالم الخارجي. منهم اللورد كريس باتن المفوض السابق لدى الاتحاد الأوروبي، واللورد بادي أشداون الممثل السابق للمجتمع الدولي في البوسنة، وشلومو بن عامي وزير الخارجية الإسرائيلية السابق، وجاريث إيفانز وزير خارجية أستراليا السابق. وخلال يومي 4 و5 مارس الحالي عقد في كلية الدفاع التابعة لحلف شمال الأطلسي في روما حوار حول سياسة الرئيس أوباما الجديدة في الشرق الأوسط، وحضر ذلك المؤتمر الدولي مشاركون من الشرق الأوسط وأوروبا وأميركا. وفي 3 مارس/آذار الحالي نشرت صحيفة هآرتس أن مسؤولي وزارتي الخارجية والدفاع أعدوا وثيقة سجلوا فيها تحفظاتهم على الحوار بين واشنطن وطهران، وأنهم سوف يقدمون تلك الوثيقة إلى وزيرة الخارجية الأميركية لوضع الموقف الإسرائيلي في الاعتبار، وقرأت في 11/3 «وصفة» لكيفية إنجاح الحوار مع إيران، في مقالة لديفد أغناثيوس، أحد كتاب صحيفة واشنطن بوست، قدم فيها خلاصة لحوار مع لي هاملتون، عضو الكونغرس السابق عن ولاية أنديانا، الذي ترأس مجموعة لدراسة الوضع في العراق عام 2006، وقد وصفه بأنه «نصير الصبر تجاه إيران».
أضيف إلى ما سبق المعلومات التالية التي خرجت بها من لقاءاتي مع عدد من كبار الصحفيين الذين قدموا من مختلف أنحاء العالم، للمشاركة في مؤتمر «الإعلام والسلطة»، الذي دعا إليه مركز الجزيرة للدراسات، وعقد بالدوحة يومي 8 و9 مارس/آذار الحالي:
" التفاهمات بين إيران والولايات المتحدة بدأت بالفعل عبر قنوات متعددة، إحداها اجتماعات تواصلت خلال الأسابيع الأخيرة في جنيف، ومثل إيران فيها دبلوماسي مخضرم، رفض في البداية فكرة تحديد سقف زمني للمحادثات، وقال لا مانع في ذلك إذا تحدد سقف زمني للمفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية " |
-إن الرئيس أوباما الغارق حتى أذنيه في مشكلتي الأزمة الاقتصادية وتداعيات الانسحاب من العراق، والذي فوجئ بأن الوضع في أفغانستان أسوأ مما توقع، لم يلق بثقله بعد في التعامل مع ملفات الشرق الأوسط، ورغم أن لديه صورة وافية عن الوضع في المنطقة، خصوصا القضية الفلسطينية التي كان الرئيس الأسبق جيمي كارتر أحد الذين حدثوه باستفاضة في شأنها، فإنه ترك هذه الملفات مؤقتا لوزيرة الخارجية هيلاري كلينتون ومساعديها.
– إن الفريق الجديد في وزارة الخارجية ليس منسجما تماما مع توجهات الرئيس أوباما، فالسيدة كلينتون لها موقفها المتشدد إزاء حركة حماس، كما أن دينيس روس المبعوث الأميركي الذي يتعامل مع الملف الإيراني له موقفه المعارض لطهران، لذلك فإن هذا الفريق مرشح للتغيير في المستقبل، ومن ثم رأى سيمور هيرش محرر نيويوركر الشهير، أن السيدة كلينتون ربما لا تستمر طويلا في منصبها.
– إن تركيا مرشحة لأن تلعب دورا مهما في مرحلة المصالحة الراهنة، وكانت تلك هي الرسالة التي نقلتها إلى القادة الأتراك وزيرة الخارجية الأميركية أثناء زيارتها لأنقرة قبل أسبوعين، ومما له دلالته في هذا الصدد أن الرئيس أوباما سوف يخاطب العالم الإسلامي من العاصمة التركية، التي سيزورها خلال شهر أبريل/نيسان القادم، والدور التركي المرتقب ليس جديدا تماما، فقد كان لأنقرة دورها في المحادثات بين سوريا وإسرائيل، كما أنها سعت للقيام بدور في المصالحة الفلسطينية، لم تتحمس له القاهرة في حينه، وهناك الآن اتصالات تركية إيرانية سورية عراقية، للتفاهم حول وضع العراق بعد الانسحاب الأميركي، والزيارات التي قام بها خلال الأسابيع الأخيرة الشيخ هاشمي رفسنجاني للعراق، وكل من الرئيس التركي عبد الله غل والمالكي لطهران تمت في هذا السياق.
– إن التفاهمات بين إيران والولايات المتحدة بدأت بالفعل عبر قنوات متعددة، إحداها اجتماعات تواصلت خلال الأسابيع الأخيرة في جنيف، ومثل إيران فيها دبلوماسي مخضرم، رفض في البداية فكرة تحديد سقف زمني للمحادثات، وقال لنظيره الأميركي إنه لا يمانع في ذلك إذا تحدد سقف زمني للمفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية.
(4)
السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل العالم العربي مهيأ للتعامل مع هذه الرياح الجديدة؟
أجد صعوبة في الرد على السؤال بالإيجاب، فأنظمتنا العربية غير مستعدة للانفتاح على قواها السياسية الفاعلة في الداخل ناهيك عن التصالح معها، لأن ذلك يتطلب إصلاحا سياسيا لم يعد مدرجا ضمن أولوياتها. كما أنها غير مستعدة لتغيير سياساتها الخارجية.
أدري أن ثمة حديثا رطبا يتردد في الفضاء العربي عن المصالحة وتنقية الأجواء بين الأشقاء، وهو حديث انطلق أثناء قمة الكويت الاقتصادية، وعبر عنه خطاب العاهل السعودي الملك عبد الله، كما أننا تابعنا تحركات لبعض القادة قيل إنها تسعى لتحقيق ذلك الهدف، لكن من الواضح أن تلك الجهود رطبت الأجواء وفضت الاشتباك مؤقتا، لكنها لم تغير شيئا في المواقف والسياسات وهو ما يسوغ لنا أن نقول: إن ما تحقق حتى الآن لا يتجاوز حدود «التهدئة» بين معسكري «الاعتدال» الذي تقوده مصر والسعودية، والممانعة الذي تقوده سوريا، والخلاف بين الطرفين إستراتيجي وعميق، فالأولون يتحدثون عن التحدي الإيراني ويتمسكون بالتسوية السياسية، والآخرون يتحدثون عن التحدي الإسرائيلي وينحازون إلى المقاومة، الأمر الذي يجعل التناقض بينهما شديدا واللقاء متعذرا.
" الرسالة التي وجهها الرئيس أوباما إلى إيران تشجع الأطراف العربية على الإفاقة والنظر بتجرد في صواب الإستراتيجيات التي أصابت أقطارنا بالوهن، ومزقت الصف العربي حتى كادت تخرجه من مجرى التاريخ " |
ولذلك فإن الرئيس السوري بشار الأسد كان دقيقا حين صرح بعد قمة الرياض الأخيرة -التي دعا إليها العاهل السعودي الملك عبد الله وحضرها غير الرئيس السوري الرئيس المصري وأمير الكويت- بأن الاتفاق تم على «إدارة الخلاف» وليس على إنهائه.
لا يعني ذلك أن طريق الاتفاق مسدود، لكنه وعر بكل المقاييس وتذليل صعوباته يتطلب إرادة مستقلة وشجاعة في المراجعة ونقد الذات، وتوازنا في التعامل مع كل من النهجين من زاوية المصالح العربية العليا، ولعل الرياح التي تهب الآن في الأفق والرسالة التي وجهها الرئيس أوباما إلى إيران تشجع الطرفين على الإفاقة والنظر بتجرد في صواب الإستراتيجيات التي أصابت أقطارنا بالوهن، ومزقت الصف العربي حتى كادت تخرجه من مجرى التاريخ.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.