نسمات عربية

نسمات عربية الكاتب: محمد علي الحلبي



حكمة أبدية سرمدية رمز اعتقاد وإيمان لدى جميع الشعوب هي: اللغة ركن أساسي في أمن المجتمع لأنها حِِواء الثقافة, والثقافة روح المجتمعات بها تعتز ومن كوامن كنوزها تغتني, ولغتنا العربية أمن أمتنا بها نحتمي من غوائل الدهر وإليها نرجع في الملمات باحثين منقبين في إرثها المتراكم عما يرشد مسيرة عمرنا ليعزز أفراحنا ويجنبنا ما أمكن الأتراح.

وقدامى المفكرين كانت لديهم إشارات واضحة لهذه المعاني، ففي كتاب أخبار أبي القاسم الزجاجي قال سمعت شعبة يقول: "تعلموا العربية فإنها تزيد العقل"، وقد سبقه عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ قال: "تعلموا العربية فإنها تنبت العقل وتزيد في المروءة"، كما أن الإمام الشافعي في تحديده لجوانب هامة في حياة الإنسان يقول: "من تعلم القرآن عظمت قيمته ومن نظر في الفقه نبل قدره ومن كتب الحديث قويت حجته ومن نظر في اللغة رقّ طبعه ومن نظر في الحساب جزل رأيه ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه".

"
الشافعي: من تعلم القرآن عظمت قيمته ومن نظر في الفقه نبل قدره ومن كتب الحديث قويت حجته ومن نظر في اللغة رقّ طبعه ومن نظر في الحساب جزل رأيه ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه 
"

قد يظن البعض أن في هذه الأقوال مبالغة وتوسعًا في مضامينها بدافع التعصب للغة العربية لكن لنتوقف قليلاً مع فقه اللغة، فالنويري في كتابه نهاية الأرب في فنون الأدب وجد ستًا وعشرين حالة لحركات الريح لكل واحدة منها اسم يختص بها وعلى سبيل المثال لا الحصر "إذا كان برد الريح نديا سميت بالبليل وإن كانت حارة سميت بالحرور أو السموم وإن هبت من الأرض كالعمود نحو السماء فهي الإعصار وعلى العكس فإذا جاءت بنفس ضعيف وبروح فهي النسيم".

ومن هذا الترابط الدقيق بين الأسماء ومدلولاتها وهي السمة الأساسية للغتنا الجميلة يبرز لنا محمد بن زياد الأعرابي مبينًا ومثبتًا حبنا لأمتنا العربية وللغتها في قوله: "ماء عرب ونهر عرب وبئر عربة كله يراد به كثرة الماء…", وهكذا فاللغة التي حضنت الثقافة والإرث ولأنها جميعها عربية فهي كبئر ماء في عمقه وغزارة مياهه كلما نُضّ منه بقي كماء العيون الغزيرة الفياضة.

وباستنتاج منطقي يتبدى لي قدم عمر هذه اللغة فلقد خلق الله آدم عليه السلام من طين وهو الذي سماه به ولغتنا العربية اشتقت من الاسم كلمة أديم الأرض وهو سطحها وفيه تراب وطين.

في تلك الأزمنة البعيدة تجلت الحضارات بالإبداعات العمرانية وفي مجال الزراعة، وأهمها كانت قدرة التعبير والوصف لما تراه العين ولما يحتويه القلب من حب لأنه مستودعه ولما يتغنى به الفكر من رؤى وأحلام ولما يبتكره من حقائق حياتية هي زاد رحلة العمر. وقد توصل المفكر العربي المرحوم زكي الأرسوزي من خلال أبحاثه في جماليات اللغة العربية إلى عبقرية العرب في لغتهم, ولولعنا وتيمنا الذي استعبدنا هواه لجذور الفكر العربي أردت اكتشاف المزيد من الترابط اللفظي البسيط والاشتقاقات المنبعثة عنه وبين المعاني الكبيرة الرائعة المنبثقة عنه.

لننظر إلى الكلمات: أمن، الأمن، الأمان، الأمانة، الأمين، المؤتمن، الأمنية، اليمين (القًسم والجهة)، اليُمن… وبنظرة عَجلى ورغم أن لكل كلمة معناها المحدد فإن الجامع بينها أخيرًا القيم والأصول الأخلاقية والدينية التي تملأ النفس سعادة وحبورًا وفي العودة لمعاجم اللغة وما قيل عنها من مفكري العصور الماضية يتأكد لنا توحد الدلالات فيها، ففي مختار الصحاح يقول: في باب فعل أمن: الأمان والآمنة بمعنى وقد أمن من باب فََهم وسلِم, وأمانا وأمنه بفتحتين فهو آمن من الأمن والأمان, والله تعالى المؤمّن لأنه أمن عباده من أن يظلمهم, ويعطي الأمان لمن استجار به واستعان, خالق الطمأنينة في القلوب.

والأمن ضد الخوف وفي القرآن الكريم "وهذا البلد الأمين"، ويقال الأمين والمأمون, وفي كتاب التذكرة الحمدونية لابن حمدون نقل أن أعرابيًّا وقف عليه سائل فقال لأحد ولديه: قل لأمك هاتِ درهمًا من ستة دراهم فقالت: هي للدقيق فقال: "لا يصدق إيمان عبد حتى يكون بما في يد الله أوثق منه بما في يديه فيتصدق به", ويتوسع المؤلف في جمعه لدرر القول ناقلاً صورة مناقضة للأمن فيقول شر المال ما لا ينفق وشر الإخوان الخاذل في الشدائد وشر السلطان من خافه البريء وشر البلاد ما ليس فيها خصب ولا أمن.

ويُنقل عن فيلسوف قوله: "كثير من الأمور لا تصلح إلا بقرنائها، لا ينفع العلم بغير ورع ولا الحفظ بغير عقل ولا الجمال بغير حلاوة ولا الحسب بغير أدب ولا السرور بغير أمن ولا الغنى بغير كفاية ولا الاجتهاد بغير رفيق".

ولأهمية الأمن والأمان للحياة أدرجه العرب في أمثالهم والأمثال في جميع لغات العالم معالم وجودية يُسترشد ويُؤخذ بها، لقد قيل "من تجنب الخيار أمن العثار". والخيار الأرض الرخوة.

والرسول العربي الكريم صلى الله عليه وسلم كان الرائد المتفوق في هذا المجال بل في جميع المجالات فلم يترك حالة من حالات الأمان إلا عبر عنها في أحاديثه متدرجًا في معانيها، قال صلى الله عليه وسلم "إذا صدق العبد بر وإذا بر أمن وإذا أمن دخل الجنة". فالصدق منجاة وأمن وطريق العبد الخاشع إلى جنة الخلود وهو الجامع لخصلتي الحَُسن في الأمن والإيمان، وفي جواب للرسول العربي على سؤال: بم يعرف المؤمن؟! قال "بوقاره ولين كلامه وصدق حديثه", وفي تعريفه لتنوع القلوب وطهر بعضها يقول صلى الله عليه وسلم "القلوب أربعة قلب أجرد فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن وقلب أسود منكوس فذلك قلب الكافر وقلب مربوط على غلافه فذلك قلب المنافق وقلب مصفح فيه إيمان ونفاق فمثل الإيمان فيه مثل البقلة يمدها الماء الطيب ومثل النفاق كمثل القرحة يمدها القيح الصديد فأي المادتين غلبت حكم له بها".

"
كثير من الأمور لا تصلح إلا بقرنائها, لا ينفع العلم بغير ورع ولا الحفظ بغير عقل ولا الجمال بغير حلاوة ولا الحسب بغير أدب ولا السرور بغير أمن ولا الغنى بغير كفاية ولا الاجتهاد بغير رفيق
"

ويتابع الرسول الأعظم في تجلياته الإيمانية القول: "إن الحياء من شرائع الإسلام وإن البذاء من لؤم المرء"، والبذاء الفحش الظاهر. بل يجعل الحكمة وهي معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم الشرط اللازم والواجب للمؤمن في قوله: "الحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها فهو أحق بها"، ويضيف عليه الصلاة والسلام من روائع حكمه مدخلاً ذروة الأخلاق في الإيمان قائلاً "لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له والذي نفس محمد بيده لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم لسانه ولا يستقيم لسانه حتى يستقيم قلبه ولا يدخل الجنة من خاف جاره بوائقه"، والبوائق الظلم والغشم. والرسول الأعظم يربط بين معاني الأمن والإيمان والأمانة فيقول "الأمانة غنى" أي سبب الغنى فمن عُرف بالأمانة كثر معاملوه فصار غنيًّا.

ويحدد عليه الصلاة والسلام بعضًا من صفات المؤمن قائلاً "لا يكون المؤمن طعانًا". والشاعر يزيد بن المهلب المتوفى في بغداد عام 259هـ ينزع الأمن والأمان عن الكاذب فيقول: "الكاذب يخيف نفسه وهو آمن", وفي القصص عبر ودروس فالله جلت قدرته قال في كتابه العزيز "نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن".

وكتاب إعلام الناس بما وقع للبرامكة للأتليدي ينقل قصة عمر رضي الله عنه والهرمزان فيقول: وأُحضر الهرمزان (من ملوك الفرس) بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه مأسورًا فدعاه إلى الإسلام فأبى فأمر بضرب عنقه فقال: يا أمير المؤمنين قبل أن تقتلني اسقني شربة من الماء ولا تقتلني ظمآن فأمر له عمر بقدح مملوء ماء فلما صار القدح في يده قال أنا آمن حتى أشربه؟ قال نعم لك الأمان فألقى الهرمزان الإناء من يده ثم قال الوفاء يا أمير المؤمنين قال عمر دعوه حتى أنظر في أمره فلما رُفع عنه السيف قال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، قال عمر: لقد أسلمت خير إسلام فما أخرك؟! قال: خشيت أن يقال أسلمت خوفًا من السيف فقال عمر: إنك لفارس حكيم استحققت ما كنت فيه من الملك ثم إن عمر بعد ذلك كان يشاوره في إخراج الجيوش إلى أرض فارس ويعمل برأيه.

وحكاية أخرى من روائع كلمات الحق أمام الحاكم، ففي كتاب التذكرة الحمدونية لابن حمدون يروي أن الخليفة العباسي -المنصور- كان يطوف ليلاً بالبيت فسمع قائلاً يقول: اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الطمع، فخرج المنصور فجلس ناحية المسجد وأرسل إلى الرجل فصلى ركعتين وسأله: ما الذي سمعتك تقول عن ظهور الفساد والبغي في الأرض فقال إن أمنتني يا أمير المؤمنين أعلمتك بالأمور من أصولها فقال له: أنت آمن على نفسك فراح الأعرابي يعدد للخليفة عيوب نظامه وحاشيته وروى له قصة تضج العبر منها قال: كنت يا أمير المؤمنين أسافر إلى الصين فقدمتها مرة وقد أصيب ملكهم في سمعه فبكى يومًا فحداه جلساؤه على الصبر فقال: أما أنا فلا أبكي للبلية النازلة ولكني أبكي للمظلوم يصرخ فلا أسمع صوته فأما إن ذهب سمعي فبصري لم يذهب نادوا في الناس ألا يلبس ثوبًا أحمر إلا المظلوم, ثم كان يتلفت طرفي النهار هل يرى مظلومًا!  فهذا يا أمير المؤمنين غير مؤمن بلغت رأفته برعيته هذا المبلغ وأنت مؤمن بالله لا تغلبنك رأفتك بالمسلمين على شح نفسك ثم قدم له النصح قائلاً: إن للناس أعلاما يفزعون إليها في دينهم فيرضون بها في دنياهم فاجعلهم بطانتك يرشدوك وشاورهم يسددوك.

ويضج عبق طيب اللغة العربية يشد إليه عشاق الحرف والكلمة والمعنى ويكمل المبدعون مسيرة الإيمان فكتاب الفوائد فيه "إن غرست شجرة الإيمان والتقوى أورثت حلاوة الأبد وإن غرست شجرة الجهل والهوى فكل الثمر", وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه المعروف ببلاغته يجعل الصبر من الإيمان فيقول: "اعلموا أن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد فإذا قطع ذهب الجسد، كذلك إذا ذهب الصبر ذهب الإيمان"، أما رجال الفقه الديني فيصنفون الإيمان في الدرجة الثانية بعد العصمة لأن العصمة واجبة وجوبًا للأنبياء.

وشعراء الجاهلية أدلوا بدلائهم فالشاعر هشام المري من قبيلة ذبيان يفاخر بعظمة قبيلته وبأن من يلجأ إليهم يكن آمنًا مهما بلغ أعداؤه قائلاً:

فمن نحن نؤمنه يبت وهو آمن** ومن لا نجره يمس منا مفزعا

وزهير بن أبي سلمى المتوفى عام 13 ق.هـ وهو حكيم شعراء الجاهلية يقول واعدًا بصدق وأمانة:

أو صالحوا فله أمن ومنتفذ ** وعقد أهل وفاء غير مخذول

"
من كتاب الفوائد: إن غرست شجرة الإيمان والتقوى أورثت حلاوة الأبد وإن غرست شجرة الجهل والهوى فكل الثمر
"

وفي زحمة الحياة وأيامها وتعدد مساراتها تبقى للأمن حدود لا يمكن نسيانها محددًا لها الشاعر الجاهلي السموأل المتوفى عام 64 ق.هـ في قوله:

إن امرأ أمن الحوادث جاهلاً** ورجا الخلود كضارب بقداح

والتدرج الإيماني يتصاعد كلما نفذت البصيرة إلى آفاقه غير المحدودة ومن كثر إيمانه سمي الأليّ: الرجل الكثير الإيمان. وفي عودة لمجامع الكلم وإشاراته فكلمة اليمين تعني القسم وللقسم الصادق قدسيته كما أن كلمة اليمين وهو الجهة مشتقة من اليمن والبركة واليسار مشتقة من اليسر وهو اللين والانقياد وضد العسر.

واليمين القسم صنفه بلغاء اللغة في العديد من الأنواع منها أيمان الأسخياء وذوي العلا وأيمان متعاطي اللهو وأيمان الكهنة وأهل الجاهلية وكان أبلغها أيمان الظرفاء وفي هذا الروض طاف الشاعر البحتري مقسمًا بمن يحب, والحبيب موقع قسم صادق إذ قال:

وحياة من أهوى فإني لم أكن ** أبدًا لأحلف كاذبًا بحياته

كانت رحلة صغيرة في رحاب اللغة ضممت منها أضمومة عبقة الرائحة من رياض الأمن والأمان والأمنية مسترسلاً في جمع مسكها وهو كثير وكثير، وبعد هذه اللمحات.. أليست العربية تزيد العقل ويرق الطبع بها؟! وتؤمن لنا أمننا, لكن الشاعرة الجاهلية سعدى بنت الشمردل المجهولة تاريخ الولادة والوفاة تعبر عن خوفها الشديد في قولها:

أمن الحوادث والمنون أروع** وأبيت ليلي كله لا أهجع

وغريب قولها: أليس في المنية والمنون ونهاية الحياة الراحة والأمن الأبديين للمؤمنين!

كانت نسمات حلوة تشدنا أبدا إلى ألق وضياء إرثنا اللغوي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.