الاختلاف بين إيباك وجي ستريت وتداعياته

الخلاف بين إيباك والجي ستريت وتداعياته



جي ستريت
مقارنة بين جي ستريت وإيباك
إيباك وسجل النجاح
جي ستريت وصعوبة التحول إلى لوبي

يعتبر المؤتمر الأول الذي عقدته منظمة جي ستريت في واشنطن، في الفترة من 25 إلى 28 أكتوبر/تشرين الأول لعام 2009، إيذاناً بدخول هذه المنظمة ساحة المنافسة الجادة مع منظمة إيباك (لجنة الشؤون العامة الأميركية/الإسرائيلية)، التي تعتبر أقوى جماعة ضغط، ضمن ما يعرف باللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة. 

 

جي ستريت
ومع أن منظمة جي ستريت حديثة النشأة، وتتبنى أهدافاً عامة تصل أحياناً إلى درجة الغموض، فقد تعرضت لنقد اليمين الإسرائيلي واليهودي الأميركي الذي تمثله إيباك، والذي يرى في المولود الجديد منافساً بالحد الأدنى، وخصماً يحاول استرضاء أعداء إسرائيل (أي العرب والمسلمين). 

 

وللوقوف على حقيقة الاختلاف بين التيارين وآثار هذا الاختلاف على المصالح الإسرائيلية، لا بد أولاً من مقارنة جي ستريت مع إيباك ذات التاريخ والإنجازات الضخمة في تمثيل المصالح الإسرائيلية في واشنطن لأكثر من ستة عقود.

 

لعل من المفيد، بداية، التعرض للاسم الغريب بعض الشيء (جي ستريت) لمنظمة تعرف نفسها بأنها تعمل لتشجيع القيادة الأميركية على حل الصراع العربي/الإسرائيلي، والفلسطيني/الإسرائيلي بالوسائل السلمية والدبلوماسية. 

 

يعني الاسم حرفياً الشارع جيم ((J Street)، وهو دلالة كما يقول مؤسسو المنظمة إلى شارع غير موجود في العاصمة واشنطن، إذ تنتقل أسماء الشوارع من الشارع آي إلى كي (I to K)، للدلالة الرمزية على افتقاد هذا الصوت ضمن الجالية اليهودية "الوسطية المعتدلة" التي طالما احتكرت الحديث باسمها منظمة إيباك التي تعتبر أقرب إلى اليمين المتطرف في إسرائيل (حزب الليكود تحديداً).  لكن آخرين ممن أدلوا بأحاديث لوسائل الإعلام من مؤسسي المنظمة أشاروا أيضاً إلى أن الحرف جيم هو الحرف الأول لكلمتي يهودي وعدالة باللغة الإنجليزية (Jewish) و(Justice). 

 

"
تقول "جي ستريت" عن نفسها إنها تمثل الأميركان اليهود – لكنها تقبل غير اليهود- الذين يؤمنون بأمن إسرائيل وبدولة يهودية، تعيش جنباً إلى جنب مع دولة فلسطينية ذات سيادة
"

أنشأت منظمة جي ستريت في أبريل/نيسان، عام 2008، وبذا فهي فتية، مقارنة بتاريخ منظمة إيباك التي تعود إلى عام 1951. وتقول المنظمة عن نفسها إنها تمثل الأميركان اليهود -لكنها تقبل غير اليهود- الذين يؤمنون بأمن إسرائيل وبدولة يهودية، تعيش جنباً إلى جنب مع دولة فلسطينية ذات سيادة. 

 

وتعتبر جي ستريت أن حل الصراع العربي الإسرائيلي سلمياً لا يخدم مصالح إسرائيل فحسب، بل إنه يخدم مصالح الولايات المتحدة والفلسطينيين والمنطقة بأكملها. ومع أن هذه الأهداف قد لا تعتبر خلاقة للباحثين عن حل سلمي للصراع العربي/الإسرائيلي، إلا أنها تبدو راديكالية بالمقارنة مع إيباك التي تتبنى دعم إسرائيل بشكل مطلق، وفي كافة المواقف والمواقع، وتزايد على اليمين الإسرائيلي في كل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية.

 

مقارنة بين جي ستريت وإيباك
ولو دخلنا بشيء من التفصيل حول مواقف ورؤى جي ستريت من بعض القضايا الراهنة، مقارنة مع إيباك، لتجلت التباينات بين المنظمتين. 

 

وفيما يلي ملخص بأهم هذه القضايا:

1- الصراع العربي/الإسرائيلي: إن حل هذا الصراع، من وجهة نظر جي ستريت، بشكل سلمي ودبلوماسي هو الضمان الأمثل لأمن إسرائيل واستمرارها كدولة يهودية وديمقراطية في الوقت نفسه. أما بالنسبة لإيباك، فالضمان الوحيد لإسرائيل هو في استمرار تفوقها النوعي المطلق على كافة أعدائها، ومع أنها قد تتحدث عن السلام، فإنها لا تريد سلاماً قد يضعف الدولة العبرية.

 

2- القدس: ترى جي ستريت أن حدود ووضع القدس النهائي يجب أن يحدد من خلال المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وترى من حيث المبدأ أن الأماكن العربية يجب أن تكون تحت سيطرة عربية، بينما تكون الأماكن العبرية تحت سيطرة إسرائيل. وعموماً، فهي ترى أن القدس هي عاصمة دولة إسرائيل. 

 

وبالطبع، فلا يوجد تفصيل هنا حول ما إذا كانت تعني أن مثل هذا التقسيم قائم على أساس التغييرات الكبيرة التي فرضتها إسرائيل على منطقة القدس، وبالتالي تقنين الوضع الراهن، أم أنها تعتبر كافة القدس الشرقية جزءا من الأراضي العربية التي احتلتها إسرائيل بالقوة، وبالتالي فإن كافة الإجراءات التي قامت بها سلطات الاحتلال هي غير شرعية. 

 

مع ذلك، يعتبر هذا الموقف متقدماً مقارنة بإيباك التي تنادي بالقدس عاصمة موحدة وأبدية للدولة العبرية، وقد تقبل بأن تضع بعض الأماكن الإسلامية والمسيحية المقدسة تحت إشراف إداري فلسطيني.

 

3- المستوطنات: ترى جي ستريت في المستوطنات عقبة لتحقيق السلام، كما أنها ترى أن هذه المستوطنات تشكل عبئاً مالياً، وأمنياً، وسياسياً على الدولة العبرية. ومع أنها لا تقول صراحة بضرورة إزالتها، فإن اعتبارها عقبة على طريق تحقيق السلام، يعني أنها -بشكلها الحالي- تتناقض مع القبول المبدئي بدولة فلسطينية ذات سيادة في الضفة والقطاع. 

 

"
ترى جي ستريت في المستوطنات عقبة لتحقيق السلام، كما أنها تشكل عبئاً مالياً، وأمنياً وسياسياً على الدولة العبرية, أما إيباك فترى أن المستوطنات إنما وجدت لتبقى، وأن وجودها ما هو إلا لتثبيت الأمر الواقع
"

أما بالنسبة لإيباك، فموقفها هو أقرب لليكود واليمين المتطرف الذي يعتقد أن هذه المستوطنات إنما وجدت لتبقى، وأن وجودها ما هو إلا لتثبيت الأمر الواقع الذي يجعل من قيام دولة فلسطينية على كافة أراضي الضفة أمراً مستحيلاً يتناقض مع مفهوم الأمن الإسرائيلي، كما أن قوات الدفاع الإسرائيلية تبقى ملتزمة بحماية أمن هذه المستوطنات التي لا يمكن أن تكون تحت سلطة حكومة فلسطينية مستقبلية. 

 

ولعل من الجدير بالذكر هنا، أنه وبينما تحاول الإيباك دائماً تضخيم الخطر الكبير الذي تمثله المنظمات "الأصولية" على أمن إسرائيل، ومن ذلك رفض حركة حماس الاعتراف بدولة إسرائيل، فإن حدود الدولة العبرية كما يراها الكثيرون من أنصار الإيباك، وأصدقاؤهم في حزب الليكود، لا تشمل إسرائيل والضفة فحسب، بل تتجاوزها لتشمل أجزاء كبيرة من المملكة الأردنية الهاشمية.

 

4- السلام مع سوريا: تعتبر جي ستريت أن السلام بين سوريا وإسرائيل سيعزز الأمن والاستقرار في المنطقة، وأن على الإدارة الأميركية أن تشجع الطرفين على التوصل إلى معاهدة سلام، استفادة من التقدم الذي حصل في المفاوضات بين الطرفين. 

 

وبالطبع، فإن موقف إيباك، يتطابق مع موقف قادة الليكود الذين يرون في المفاوضات الدائمة مع سوريا أمراً مفيداً، لكن من دون أن يعني ذلك التخلي الكامل عن الجولان، إذ يعتقدون أن القيادة السورية غير قادرة أو جادة في استرجاع هذه الأراضي المحتلة، وبالتالي فعليهم البحث عن حلول خلاقة مثل استثمار هذه الأراضي الخصبة بشكل مشترك بين البلدين أو القبول بتأجيرها لإسرائيل للمائة سنة القادمة!

 

5- الدور الأميركي: ولعل الخلاف الأكبر يتمثل في رؤية المنظمتين للدور الأميركي الذي تراه إيباك في دعم إسرائيل المطلق، خاصة من خلال الكونغرس الذي يتحكم في قرار المساعدات المالية، ويستطيع عرقلة أي محاولة من أي إدارة للضغط على إسرائيل. 

 

فمثلاً، لا يمكن تصور تراجع إدارة أوباما عن مطالبة إسرائيل بتجميد الاستيطان كشرط لاستئناف المفاوضات إلا بضغط جزئي من إيباك وأخواتها. جي ستريت، من ناحيتها، تريد دوراً أميركياً فعالاً في استئناف المفاوضات، وصولاً إلى السلام القائم على فكرة الدولتين. وبذا تكون جي ستريت أقرب إلى رؤية إدارة أوباما الأولية الساعية منذ اليوم الأول لإحياء عملية السلام. 

 

لكن ما لم يتضح بعد هو ما إذا كانت جي ستريت ستذهب بعيداً إلى درجة مطالبة أو على الأقل دعم الإدارة الحالية، فيما لو قررت ممارسة ضغط حقيقي على الحكومة اليمينية المتطرفة في إسرائيل لدفعها إلى تقديم بعض التنازلات الضرورية لاستئناف عملية السلام.

 

إيباك وسجل النجاح
ويبقى عنصر أساسي في المقارنة بين المنظمتين يتمثل في تاريخ ونفوذ إيياك، وسجل نجاحها، ليس فيما يتعلق بالصراع العربي/الإسرائيلي فحسب، بل وفي كافة قضايا الشرق الأوسط، بحيث أصبحت -من دون الوقوع في شرك المبالغة- المنظار الذي ترى من خلاله الإدارات الأميركية المتعاقبة مصالحها في المنطقة. وللتدليل على نفوذ وقوة إيباك، نشير إلى المقالة التي نشرها أستاذا العلوم السياسية، جون ميرشهايمر وستيفن والت، عن اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأميركية، ومن ثم توسعا فيها لتصدر بعد عام على شكل كتاب في 2007.

 

ومع أن المعلومات التي ذكرها ميرشهايمر ووالت ليست جديدة، ومعروفة لكل المتابعين والمحللين والعاملين في مجال السياسة الخارجية الأميركية، إلا أن الجدة تمثلت في أن المقالة كتبت من قبل اثنين من أكبر الأكاديميين المرموقين في مجال السياسة الخارجية الأميركية، من دون أن تكون لهما خلفية مرتبطة بشكل مباشر بالشرق الأوسط، وبالتالي فليس من السهل اتهامهما بالتحيز لطرف ضد آخر. 

 

ولعل أكثر ما أثار إيباك ومؤيديها أن المقالة تعرضت بشكل شامل لكافة أنشطة المنظمة، التي تتجاوز الصراع العربي/الإسرائيلي، إلى الإشارة إلى الدور الذي لعبه اللوبي الإسرائيلي في التحضير للحرب ضد العراق، من خلال التحالف الوثيق بين اللوبي والمحافظين الجدد، إضافة إلى التعرض للأساليب الملتوية والرخيصة التي يستخدمها هذا اللوبي، بما فيها كبت أي نقاش جاد حول السياسة الخارجية الأميركية بعيداً عن المصالح الإسرائيلية، وإخفات كافة الأصوات المناوئة للوبي الإسرائيلي، وذلك باللجوء إلى اتهام الخصوم بالعداء للسامية، وتأييد الإرهاب، وهذا ما حصل مع الكاتبين بالفعل. 

 

صعوبة التحول إلى لوبي

"
ستبقى إيباك بتاريخها وإمكاناتها التنظيمية، وعلاقاتها المتميزة مع الكونغرس والإدارة والحزبين الرئيسيين هي الأكثر فعالية على صعيد التأثير على القرار السياسي الخارجي
"

من هنا، فإن ظهور لوبي يهودي آخر متمايز عن إيباك أمر هام، خاصة فيما لو أثبت مصداقية في القضايا التي يطرحها. ومع ذلك فمن الصعوبة بمكان تصور أن تتحول جي ستريت إلى لوبي أكثر فعالية ونفوذاً من الإيباك، وذلك للاعتبارات التالية:

أولاً، ستبقى إيباك بتاريخها وإمكاناتها التنظيمية (أكثر من مائة ألف عضو)، والمالية (ميزانية سنوية تزيد عن خمسين مليون دولار)، وعلاقاتها المتميزة مع الكونغرس والإدارة والحزبين الرئيسيين واليمين المسيحي الصهيوني والمراكز البحثية والإعلام، ستبقى هي الأكثر فعالية -في المدى المنظور- على صعيد التأثير على القرار السياسي الخارجي.

 

ثانياً، لم تتضح بعد الرؤية التفصيلية لجي ستريت، وتمايزها الجوهري عن الإيباك. فعلى الرغم من الانطباع الأولي والمعلومات التي رشحت عن المنظمة، خاصة فيما يتعلق بتبنيها للسلام القائم على فكرة الدولتين وتأكيد وسطيتها، فهي في مؤتمرها الأول تلقت دعماً واضحاً، وتمثيلاً عالي المستوى من حزب كاديما، هذا على الرغم من أن المؤسسين يقدمون أنفسهم بأنهم أقرب إلى المعتدلين اليهود ومعسكر السلام وحتى اليسار اليهودي. 

 

فإذا كان الفارق بين إيباك وجي ستريت هو مثل الفارق بين الليكود وكاديما، فالعلاقة ستكون هناك أقرب للتكامل منها إلى التباين والاختلاف، على الأقل نظراً لأن مؤسسي كاديما منحدرون بأغلبيتهم من الليكود، وليس لهم تاريخ في دعم السلام الذي يعطي الفلسطينيين مطالب الحد الأدنى. 

 

ولعل من المهم عدم نسيان الخلفية السياسية التي أدت إلى تشكيل جي ستريت، وهي الفشل الذي منيت به الإدارة السابقة لجورج بوش، ومشروعها لتغيير الشرق الأوسط، وهو الفشل الذي ارتبط في أذهان الكثيرين بكارثة العراق. 

مشروع بوش هو من صياغة المحافظين الجدد القريبين جداً من اللوبي الإسرائيلي، وخاصة إيباك. وبذا، لا يمكن استبعاد تأثير التغيير في الرأي العام الأميركي ضد مشروع المحافظين الجدد على شعور بعض قادة الجالية اليهودية في الولايات المتحدة بضرورة إبعاد أنفسهم عن هذا المشروع، والاقتراب ثانية من الحركة التي أدت إلى انتخاب الرئيس أوباما، والتأكيد على محورية التمثيل اليهودي في الحزب الديمقراطي، ناهيك عن تبني خطاب أصبح هو المقبول دولياً في الحديث عن تسوية الصراع العربي/الإسرائيلي، وهو ما تنادي به جي ستريت.

 

"
النظام الأميركي المركب يسمح من الناحية النظرية بالتعددية والتباين والمنافسة، وهذا ما يفسر ظهور جي ستريت، لكن من الجنوح توقع أن يسمح هذا النظام بتشكيل لوبي عربي منافس للوبي الإسرائيلي
"

وأخيراً، وحتى لو افترضنا أن جي ستريت ستثبت نفسها كلوبي مؤيد للسلام "العادل" في الشرق الأوسط، وأبدت استعداداً للعمل مع العرب والمسلمين في الولايات المتحدة وخارجها، وصولاً إلى هذا الهدف، فإن مجموعة من العوامل الموضوعية تُعَقد عملية الاستفادة من الفرص التي يمكن أن توجدها حالة التباين هذه بين أجنحة اللوبي الإسرائيلي، ومنها: حالة الانقسام الفلسطيني التي وصلت أسوأ حالاتها بين حماس وعباس، والصراعات العربية المزمنة بين دول الاعتدال والممانعة، والحالة الإسلامية العاجزة عن اتخاذ أبسط الإجراءات لوقف حالة تهويد القدس الشريف، وتراجع النشاط العربي/الإسلامي في واشنطن للدفاع عن الحقوق الفلسطينية المشروعة.

 

لاشك أن النظام الأميركي المركب يسمح من الناحية النظرية بالتعددية والتباين والمنافسة، وهذا ما يفسر ظهور جي ستريت، لكن من الجنوح توقع أن يسمح هذا النظام بتشكيل لوبي عربي منافس للوبي الإسرائيلي، خاصة بعد أحداث سبتمبر/أيلول 2001، كما أن من السذاجة توقع قيام جي ستريت أو غيرها بالدفاع عن أي قضية -مهما كانت عادلة- إذا كان أصحابها متخاذلين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.