التعلم من التجارب الفلسطينية

التعلم من التجارب الفلسطينية

 

أثبتت التجربة الفلسطينية منذ ما سمّي برنامج النقاط العشر عام 1973/1974 مروراً بإعلان قيام الدولة الفلسطينية عام 1988، وانتهاء باتفاق أوسلو وتداعياته التفاوضية حتى اليوم، أنه لا جدوى من تقديم التنازلات الفلسطينية والعربية (آخرها مبادرة السلام العربية) في انتزاع شبر واحد من الأرض الفلسطينية، أو كسب تأييد الدول الكبرى -لا سيما أميركا وأوروبا- عبر التنازلات والمفاوضات.

فكل تنازل فلسطيني أو عربي كان يقابَل من قبل الكيان الصهيوني بالاستناد إليه لطلب المزيد بلا نهاية وبلا قاع، وكان يقابَل من الدول الكبرى -خصوصاً أميركا وأوروبا- بالترحيب واعتباره خطوة إيجابية ولكن غير كافية، كما فعل بوش وأوباما مع المبادرة العربية وكل تنازل فلسطيني.

وبهذا لم يُزَحزَح الانحياز إلى حد التماهي مع مواقف حكومات الكيان الصهيوني، ناهيك عن أن يؤدي إلى اندلاع التناقضات معها. بل كانت كل خطوة تراجع فلسطيني أو عربي تشجع على تراجع مواقف غربية معلنة. وكان آخرها تراجع إدارة أوباما عن شرطها المتواضع لوقف النمو الاستيطاني مؤقتاً مقابل تطبيع عربي وإطلاق للمفاوضات.

"
أصبحت أسطوانة كسب الرأي العام  مشروخة إلى حد الابتذال والفضيحة لتغطية ما قدّم من تنازلات فلسطينية وعربية
"

وبهذا أصبحت أسطوانة كسب "الرأي العام" (المقصود الدول الغربية) مشروخة إلى حد الابتذال والفضيحة لتغطية ما قدّم من تنازلات فلسطينية وعربية. فالذين حاولوا تسويغ تراجعاتهم بدعوى أن ذلك سيُحرج الكيان الصهيوني أو سيؤدي إلى كسب الحكومات الغربية أو سوف يفجر التناقضات بين الغرب والحكومات الصهيونية، عليهم أن يكفوا عن ترديد هذه الحجة على الأقل إن لم يخجلوا من شعبهم ومن أنفسهم، وذلك بعدما ثَبُتَت عبثية تلك الحجة منذ ثلاثينيات القرن الماضي إلى اتفاق أوسلو ومبادرة السلام العربية، وإلى مؤتمر أنابوليس ومفاوضاته الثنائية، وصولاً إلى الترحيب بالتغيير الذي يحمله أوباما وإدارته.

وفي المقابل أثبتت التجربة التاريخية الفلسطينية أن المقاومات والممانعات ومقاطعة المشروع الصهيوني وحصاره كانت قادرة على الحد من توسّعه وإحباط عدد من مشاريع التوطين وتصفية القضية الفلسطينية، وإن لم يكن بالإمكان القضاء على المشروع الصهيوني من حيث أتى.

بعض المنظرين اعتمدوا معيار عدم القدرة على تصفية الكيان الصهيوني ومنع قيام دولته أو توسّعها من خلال العدوان حجةً لمعارضة إستراتيجية المقاومة والممانعة ومقاطعة الكيان وحصاره، وهي حجة مغلوطة إن صدرت عن حسن نيّة، أو حجة مدغولة إن صدرت عن سوء نيّة، وذلك لأن موازين القوى العالمية والإقليمية والتجزئة العربية والهيمنة الغربية لم تكن لتسمح بالقضاء على المشروع الصهيوني.

"
المقاومات والممانعات والمقاطعة والمحاصرة للكيان الصهيوني كانت قادرة على وقف تمدّده وتعطيل عدد هام من مخططاته
"

ولكن المقاومات والممانعات والمقاطعة والمحاصرة للكيان الصهيوني كانت قادرة على وقف تمدّده وتعطيل عدد هام من مخططاته. وإلاّ لكانت فلسطين كلها مهوّدة بلا عربي واحد فيها، ولكان الوضع العربي قد تحوّل إلى فسيفساء من دويلات معادية يشلّ بعضها بعضاً وتسلم قيادها للصهيونية والصهينة، ولكان التوطين والوطن البديل مُنجَزيْن.

وهذا يفسّر سبب كل تلك الحملات التي تشنّ ضد المقاومة ونعتها بالإرهاب والعمل على تصفيتها بكل وسيلة. فلو لم تكن ذات أهمية وفاعلية لتُرِك أمرها للحل الأمني ولم يُجنّد العالم كله ضدها، ناهيك عن تجنيد من جُنِّدّ من أشقاء وأقلام عربية لحصارها والتشهير بها.

هذا على المستوى الميداني والمواجهات العملية.. أما على مستوى الرأي العام العالمي فقد أكدت التجربة أن المقاومة والتصدّي العسكري والسياسي والصمودي للعدوان كما حدث في معارك كثيرة وآخرها في حربيْ يوليو/تموز 2006 في لبنان و2008/2009 في قطاع غزة، أن كسب الرأي العام -بما فيه الغربي الشعبي- جاء عبر تلك المواجهات والتضحيات من جهة، وعبر انكشاف العدوان الصهيوني على صورة مرتكب جرائم حرب وإبادة ضد الإنسانية من جهة أخرى.

وبكلمة.. حتى على المستوى الرأي العام كانت إستراتيجية المقاومة والممانعة والانتفاضة الشعبية أشدّ فاعلية بما لا يُقاس إذا ما قورنت بإستراتيجية التفاوض والتنازلات. بل يمكن القول إن الإستراتيجية الثانية (إستراتيجية المفاوضات والتنازلات) أبعدت عن منظمة التحرير الفلسطينية أحرار العالم ممن أيدوها حتى نهاية سبعينيات القرن الماضي، وأفقدتها الكثير من هيبتها وصدقيتها حتى على مستوى الدول، وأطمعت فيها الدول الغربية لاستتباعها وفرض الشروط عليها ودفعها إلى المزيد من التنازلات لحساب الكيان الصهيوني.

إلى جانب كل ما تقدّم، أثبتت التجربة أن الكيان الصهيوني -ولا سيما قياداته الأشد تطرفاً مثل شارون وباراك- أكثر استعداداً للتراجع عن الأرض وتفكيك المستوطنات أمام المقاومة والانتفاضة، وبلا قيد أو شرط كما حدث في الانسحاب من جنوبي لبنان ومن قطاع غزة.

"
الانسحاب -خاصة من الأرض الفلسطينية- بلا قيد أو شرط حين توجيه ضغوط المقاومة والانتفاضة والرأي العام العالمي، أسهل على القيادات الصهيونية من اتفاق تفاوضي يتضمن اعترافاً بالانسحاب لأنه يعني اعترافاً رسمياً بالانسحاب من أرض إسرائيل
"

وهناك وثائق تقول إن غولدا مائير وموشي دايان كانا يعرضان الانسحاب إلى الخط الأخضر في حرب أكتوبر/تشرين (رمضان) 1973 إثر الاندفاعة الأولى لاقتحام خط بارليف والجولان لولا الإسناد الأميركي والجسر الجوي العسكري الأميركي، وشد أزرهما لعدم طلب ذلك الانسحاب، ناهيك عن الخلل الذي حلّ بقرار قيادة السادات فوراً بعد النصر العسكري الأول.

الذي يراد إبرازه هنا أن الانسحاب -خاصة من الأرض الفلسطينية- بلا قيد أو شرط حين توجيه ضغوط المقاومة والانتفاضة والرأي العام العالمي، أسهل على القيادات الصهيونية من اتفاق تفاوضي يتضمن اعترافاً بالانسحاب، لأنه في الحالة الأخيرة يعني اعترافاً رسمياً بالانسحاب من "أرض إسرائيل".

وهذا يفسّر سبب رفض شارون الدخول في مفاوضات مع السلطة الفلسطينية لترتيب الانسحاب من قطاع غزة، وقد أعطاه اسم "فك الارتباط"، وفي اتفاق أوسلو سمّي "إعادة انتشار" للقوات. وقد آثر شارون أن ينسحب ويفك المستوطنات بلا اتفاق تفاوضي كان سيحصل من خلاله على مكاسب، كما حصل حين ضغطت السلطة عبر الولايات المتحدة لعقد اتفاق المعابر، وكان في الأصل سيخليها بلا اتفاق.

ومن هنا جاء اتفاق أوسلو وما تلاه من مفاوضات لعرقلة انتفاضة ومقاومة كان بمقدورهما لو مضتا بقوة ونفس طويل وبدعم عربي وإسلامي وعالم ثالثي أن تفرضا دحراً للاحتلال عن الضفة الغربية وقطاع غزة بلا قيد أو شرط، وذلك حين تصبح التكلفة أمام الرأي العام المتعاطف مع انتفاضة الحجارة والمقاومة والصمود والمنقلب على الكيان الصهيوني -باعتباره احتلالاً عنصرياً ومرتكباً لجرائم الحرب- تكلفة عالية، كما عندما يصبح الحل الأمني غير ممكن، وتكون انتفاضة إثر انتفاضة ومقاومة إثر مقاومة في الطريق.

هذه المعادلة كان من شأنها أن تجرّ رأياً عاماً شعبياً عربياً وإسلامياً وعالمياً يحرج "أصدقاء" أو "حلفاء" أميركا، ويجعل السياسات الأميركية والغربية مرتبكة وتحت الإدانة، بدلاً من طريق المفاوضات الذي أنام الرأي العام، ودفع الموقف العربي الرسمي إلى طريق التنازلات والتطبيع، وجعل أميركا تكسب كل "الحسنات" من خلال رعايتها لعملية السلام والتهافت الرسمي على خطب ودّها، بينما هي تزيد من دعمها للكيان الصهيوني ومن أموالٍ للثروات العربية والإسلامية حصة كبيرة فيها.

"
المطلوب أن يعلن عباس استقالته مع اعتراف بالفشل والاعتذار للشعب الفلسطيني، ومن ثم تتشكل هيئة قيادية فلسطينية بديلة تتولى إعادة بناء منظمة التحرير وتنهي حالة السلطة المرتهنة لشروط الرباعية ولأموال الدول المانحة، والخاضعة لاتفاق أمني يقوده كيث دايتون وسلام فياض
"

ويمكن أن يضاف هنا أن طريق المفاوضات والتنازلات كان دائماً أرضاً تولِّد الاختلافات والانقسامات الفلسطينية، وتعمق الهوة بين النظام العربي والشعب كلما قدمت تنازلات رسمية عربية للكيان الصهيوني، أو حدث رضوخ وانقلاب على المقاومة ومحاصرتها مالياً وطعنها في الظهر سياسياً.

من هنا يمكن للشعب الفلسطيني ولفصائل المقاومة بعد الإعلان عن فشل إستراتيجية المفاوضات والتسوية كما عبّر عن ذلك محمود عباس بصورة ملتوية وغير مباشرة حين أعلن عدم ترشحه للانتخابات الرئاسية القادمة، أن يدخلوا في حوار جاد لإقامة وحدة وطنية على أساس إستراتيجية مقاومة وممانعة فلسطينية ومحاصرة عربية وإسلامية للكيان الصهيوني بحيث ينضم إليهم أحرار العالم ويوضع كل من أوباما ونتنياهو في الزاوية، وبهذا تنتهي حالة الانقسام ويصحّح اتجاه البوصلة.

ومن ثم لا يجوز أن يقتصر رد عباس على فشل خطه السياسي بأكمله على عدم الترشح للانتخابات وقد أجلها إلى أمد غير مسمّى، في حين يواصل عملياً مهمة رئيس السلطة ورئيس منظمة التحرير. وإنما المطلوب أن يعلن استقالته مع اعتراف بالفشل والاعتذار للشعب الفلسطيني، ومن ثم تتشكل هيئة قيادية فلسطينية بديلة تتولى إعادة بناء المنظمة وتنهي حالة السلطة المرتهنة لشروط الرباعية ولأموال الدول المانحة، والخاضعة لاتفاق أمني يقوده كيث دايتون وسلام فياض.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.