الحوار السوري الأميركي.. الواقع والعوائق والآفاق

طرحت إدارة الرئيس باراك أوباما مسألة الحوار مع سوريا، من ضمن حزمة توجهات عالمية تميزت بالانفتاح، وعلى صعيد أكثر من ملف عالمي، بيد أن ما يميز الملف السوري عن غيره من الملفات الأخرى، هو كثافة الجهد الدبلوماسي الأميركي المبذول والإجراءات العملياتية المتعددة والمتنوعة التي تم اتخاذها في إطاره، ناهيك عن مفتاحية هذا الملف ومركزيته بالنظر لاتصاله وارتباطه بملفات أكثر تعقيدًا تهم المصالح الأميركية في منطقة محورية بالنسبة لتلك المصالح. فما هي وقائع هذا الحوار وإلى أين سيصل؟
واقع الحوار
في إطار سياسية إعادة الحوار، التي تبنتها إدارة أوباما تجاه سوريا، قام نائب وزير الخارجية السورية فيصل مقداد بزيارة للولايات المتحدة، وصفت بأن مستواها هو الأعلى منذ سنوات بين البلدين، ورشح عن بعض المسؤولين الأميركيين أن المحادثات التي أجراها المقداد لم تحرز أي انفراجات، برغم إعلان الجانبين أن المحادثات كانت أكثر صراحة من اللقاءات السابقة، كما أكد المقداد أن الطرفين يختلفان حول عدد من القضايا.
وبحسب تأكيدات أميركية، فإن الجانب الأميركي حرص على تأكيد الخيوط العريضة في سياسة الإدارة الأميركية والمطالب المقدمة إلى سوريا، وأبرزها: ضبط الحدود مع العراق لتسهيل الانسحاب الأميركي في موعده.
" بالرغم من أن الحوار السوري الأميركي قد بدأ، فإن ذلك لم يعن حتى اللحظة أن تقدمًا فعليًّا جرى على الأرض، وما يجري الحديث عنه بين الجانبين حتى الآن هو التركيز على المصالح المشتركة " |
ومنذ إعلان الرئيس أوباما سياسة الحوار مع سوريا، وصلت إلى دمشق سبعة وفود أميركية، شملت زيارات متعددة قام بها كبير دبلوماسييها لشؤون الشرق الأوسط ومبعوثها للسلام (جورج ميتشل)، بالإضافة إلى كبار المسؤولين، وركزت النقاشات على تحقيق الاستقرار في العراق، وقد اختارت الإدارة الأميركية التركيز على الوضع في العراق لأنه قد افترض بأنه يشكل موضوعًا ذا "اهتمام مشترك"، وهو اعتقاد تم تأكيده على ما يبدو في يونيو/حزيران 2009 من قبل السفير السوري في واشنطن عماد مصطفى، الذي وصف العراق بأنه يشكل "فرصة قوية جدًّا للتعاون مع هذه الإدارة".
وبناءً على تعهد سوري بالتعاون مع القيادة المركزية أو الوسطى للقوات العسكرية الأميركية في المنطقة بشأن القضايا المتعلقة بأمن الحدود العراقية، تعهدت إدارة أوباما في يونيو/حزيران الماضي بإعادة سفيرها إلى دمشق، وهو منصب كان شاغرًا منذ عام 2005، كما خففت الإدارة الأميركية في يوليو/تموز القيد على عملية منح تراخيص التصدير المتعلقة بقطع غيار الطائرات المدنية في سوريا.
وعقب زيارة ميتشل لدمشق قامت سوريا، إلى جانب تركيا ومصر، بالضغط على حركة حماس للسماح لأعضاء فتح في غزة بالانضمام إلى مؤتمر الحركة، ونالت دمشق الفضل في تقديم بديل آخر ممثل في إعلان حماس الأخير أنها ستقبل وتحترم حدود عام 1967 بين إسرائيل والفلسطينيين مقابل اعتراف إسرائيل بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين، والسماح بإنشاء عاصمة الدولة في القدس.
وبالرغم من أن الحوار السوري الأميركي قد بدأ، كما أكد المقداد في تصريحه للصحافة الأميركية فإن ذلك لم يعن حتى اللحظة أن تقدمًا فعليًّا جرى على الأرض، وما يجري الحديث عنه بين الجانبين حتى الآن هو التركيز على "المصالح المشتركة"، في حوار تطالب سوريا بأن "يكون مبنيًّا على الاحترام المتبادل بعيدًا عن لغة الإملاء".
وفي تقدير مصادر سورية مطلعة أنه "لم يطرأ تغيير جذري على السياسة الأميركية في ظل إدارة أوباما، وما حصل هو تغيير في الوسائل فقط". وتضيف المصادر "أن إدارة أوباما تعيد النظر في السياسة الأميركية، بطرحها التغيير شعارًا، وهذا يتطلب بطبيعة الأمر حوارًا ومدّ جسور للتواصل، وهي بذلك تعود بالسياسة الأميركية إلى سالف عهدها في المناقشة والحوار"، لافتة إلى أن "ما تحقق حتى الآن هو بدايات جيدة لتحسين العلاقات، لكن على الأرض لم يتحقق شيء سوى قرار إعادة السفير الأميركي إلى دمشق"، إذ إن ثمة أجندة تطالب بها سوريا لم يلب منها شيء، كرفع العقوبات ورفع اسمها من لائحة الإرهاب، وتختم المصادر بالقول إن قرارًا من الطرفين اتخذ بالتركيز على مصالح مشتركة، وتأجيل القضايا الخلافية، وأن ما حصل هو "تغيير في المقاربة".
العوائق
– ميراث بوش
يؤكد مراقبو السياسة الأميركية، أن إدارة أوباما لن تستطيع التعامل بحرية كاملة في الموضوع السوري، لأنها لن تستطيع بسهولة أن تتخطى الإرث الذي خلفه تطبيق إدارة بوش لخيار عدم التعامل، الذي أدى إلى انقطاع التواصل الدبلوماسي على خط دمشق – واشنطن، إضافة لذلك فقد تركت إدارة بوش خلفها العديد من العقوبات الإضافية والقرارات الدولية التي من الصعب على إدارة أوباما تجاهلها ومن الصعب أيضًا عدم القيام بتنفيذها (وأقرب مثال في هذا الخصوص قيام إدارة أوباما بتجديد العقوبات التي فرضتها إدارة الرئيس بوش على سوريا ضمن قانون محاسبة سوريا).
ويوجد انطباع متشدد في أوساط المسؤولين الأميركيين بأن سوريا قد لعبت دورًا في قتل الأميركيين في العراق وقد شكل هذا الانطباع إرثًا من الصعب استئصاله، وقد عملت العناصر المتشددة في الإدارة الأميركية على عرقلة الانفتاح الأميركي على سوريا، وإن بطريقة مواربة، فقد أصدرت وزارة الخارجية الأميركية على سبيل المثال في هذا العام ثلاثة تقارير (تقرير حقوق الإنسان، وتقرير حول المتاجرة بالبشر، وتقرير حول الاتجار بالمخدرات) وقد صنفت التقارير الثلاثة سوريا في أسوأ التصنيفات.
– العامل الإسرائيلي
" إسرائيل بدأت فعلاً جهودًا لدى حلفائها في الساحة الأميركية، وفي بعض دول الشرق الأوسط لإقناع واشنطن بضرورة فرض شروط على دمشق مقابل إشراكها في عملية السلام " |
كشفت مصادر فلسطينية من داخل ما يسمى "الخط الأخضر"، أن طواقم خاصة في وزارة الخارجية الإسرائيلية أعدت مؤخرًا تقريرًا سريًّا يحذر من التطور في العلاقات بين دمشق وواشنطن في عهد الإدارة الأميركية الجديدة، وجاءت في هذا التقرير دعوة واضحة للقيادة الإسرائيلية إلى العمل من أجل التأثير على الموقف الأميركي الداعي إلى إشراك سوريا في العملية السلمية بدون أي شروط مسبقة تفرض على دمشق.
ونقلت صحيفة المنار المقدسية عن هذه المصادر أن إسرائيل بدأت فعلاً جهودًا لدى حلفائها في الساحة الأميركية، وفي بعض دول الشرق الأوسط لإقناع واشنطن بضرورة فرض شروط على دمشق مقابل إشراكها في عملية السلام، ومن بين هذه الشروط مطالبة السوريين بقطع علاقاتهم مع إيران وحزب الله والتأثير على حماس بالشكل الذي يخدم مصالح إسرائيل.
وكشفت هذه المصادر أن إسرائيل حاولت استغلال التفجيرات الأخيرة التي شهدتها المدن العراقية عبر توجيه الاتهامات إلى دمشق وتسريب تقارير إخبارية تحريضية تحمل سوريا مسؤولية إيواء بعض الشخصيات العراقية، وأشارت المصادر إلى أن إسرائيل ترى في عودة التفجيرات إلى العراق ضربة لإستراتيجية أوباما المتعلقة بتحقيق الاستقرار في المدن العراقية، وهذا من شأنه إشغال الولايات المتحدة وتراجع اهتمامها بعملية السلام في الشرق الأوسط، ووقف محاولات ممارسة ضغوط على إسرائيل.
– العامل الإيراني
إن الوصول إلى نتائج مجدية في الحوار السوري الأميركي، ينتظر مستقبل العلاقات الأميركية الإيرانية، باعتبار أن سوريا حسب الرأي الأميركي تشكل جزءًا من المشكلة الإيرانية، وتسير التوجهات الأميركية باتجاه لملمة عناصر الصورة الكاملة للشرق الأوسط، وهي عناصر لا تتوقف عند سوريا أو الحوار معها، ولكن تشمل اللاعبين المؤثرين الآخرين وفي مقدمتهم إيران، حيث يشكل العامل الإيراني عاملاً ضاغطًا على إدارة أوباما، وانطلاقًا من ذلك يلاحظ متابعو السياسة الأميركية وجود استعجال ما لدى إدارة أوباما في محاولة إيجاد مخرج أو صيغة للتعامل مع الوضع الإيراني، ودراسة كافة الخيارات الممكنة للتعامل. وفي هذا الإطار يتعامل بعض سياسيي واشنطن مع الحوار مع سوريا باعتباره أحد الخيارات المهمة لإضعاف إيران.
آفاق الحوار
دبلوماسيًّا، لا يتوقع قيام مبادرات أميركية مهمة أو خطوات كبيرة أو انفراجات حيال سوريا في المدى المنظور، وبالرغم من أن الحوار مع دمشق أصبح محسومًا، فإنه يسير ببطء. صحيح أن هناك رغبة لدى فريق كبير في إدارة أوباما بتسريع وتيرة الخطى صوب دمشق لأسباب بعضها يتعلق بإيران، وذلك لعزلها والتأثير على فعاليتها الشرق أوسطية، من خلال حرمانها من موقع سوريا الإستراتيجي الذي يشكل الصلة الأرضية مع حلفائها في لبنان وفلسطين، وهذه النظرية باتت أحد أهم مشغلات التفكير الإستراتيجي في واشنطن.
وفي هذا الإطار يرى قسم من الإستراتيجيين الأميركيين، ذوي التأثير المهم في الإدارة الحالية، أن سوريا تمثل الدولة المحور في دعم وتعزيز التأثير الإيراني في لبنان والأراضي الفلسطينية، وإحدى الآليات التي يطرحها هؤلاء تشجيع ودعم المفاوضات السورية الإسرائيلية لإبعاد سوريا عن إيران، الأمر الذي سينتج عنه تهديد الوضع الإيراني في المنطقة، وما يحفز على ذلك الرغبة التي يبديها الرئيس بشار الأسد في الانفتاح على الغرب والدول العربية المعتدلة عبر التسوية السلمية مع إسرائيل، لكن هل تكفي الرغبة وحدها لإنجاز التقارب مع أميركا ووصول الحوار إلى أفق أفضل؟ من الواضح أن الإدارة الأميركية تريد أكثر من الرغبة التي يجب أن ترافقها أمور عدة، أبرزها أن يواكب التسوية السلمية، الصعبة أساسًا، اصطفاف سوري واضح مع أميركا وإسرائيل والغرب عمومًا في موقفهم الموحد من إيران الإسلامية الحليف الإستراتيجي لسوريا.
" الحوار السوري الأميركي انطلق وتجاوز حتى اللحظة محطات واختبارات عدة، لكن إلى أين سيصل؟ وهل يمكن تصور تقدم حوار سوري أميركي في ظل انزياح إسرائيلي كامل باتجاه التشدد؟ " |
وتنبع هذه الحقيقة من نظرة أميركا نفسها لموقفها في الحوار، فهي لا تراه من زاوية خسرانها للمواجهة في الشرق الأوسط، وبالتالي بات يتطلب منها تقديم تنازلات لأطراف معينة، بل يعتقد فريق مهم في إدارة أوباما، أن على دمشق أن تقدم تنازلات معينة ليصار إلى انخراطها وقبولها في المجتمع الدولي.
بدورها سوريا في مرحلة ترقب وتجميع أوراق في انتظار الوجهة التي ستسلكها المنطقة في المرحلة المقبلة، وإذا كانت دمشق تنظر بكلتا عينيها إلى البيت الأبيض ومستقبل العلاقات السورية الأميركية، فإنها تمسك بكلتا يديها أوراق القوى التي جمعتها والتي أتاحت لها فرصة الخروج من شرنقة الحصار الذي ضرب عليها بعد احتلال العراق واغتيال الحريري إلى الانفتاح على الإقليم وبعض المراكز الدولية، أي بطريقة أخرى الاستمرار في لعبة الجمع بين الاعتدال والممانعة.
الحوار السوري الأميركي انطلق، وتلك حقيقة، وتجاوز حتى هذه اللحظة محطات واختبارات عدة، لكن إلى أين سيصل؟ وهل يمكن تصور تقدم حوار سوري أميركي في ظل انزياح إسرائيلي كامل باتجاه التشدد، وتاليًّا تعطيل مسارات السلام، وما يعنيه ذلك من أثر على العلاقات السورية الأميركية؟ لاشك أن المشهد حتى اللحظة لا يزال يغرق في تعقيدات كثيرة بانتظار وضوح المواقف والمواقع.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.