هل تتجاوز الأزمة في موريتانيا عقدة العسكر؟

هل تتجاوز الأزمة السياسية في موريتانيا عقدة العسكر؟



أحمد ولد هارون ولد الشيخ سيديا

– الخطر القادم من الأعماق
– عقدة العسكر والسياسة

من الأشياء القليلة التي لم يأت عليها السجال السياسي -حتى وقت كتابة هذا المقال- الدعوة الصريحة إلى مراجعة شاملة للإصلاح السياسي الأخير أو تصحيحٍ جذري لبعض بداياته.

"
التجربة الديمقراطية التي أصبحت عنوانا موحَّدا للمشروع السياسي المركزي في موريتانيا، توفر لديها من المؤشرات وتتابع لها من النكسات السياسية والاقتصادية والأمنية والأخلاقية ما يشير إلى وجود خلل جوهري في بنيانها وضعف عام في أدائها
"

وما ذاك إلا لشك الجميع في حماس الشعب وقدرة الدولة والنخب على مجاراة أي تحديث سياسي ذي بال في هذا الظرف الذي أنهكت فيه الأزمة الاقتصادية والغذائية طاقات البلد.

لكن التجربة الديمقراطية التي أصبحت عنوانا موحَّدا للمشروع السياسي المركزي في موريتانيا، توفر لديها من المؤشرات وتتابع لها من النكسات السياسية والاقتصادية والأمنية والأخلاقية ما يشير إلى وجود خلل جوهري في بنيانها وضعف عام في أدائها.

فالظواهر العامة توحي بأن الأزمة السياسية الحالية لن تقف عند موضوع تعيين حكومة يحيى ولد أحمد الواقف ثم استقالتها وتعديلها تحت ضغط تمرد برلماني خارج من صميم الأغلبية.

بل إن وراءها من الصراعات والارتباك السياسي داخل المؤسسات القيادية ما يدل على وجود فراغ سياسي وثغرات موضوعية وشلل في الأعماق.

فهل سيؤول السجال السياسي الحالي إلى صراع طويل ومعقد بين العسكر المانحين والمدنيين المخلفين أم سينتهي بتغلب سريع وحاسم لإحدى الطائفتين؟

وهل سيؤول الأمر إلى إبرام صفقات سياسية تواطئية وحل ترقيعي مؤقت، أم أن مراجعة سياسية كبرى وإجماعا وطنيا آخر أكثر نضجا أصبح يلوح في الأفق؟


الخطر القادم من الأعماق
لقد أصبح في التجربة الديمقراطية من الضعف والعقم والفوضى ما يشكل خطرا حقيقيا وتهديدا وجوديا على حياة "موريتانيا السياسية" إذا لم يُمسَك بعنانها ويعاد توجيهها.

فعندما تضعف الدولة ونظامها المركزي وتنتزع الهيبة من كل قائم فيها وقاعد، لن تثار مسألتا الشرعية والوطنية كثيرا، ولن تكون الأمة عرضة للتحدي الداخلي من طرف الانتهازيين والغاغة وأشرار اللصوص فحسب، بل إن أصغر دولة من الدول المجاورة وغير المجاورة، ستتوغل فيها سياسيا واقتصاديا وأمنيا.

وفي ظل النشاط المتزايد لما يشبه "مليشيا سياسية" (إذا جاز الوصف)، أصبح بمقدور كل ذي مال أو نفوذ أن يحرك الساحة السياسية برمتها متى وأنى شاء، وأن يوجهها بسرعة فائقة عن طريق سلسلة من التجمعات والانشقاقات الخاطفة التي أصبحت من السهولة بمكان في ظل الغياب الملاحظ لهيئات عليا للرعاية السياسية.

فماذا لو استفحلت "رؤوس الأموال المتسيسة" أو تدفقت أموال أجنبية ضخمة هادفة إلى تمويل وتجنيد شرذمة من الساسة والمنتخبين والإعلاميين طموحا في تغيير مجرى السياسة أو تحقيق مآرب خاصة قد يبلغ أثرها على الدولة حد التدمير؟ وماذا لو امتد نشاط هذه "المليشيا السياسية" إلى الميدان المسلح؟

إن الديمقراطية لن تكون مأمونة ومستقيمة ومنتجة إلا تحت رعاية عليا وحصانة متينة.

ثم إن ظاهرة "المليشيا السياسية" هذه -وهي ذات خطر بالغ على الاستقرار والإنتاجية السياسية- ناتجة في المقام الأول عن عجز الطبقة الحزبية التي ما كان للإصلاح السياسي أن يُخاض بها دون العمل على تعديل هياكلها وإطارها القانوني والبشري.

وتلك زلة من زلات الإصلاح السياسي الأخير. أنْ اعتمد في التشاور والإجماع والتحضير على نفس الكيانات الحزبية المنهكة والمتشكلة أصلا على قياس ومعايير ما كان من ديمقراطية أيام الرئيس السابق معاوية ولد سيدي أحمد الطايع.

لقد انعكس هذا الضعف الحزبي في مرحلة أولى على انتخاب رئيس جمهورية مستقل وأغلبية برلمانية مستقلة وتعيين وزير أول مستقل في وقت زادت فيه الأحزاب المرخص لها على الخمسين، ثم انعكس مؤخرا على سحب المليشيا السياسية البساط والمبادرة من تحت أقدام هذه الأحزاب. فعلى من نعول لقيادة المشروع السياسي المركزي؟


"
رغم إسقاط العسكر الموريتاني لمشروع سياسي ما زالت موريتانيا تباهي به إخوانها العرب والأفارقة وتسوّقه في مشارق الأرض ومغاربها، ورغم تعاون قادة العسكر مع نشطاء سياسيين ومرشحين مدنيين، فإن هذا التعاون والتعاطي لم يجد حتى الآن طريقه إلى الإنتاجية والاستمرار
"

عقدة العسكر والسياسة
نتيجة لما خلفه نظام الحزب الواحد من شمولية سياسية وما تركته الأحكام العسكرية من فساد إداري، تولدت لدى الذهن السياسي الموريتاني ونمت أنماط متنوعة من "هيستيريا الديمقراطية" و"يوتوبيا التغيير"، مما جعل المطالب الوطنية انفعالية في معظمها لا فعلية، تعي وتفكر وفق أولويات وهموم معيارية وسياقات أجنبية.

فموريتانيا السياسية ما زالت حتى الآن عاجزة عن التغلب على "عقدة العسكر والسياسة"، التي تشكل عائقا حقيقيا أمام وضع نظام سياسي مستقر ومنظومة دستورية أكثر واقعية وتجسيدا لموازين القوى الوطنية القليلة في البلد.

فعلى الرغم من إسقاط العسكر الموريتاني لمشروع سياسي ما زالت موريتانيا تُباهي به إخوانها العرب والأفارقة وتسوّقه في مشارق الأرض ومغاربها، وعلى الرغم من تعاون قادة العسكر مع نشطاء سياسيين ومرشحين مدنيين، فإن هذا التعاون والتعاطي لم يجد حتى الآن طريقه إلى الإنتاجية والاستمرار.

ولذلك ثلاثة أسباب رئيسية:
1- تفويت المؤسسة العسكرية فرصة الفترة الانتقالية لتدعم وجودها السياسي بترسانة قانونية على غرار ديمقراطيات أخرى أقوى وأعرق.

2- عدم إخراج المؤسسة العسكرية لمشروع سياسي واضح أو تبنيها له منذ تخليها عن تبني المشروع الديمقراطي الأخير ومتابعته.

3- ممارسة المؤسسة العسكرية للسياسة من وراء ستار دون أن تنمّي من أدواتها السياسية المنهجية، ودون أن تعمل على خلق رموز وحلفاء مدنيين خاصين بها ومحسوبين عليها.

لعل من اللافت للانتباه في هذه الأزمة السياسية المفتوحة، اهتمام الذهن السياسي الموريتاني المتزايد بمراكز القوة والفاعلية داخل جهاز الدولة، بعد عقود من التركيز على هموم الديمقراطية وحقوق الإنسان وأسئلة الشرعية.

فقد بدأت تتسرب من العقل السياسي الموريتاني ذي الثقافة الشفوية المحض، حركات شفوية جديدة تجمع فيها خاصة من المثقفين وعامة من الناس على ضرورة خلق وتأصيل خطاب سياسي استقطابي منتج وخال من التعمية والحواجز النفسية.

فلا تكاد منذ وقت تسأل مثقفا أو طالبا أو أحدا من عامة الناس عن المعاناة الحقيقية للدولة إلا وألفيته فاقد البوصلة مملوءا من الهواجس والقلاقل.

– أزمة الرعاية السياسية والتحكيم والربط بين الفترات السابقة واللاحقة، وافتقار جهاز الدولة إلى شيء من القوة والمركزية.

– أزمة الأداء الحزبي والتفعيل السياسي وافتقار السياسة إلى مركز ثقل جديد ومشروع سياسي حقيقي ومصنَّف، يجعل من تأييده أو معارضته عملا سياسيا ذا معنى، خاصة مع تضخم في عدد الكيانات السياسية العاملة وقلة في عدتها.

– حركة تشكيك عارمة ومعقدة في إنتاجية موريتانيا السياسية وقدرتها على التحرك والخروج من حلقة الجمود بنفس البنية والعناصر المذكورة.

أما التركيز الملاحظ لسدنة السياسة في البلاد على عجز القيادة وضعفها بدل التركيز المعهود لدى هؤلاء على انتقاد شمولية الحكام واستبدادهم، ففيه نوع من الالتماس اللاشعوري أو الشعوري لإشراك جهات وطنية أشد صلابة وأكثر فاعلية في قصة الحكم وأمور السياسة؟ وهل من جهة في البلاد أقرب إلى هذه الصفات وتلك المعايير من العسكر؟

لكن، هل توجد في موريتانيا مؤسسة عسكرية منظمة وذات رؤية سياسية وطنية واضحة؟ وإن وجدت مؤسسة على تلك المقاييس، هل ستكون على استعداد كامل للعب دور سياسي مقنن في إطار نظام دستوري ديمقراطي؟

هل لدى الطبقات السياسية المدنية من هيئات منظمة ومتماسكة كفيلة بصياغة وتنفيذ عقد سياسي متوازن مع المؤسسة العسكرية؟ وهل سيتجاوز الساسة المدنيون عقدة العسكر؟
__________________
كاتب موريتاني

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان