من أجل فهم تاريخي للحداثة

ترتبط كتابة هذا المقال بشكل عام بالسجال القديم الجديد حول مسألة الفكر الحديث وموقع الثقافة العربية الإسلامية فيه. أما السبب المباشر الذي وضع أطر هذه المساهمة فهو المقال الذي نشر مؤخرا على موقع الجزيرة نت حول ما سماه كاتبه عبد الوهاب المسيري بـ"الحداثة الداروينية".
ومما زاد في الإصرار على هذا الرد ما ورد من تعليقات للقراء تعكس في أغلبها سوء فهم لهذه المسائل إن لم نقل جهلا مفرطا وخطيرا بأسئلة مصيرية لها دورها في تحديد ملامح الغد الفكري في العالم العربي وفي الفضاء الإسلامي.
إنه جهل بالآخر وبتاريخه مبني في نفس الوقت على جهل بالذات وبتاريخها (العربي الإسلامي) الثري. لقد أصبح من المعتاد اليوم أن نعرف الغرب من خلال ربطه على سبيل الحصر بالنزعة العقلانية وبالمادية، وفي هذا تجن فاضح على الذكاء العربي الإسلامي الذي تبلور في سياق تاريخ معقد.
يعج الفضاء الإعلامي العربي -على محدوديته- بتعريفات للغرب ولحداثته أقل ما يقال فيها إنها لا تنبني على أي معرفة حقيقية بهذا الموضوع بالإضافة إلى ما يشوبها من خلط بين مفاهيم العلم والتاريخ والغرب.
بل إن أغلبها يعد مجرد صدى لأفكار عامة شديدة السطحية يحملها الفاعلون الاجتماعيون العاديون وتعطى لها قيمة مضافة فقط عن طريق استعمال خطاب يحيل من خلال، مفرداته لا مضمونه، على الفضاء المعرفي والأكاديمي.
" الفضاء الإعلامي العربي يعج على محدوديته بتعريفات للغرب ولحداثته أقل ما يقال فيها إنها لا تنبني على أي معرفة حقيقية بهذا الموضوع بالإضافة إلى ما يشوبها من خلط بين مفاهيم العلم والتاريخ والغرب " |
الخطأ مزدوج هنا. أولا من خلال عدم اعتبار الحداثة حالة تاريخية عامة تهم مجمل المجتمع الإنساني وخاصة تلك الشعوب التي ساهمت أكثر في بلورتها. ثم ثانيا من خلال عدم اعتبارها حالة من التنوع ومن عدم التجانس.
فعادة ما يتم ربط الحداثة بمعطيين: الغرب ثم النزعة المادية، مع إعطاء فهم بسيط حد السذاجة لكليهما. من ذلك مثلا القول بأن الحضارة الغربية تأسست على فكرة "أن العالم في جوهره مادة وأن ما يحكمها هو قانون الحركة المادية، وأن ما هو غير مادي ليس بجوهري".
ويذهب أصحاب هذا الرأي بعيدا عند القول بأن "الحداثة الغربية هي استخدام العقل والعلم والتكنولوجيا خارج أي نطاق إنساني أو أخلاقي" مما ينفي أي اعتبار للمعايير الإنسانية والأخلاقية والدينية ويعطيها بعدا داروينيا حيوانيا. وهذا قول خاطئ يفنده واقع وتاريخ الشعوب في الغرب كما تفنده النظرة المتفحصة لتاريخ العلوم.
من وجهة نظر معرفية، يسقط أصحاب هذه الآراء في فخ حصر مفهوم المادة في بعدها اللغوي العربي السائد. فهي إما المادة في مفهومها الفيزيائي المباشر أو أنها، في حالة شديدة الجهل، مجرد المال. والحال أن المادة في بعدها الفلسفي هي صنف من الوجود المتعارض مع الوجود المجرد (abstrait) مثل الوجود العقائدي والميثولوجي.
والغاية الأساسية من خلال هذا التحديد الفلسفي هو تحديد الأطر والحدود التي تتبلور حولها المعرفة الإنسانية. ذلك أن الحقائق المجردة مطلقة ولا متناهية كما أن حدها النهائي الفوق إنساني مسلم به. ومن هذا المنطلق تكون النزعة المادية موقفا معرفيا واقعيا يحدد مواضيعه من خلال القدرة على تأكيد وجودها التجريبي الإجرائي لا الافتراضي فقط.
من هذا المنطلق توسع مجال العلم بفتح فضاءات جديدة له كانت المعرفة المطلقة الكلاسيكية قد أقفلت أبوابها. فلم تقتصر المعرفة العقلانية على المظاهر الفيزيائية المرئية بل تجاوزتها لتشمل المجال النفسي من خلال علم النفس وحتى الدين والمعتقدات والأخلاق من خلال علم اجتماع الأديان والأنثربولوجيا الاجتماعية.
إن الفارق الأساسي بين المعرفة المطلقة التي تحدد نتائجها مسبقا، والمعرفة العقلانية العلمية هو من حيث المنهج أساسا. وهذا ما يعطي للمادية كنهها باعتبارها منهجا معرفيا وموقفا فلسفيا عقلانيا محايدا لا باعتبارها طريقة للعيش ولا هوية ثقافية لحضارة مقابل أخرى. لا بد حسب رأيي من التأكيد على خاصيتين أسستا لشرعية العلوم الحديثة التي تسمى بالمادية.
وتتمثل في عنصر المحايدة ثم عنصر الوحدة. فالعلم في بعده الإبستيمولوجي محايد ويرتقي فوق الاختلافات الثقافية والعرقية، ومن هنا يكتسب خاصيته الثانية أي وحدته في مختلف السياقات الحضارية والتاريخية.
توغل النظرة التبسيطية للغرب ولما يزعم أنه حداثته، في قراءتها المغلوطة عن طريق نفي البعد القيمي. إذ اعتبر "تقديس المادة" مؤسسا لنفي كل القيم وكل الأخلاق من القاموس المعرفي والفلسفي الغربي.
وهذا خطأ في حق التاريخ أكثر منه خطأ في حق الغرب بالإضافة إلى ما ينم عنه من خلط بين العلم كممارسة معرفية والعلم كممارسة اقتصادية أو سياسية وأيديولوجية.
" لم ينف الفكر الحديث القيم ولا المعايير والأخلاق بل إنه أعطاها بعدها البشري الواقعي والإجرائي الذي مكنها من مواكبة تطور وتعقد الإطار الاجتماعي الإنساني " |
فلا بد من التمييز بين العلم والأيديولوجيا العلمية كما حال الفرق بين الدين والأيديويلوجيا الدينية. لم ينف الفكر الحديث القيم ولا المعايير والأخلاق بل أنه أعطاها بعدها البشري الواقعي والإجرائي الذي مكنها من مواكبة تطور وتعقد الإطار الاجتماعي الإنساني.
ففلسفة العلوم مجال معرفي فلسفي يحاول أن يؤسس أطرا أخلاقية للممارسة العلمية قوامها الإنسان كقيمة مطلقة.
ومن بين أهم رموز هذا التوجه كما هو معروف غاستون باشلار. لا ننسى كذلك ما قام به الفيلسوف نتشه من نقد للحداثة الغربية وللنزعة العلماوية الغربية. كل هذه المجالات أصبحت معروفة الآن ونقدها الحالي كما عليه الحال في الثقافة العربية عودة إلى الوراء.
فنقد نظرية داروين والداروينية كان قد تم منذ عهود في صلب "الثقافة المادية الغربية" بالاعتماد على علم الوراثة وكذلك على علم النفس وعلم الاجتماع.
لا بد أن نذكر على الصعيد التاريخي بإنجازات هذه الحضارة على مستوى التأكيد على بعض القيم التي أصبحت متداولة ومطالبا بها حتى في فضاء الثقافة الإسلامية. فلا أحد ينكر دور الفضاء الحضاري الغربي في بلورة مفاهيم مثل حقوق الإنسان والحريات والديمقراطية ومفهوم الجريمة في حق الإنسانية.
كلها أدلة تنفي فكرة انعدام البعد القيمي للحداثة. وهذا ليس دفاعا عن الغرب وعن قيمه، بل هو دفاع عن التاريخ وعن التجربة الإنسانية، لأن الحداثة ليست فقط غربية بل هي حصيلة لتراكم التجربة الإنسانية كما سنرى ذلك لاحقا.
لكن علينا الإقرار في نفس الوقت ومن نفس هذا المنطلق المدافع عن التاريخ أن نشير إلى التجاوزات والجرائم التي ارتكبت في حق الإنسان باسم العلم أحيانا وباسم الحضارة والحرية أحيانا أخرى. إن تاريخ الاستعمار، الكلاسيكي منه والحديث، شاهد على ذلك ونحن لا تنقصنا الأدلة في العالم العربي (فلسطين والعراق).
بالإضافة إلى هذه الأبعاد المعرفية والفلسفية، نقف، من خلال ملاحظة الواقع الاجتماعي والحياتي العام في المجتمعات الغربية، على عدم دقة وصحة ما يقال من انعدام القيم والأخلاق فيها. فالمجتمع الأميركي مثلا يعد مرجعا من حيث تغلغل الفكر الديني الذي وصل حد هرم السلطة خلال فترة حكم جورج بوش.
لا أحد يمكنه كذلك نفي العودة القوية للكنسية في الحياة العامة في بولندا. كما أن النقاش المحتدم حول الإجهاض ودور الفكر الديني فيه دليل واضح على استمرارية فاعلية الأنماط الفكرية الماقبل حداثية في صلب حداثة اليوم.
" العرب وثقافتهم يمثلون جزءا من الحضارة الشرقية الكبرى التي نسميها اليوم جزافا الحضارة الغربية, وهي حضارة تأسست فكريا على عنصري الدين، وخاصة الديانات السماوية، ثم الفلسفة " |
أما الأساس الثاني للنقد السطحي والمغلوط للحداثة فيعتمد على الفصل بين فضائي الغرب والعالم الإسلامي المتعارضين من حيث التركيبة الحضارية. وهذا قول خاطئ بطبيعة الحال لأن الحضارة ليست معطى مطلقا وأبديا بل هي نتاج للتاريخ بما يتضمنه من اختلاط ومن تنوع ومن تبادل بين الشعوب.
وهو قول مغلوط كذلك لأنه يحمل في طياته تجنيا فاضحا على دور الثقافات الأخرى ومنها خاصة الثقافة العربية الإسلامية. إذ لا يعي أصحاب هذا التفكير المنطوي على ذاته أنهم بربطهم العلم والمعرفة العقلانية بالغرب فهم يرددون ما كان يروجه الفكر الاستعماري خلال القرن التاسع عشر وما تروجه اليوم الأحزاب الأوروبية اليمينية والعنصرية.
من هذا المنطلق فإن النظرة الموصومة بذاتية (subjectivité) مفرطة تؤدي في نهاية الأمر وبشكل عكسي إلى نفي هذه الذات. لقد غاب عن ذهن أصحاب النقد المستعجل أن ما نسميه اليوم بالحداثة الغربية هي، من وجهة نظر تاريخية، باكورة تراكم التجربة الإنسانية في مختلف بقاع الأرض ساهمت في بلورتها وبشكل متفاوت شعوب متعددة ولو أن المجهود الأكبر تم حول البحر الأبيض المتوسط وضم مختلف الشعوب التي ارتبطت به (من الفراعنة والفينيقيين والرومان والعرب وصولا إلى أوروبا اليوم).
فالعرب وثقافتهم يمثلون جزءا من هذه الحضارة الشرقية الكبرى التي نسميها اليوم جزافا الحضارة الغربية. وهي حضارة تأسست فكريا على عنصري الدين، وخاصة الديانات السماوية، ثم الفلسفة.
وهي بذلك تختلف عن الحضارة الصينية التي تمحورت حول مفهوم الحكمة. إن حصر العقلانية والإنسانية في الغرب الحالي يحجب ثراء الثقافة العربية الإسلامية كما تؤكده الأبحاث التاريخية.
لقد كان ابن خلدون سباقا عندما أسس معرفيا للبعد الاجتماعي للإنسان، وحين بلور مفهوم العصبية لتفسير أحوال الممالك وتطورها. لقد أسس نظريته على أساس التطور والتحول وخلص إلى الدور الفاعل للعصبية في تحريك الصراع بين حالتي الاجتماع البدوي والحضري.
نجد في هذه المنظومة الخلدونية مبادئ ألحقت من طرف البعض إلى الفكر الغربي حصرا، مثل مبدأ الصراع والتطور والتحول ودور البعد الاجتماعي في ذلك.
ألم يكن ابن خلدون ماديا حين فسر اختلاف وضع شعوب بلاد السودان بدور المناخ ونمط العيش الذي يفرز؟ لقد تم ذلك قبل الداروينية كما نعلم. وكان قد سبق ابن خلدون رواد المنزع العقلي والفلسفي مثل الجاحظ وإخوان الصفا والتوحيدي. ألم يقل المعري كذب الكهان لا إمام سوى العقل؟
نتلمس هذا البعد البشري والعقلاني في مجال آخر يقترب مما نسميه اليوم بحقوق الإنسان. مثالنا على ذلك ما ضمنه القاضي أبو يوسف، تلميذ الإمام أبي حنيفة، في كتابه الموجه للخليفة هارون الرشيد "كتاب الخراج" من حث على احترام الأسرى وضرورة رعايتهم وعدم قتلهم إن كانوا جرحى.
لقد كانت توصياته أمرا مستحدثا في السياق التاريخي لذلك العصر لما شملته من اعتبار للكرامة الإنسانية لذاتها وليس لما تحمله من اعتقاد. لقد أعاد التأكيد ذلك عند نصح الخليفة بعدم التسرع في تطبيق الحدود لما فيه من معاناة جسدية للإنسان.
ربما ذهبنا أبعد من ذلك لنقتفي آثار هذه العقلانية والبراغماتية السياسية من خلال الفترة النبوية ذاتها. إذ يسود الاعتقاد اليوم بأن لفظ الأمة مرتبط حصرا بمحتواها الإسلامي، أي أمة الإسلام. وهذا أمر خاطئ تفنده المصادر الإسلامية نفسها.
" لا بد للفكر العربي الإسلامي الحالي من تجاوز علاقته الاحتقانية بذاته وبالآخر، ذلك أن هذا الآخر الغربي بحداثته هو في الواقع امتداد تاريخي للأنا " |
فنحن نقرأ في سيرة ابن إسحاق بعض ما تضمنه كتاب الحلف بين الأنصار والمهاجرين "… وإن اليهود ينفقون مع المسلمين ما داموا محاربين، وإن يهود بني عوف أمٌّة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم…".
فاللحمة السياسية المكونة للمجتمع المديني الأول، وهي الأمة، لم تكن مؤسسة على مبدأ ديني بل على أساس سياسي محايد يذكر إلى حد كبير بمفهوم المواطنة الحالي.
للأسف، وعوض الاعتماد على هذا المخزون للمساهمة في إبداع الحداثة الإنسانية الحالية، فإن القراءة الانتقائية لكل هذا التراث جعلت من ثرائه هباءً منثورا.
لا بد للفكر العربي الإسلامي الحالي من تجاوز علاقته الاحتقانية بذاته وبالآخر، ذلك أن هذا الآخر الغربي بحداثته هو في الواقع امتداد تاريخي للأنا.
ومن المهم اليوم أن نعرِّف هذه الذات لا في سياق اختلافها المطلق مع الآخر بل في سياق التواصل معه. لأن ما يبرز لنا اليوم على أنه حداثة غربية هو في الواقع نتاج لتراكم التجربة الإنسانية، لكن المستفيد الأول من هذا الذكاء الإنساني اليوم والمتحكم فيه هو بالفعل الغرب.
لهذا أقول إن السؤال المصيري الذي يجب أن يطرح هو كيف نجد مكاننا الطبيعي ضمن فضاء الذكاء الإنساني الحديث وليس كيف نؤسس فضاءً حداثيا خاصا بنا.
ـــــــــــ
كاتب تونسي
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.