اللغة العربية.. إعاقات متعددة لإستراتيجيات متناغمة

اللغة العربية.. إعاقات متعددة لإستراتيجيات متناغمة



رشيد بوزيان

يكاد يجمع الكل على أن ما يعيشه الإنسان العربي عموما من إعاقات لغوية وفكرية وإبداعية كان نتيجة حتمية لتناغم والتقاء مصالح القوى الاستعمارية السابقة ووكلائها، إذ خلفت خطط المستعمر "ثقوب أوزون" في الوضع اللغوي العربي العام بما يسمح بالاستئصال الثقافي واللغوي للشعوب المستعمرة، وتكريس التبعية اللغوية والثقافية والاقتصادية والسياسية، وبما يخدم الأنظمة الرسمية المستبدة التي اختارت أن تكون ذيولا تابعة لمشاريع المستعمر في المنطقة.

"
اعتقاد النخب المتسلطة التي آل إليها رسم السياسات التعليمية ووضع الخطط التربوية أن التدخل في سيرها الطبيعي لا يعدو أن يكون إجراء بسيطا لا ينطوي على مخاطر نابع من أنهم "وجدوا أنفسهم" في سياق طُلب منهم فيه أن يكونوا في خدمة المشاريع السياسية الدولية الكبرى
"

فالمشهد اللغوي العام في بلدان العالم العربي يتميز بتنوع هائل في العناصر والمكونات والمستويات والطبائع والخصائص ذات الأبعاد اللهجية والإثنية والثقافية، وهو تنوع يعكس طبيعة الأشياء في الظاهرة اللغوية، بل إن هذا التنوع مكون من مكونات الطبيعة اللغوية وسنن الفطرة الخلقية التي تنظم عمل هذه الطبيعة وليس مكونا من مكونات الثقافة التي هي أمر طارئ على الطبيعة اللغوية في فطرتها الأولى.

وتمثل اللغة العربية علامة بارزة في فسيفساء هذا المشهد اللغوي الغني والمتنوع، فقد كتب لها بسبب البعد الديني الذي قدِّر أن ترتبط به أن تحتل مكانة خاصة، مكنتها من صنع محيط حضاري متميز، ومن حفظ التوازنات الاجتماعية والسياسية واللغوية والثقافية الأساسية في هذا المحيط قرونا متصلة.

وبفضل هذا الموقع المتميز، تحكمت اللغة العربية في زمام المبادرة في ما يتعلق بتثبيت حدود المحيط الحضاري الذي أنشأته وفي تقوية نظام المناعة الثقافي واللغوي ضد الأجنبي، مما جعلها مستهدفة من قبل القوى الراغبة في تغيير الخرائط اللغوية والثقافية للمنطقة، وفي رسم حدود جديدة في وعي شعوب هذه المنطقة ونخبها.

حدود بين لغة العالم القديم (العربية) لغة الدين والحضارة والولاء الثقافي العام المشترك بين هذه الشعوب وشعوب أخرى شاءت لها المقادير أن يمتد سلطانها الجغرافي إلى أقاصي الجهة الشرقية من كوكبنا امتدادا متصلا لا عوج فيه ولا أمت، وبين متغيرات العالم الجديد ومطالب الأقوياء في هذا العالم وما يعتبرونه حقوقا لهم على الأمم "الضعيفة".

تمثلت تلك المطالب في أمرين، أولهما اعتبار الأمم "الضعيفة" مطيتهم نحو الأمجاد الإمبراطورية التي ضاعت من أسلافهم وتحطمت أحلامهم فيها على صخرة الولاء الحضاري والثقافي واللغوي القابعة في وجدان الشعوب التي عمرت هذه المنطقة من العالم.

والثاني بأن تكون طوائفُ من "نخب" هذه الأمم -وهي طوائف منتقاة بعناية فائقة- أدوات أساسيةً وحيوية لنجاح مشاريعهم في مجال تثبيت الخرائط الجديدة وما تستهدفه من إحداث نظام توازنات ثقافية ولغوية جديدة يراعي معطيات القوة والضعف التي أفرزتها العولمة السياسية والاقتصادية والثقافية على الساحة الدولية لعالم اليوم.

هذه المشاريع استهدفت توطين اللغات الأجنبية بالقوة في غير منشئها الأصلي في ميزان العلاقة بين القوي والضعيف.

هذا المنطق يقوم على سعي الطرف الأقوى لاكتشاف السنن الكونية ثم استنزاف جوانب القوة في هذه السنن واستغلالها لتقوية الاحتياطي الإستراتيجي من عوامل القوة والجبروت لديه، ثم بعد الإنضاب يتم توجيه القدرات العقلية والعلمية والإبداعية في اتجاه استنزاف الضعيف، باستغلال القوة المنضَّبة في ضربه والاستبداد به والحجْر على إمكاناته الثقافية واللغوية والحضارية والاقتصادية والسياسية.

لقد تمكنت هذه المشاريع من إحداث "ثقوب أوزون" حقيقية في مجال الوضع اللغوي والثقافي العام لهذه المنطقة.

وهذه الثقوب أحدثتها كمية الانبعاثات اللغوية والثقافية الهائلة الملوِّثة الآتية من المصانع التي تنتج الأنماط الثقافية والاجتماعية والسلوكية والقيمية الجاهزة وتصدرها إلى شعوب الضفة الجنوبية من المتوسط، من أجل ضمان التحكم عن بعد في صيرورة التطور والتغير في هذه المجتمعات، وتخريب كل مكونات جهاز المناعة الثقافية فيها ضد الأجنبي وضد مشاريع التهجين التي يستهدفه بها.

فحين تكون الملكة اللغوية التعبيرية، في مرحلة النشأة والتكوين، مشوشة بعوامل الهجنة والرطانة فإنه يحدث عند الطفل اضطراب كبير في أداء الوظائف الاكتسابية الأساسية، أي في آليات التفاعل بين الكليات والثوابت الفطرية التي يولد الطفل وهو مزود بحظه منها غير منقوص "تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء" وبين متغيرات المحيط اللغوي المفتقر إلى الاستقرار والتجانس وإلى الإيقاع اللغوي العام والمهيمن والذي يمثل الهوية الأساسية للمجتمع وللبيئة اللغوية والثقافية.

إن الاضطراب في نشأة الملكة اللغوية وفي مسار تطورها يؤدي إلى انتشار أوبئة لغوية وإخفاقات على المستوى الفكري والإبداعي على نمط لم تُدرك بعدُ خطورتَه النخبُ السياسية المهيمنة في العالم العربي والقوى الإدارية التابعة لها والمخولة بتنفيذ الخطط والسياسات في مجال تدبير الشأن التعليمي والأكاديمي.

"
الإعاقة اللغوية والفكرية عند الإنسان العربي هل كانت مؤامرة بين القوى الاستعمارية السابقة ووكلائها؟ نعم في منطق التحليل السياسي، هذه هي الحقيقة لأن المستفيد من هذا الوضع هما الطرفان معا
"

وقد تجلت هذه الأوبئة والإخفاقات المذكورة آنفا في تجليات، منها التراجع في القدرات التعبيرية، وبالتالي الضمور في الكفايات الفكرية والقصور في الملكات التأملية والتحليلية والإبداعية عموما عند شبابنا.

ذلك أن التجانس اللغوي والهدوء الذهني، أو السلم الفكري والطمأنينة اللغوية شرط أساسي في تحرير القدرات الإبداعية والفكرية عند الإنسان، فالمتكلم الذي بلغ السن الحرجة ولما يتمكن من إنضاج ملكته اللغوية والتعبيرية وتثبيت وسائطها على نحو سليم ومتكامل على جميع المستويات يتعطل فيه شطر كبير من قدراته وملكاته العليا.

إن متكلما هذا شأنه حُكم عليه ظلما بأن يبقى، من جهة هذه الملكات وتلك القدرات، أسيرا مضروبة عليه الأغلال والأصفاد، فهو عاجز عن تحرير طاقته الفكرية وعن التأمل والتفكير في الإبداع، وعاجز حتى عن الانتباه إلى الحقيقة القابعة في جوهره، حقيقة أنه قد جاء إلى هذه الدنيا وقد نُفثت في روحه وفطرته ملكات يستطيع بها أن يغير وجه العالم لولا جريمة التعطيل التي تتعرض لها تلك الملكات.

ثم إن هذا المتكلم أصبح يعاني من إعاقة لغوية خطيرة على المستوى التعبيري وإنه من هذه الجهة من ذوي الاحتياجات الخاصة وينبغي أن يعامل على هذا الأساس فلا يعاتب بأنه لا يبدع ولا يفكر.

لذا تحولت الجامعة بحكم الأمر الواقع إلى فضاء "طوارئ" لإسعاف المتعلمين من حملة الثانوية العامة وإنقاذهم من الانهيار التعليمي الشامل، وبعبارة أوضح تحولت الجامعة من معقلٍ للبحث العلمي ولتنشئة الباحثين وعلماء المستقبل وحصنٍ للفكر والإبداع وتدبير الشأن المعرفي والأكاديمي على المستوى المحلي والعالمي، إلى مراكز للتلقين الأساسي إلا في حالات نادرة جدا لا تلبث أن تهجر هذه المفازة الجرداء للبحث عن البيئة الحاضنة الملائمة.

وهذا في الحقيقة مؤشر خطير من مؤشرات التراجع العام في العالم العربي.

فشبابنا في الجامعات لا يستطيعون في الجملة ولا يكادون يتقنون إلا صنعة واحدة هي صنعة الحفظ واستظهار المحفوظ ولا يتجاوزونها إلى ممارسة الفكر التحليلي أو الإبداعي أو غيرهما، والسبب هو الإعاقة اللغوية.

بل إن ملكة الحفظ نفسها التي ظلت القرونَ ذوات العدد سمة مميزة للمشهد العلمي والتعليمي في العالم العربي والإسلامي، وكانت العلامة المضيئة الأولى التي سطعت في سماء كل عبقري من عباقرة الفكر والاجتهاد من أسلافنا، انحطت الآن إلى أدنى درجات السلم، وهي تترنح تحت وطأة الآفات التي استهدفت غيرها من الملكات.

إن تشوه الخلقة اللغوية والتراجع الكبير في جودة أدائها عند شبابنا سببه في المقام الأول الاستهانة والاستهتار بحقيقة علمية أساسية، لم تلتفت إليها قط النخب التي آلت إليها سلطة الحل والعقد والتشريع والتخطيط في المجال التعليمي، وهي أن المكونات الخلقية للإنسان يخضع عملها لسنن وقوانين محددة بضوابط جينية وبعوامل فطرية لا تقبل التدخل الخارجي إلا بمقدار ما تسمح به هذه العوامل وتلك الضوابط.

إن اعتقاد النخب المتسلطة التي آلت إليها سلطة رسم السياسات التعليمية ووضع الخطط التربوية، أن التدخل في السير الطبيعي لهذه السنن لا يعدو أن يكون إجراء عرضيا بسيطا لا ينطوي على أي مخاطر، نابع من أنهم "وجدوا أنفسهم" في سياق طُلب منهم فيه أن يكونوا في خدمة المشاريع السياسية الدولية الكبرى، وبأن يتفاعلوا في "خططهم التنموية" بموجب البراغماتية مع ما يتناسب مع إملاء الأطراف الدولية القوية التي تفرض أولوياتها على الأطراف الضعيفة على الساحة الدولية، وهي أولويات تمليها المتغيرات الإستراتيجية للأقوياء.

"
السياسات التعليمية في معظم البلاد العربية أتت بأجيال من الشباب تعاني من فقر لغوي وفكري ثقافي مدقع، هي فيه ضحية سياسات تعليمية غير وطنية ولا قومية ولا علمية انتهجتها الأنظمة الرسمية بسوء نية أو بسوء تقدير
"

لقد انتهت السياسات التعليمية في معظم البلاد العربية إلى جيل بل أجيال من الشباب ومن طاقات الأمة تعاني من فقر لغوي وفكري ثقافي مدقع.

إنهم ضحايا سياسات تعليمية غير وطنية ولا قومية ولا علمية انتهجتها الأنظمة الرسمية بسوء نية أو بسوء تقدير لخطورة الأمر.

هذا هو الواقع الذي ينبغي التصدي له بإفساح المجال للمتخصصين وتخويلهم السلطات الكافية لصياغة السياسات وإنشاء الخطط والإشراف المباشر على تنفيذها، إنه واقع ينبغي التصدي له بخطط استعجالية في البداية ثم بخطط للمدى المتوسط والبعيد.

هذه الإعاقة اللغوية والفكرية عند الإنسان العربي هل كانت مؤامرة بين القوى الاستعمارية السابقة ووكلائها؟ نعم في منطق التحليل السياسي، هذه هي الحقيقة لأن المستفيد من هذا الوضع هما الطرفان معا.

فهذه الإعاقة، من جهة أولى خدمت نسبيا خطط المستعمر في بعض مفردات الاستئصال الثقافي واللغوي للشعوب المستعمرة وخططه في تكريس التبعية الثقافية والاقتصادية واللغوية بتجفيف منابع الولاء الحضاري والانتماء الثقافي واللغوي بقطع الجسور التي تصل الإنسان العربي وملكة البيان التي خلقت معه بالمتن اللغوي العربي القديم بكل مكوناته ومستوياته (القرآن والحديث النبوي الشريف والشعر وغيره من الفنون الأدبية، وكل الميراث الثقافي والعلمي الكبير القديم).

إن الغرب ليعلم علم اليقين بما تراكم لديه من رصيد معرفي استشراقي ضخم، أن التجربة اللغوية الأولى للطفل العربي إن اعتمدت المعين القرآني والمعين اللغوي العربي الفصيح بجميع مكوناته فإن ذلك ضمان لبقائه "أسيرا" للثقافة العربية الإسلامية إذ يوطن تمثال الولاء اللغوي والحضاري في وجدان هذا الطفل مدى الحياة، وهذا يمثل أساسا لبنيان ثقافي صلب يصعب تحطيمه في المستقبل.

التهديد إذن إستراتيجي بكل المقاييس وفي هذا السياق ينبغي أن نفهم طائفة كبيرة من خطط المارشال ليوطي (الحاكم العسكري الفرنسي للمغرب 1912-1925) وغيره من "بريمرات" الإمبراطوريات الغربية التي كان أخطرها على الإطلاق خطة الظهير البربري الذي حاول المستعمر الفرنسي أن يفرضها بالقوة.

هذه الخطة (التي فيها الكثير من النمط الأميركي في العراق الجريح حيث مشاريع التقسيم الطائفي الجارية على قدم وساق) كانت تستهدف زرع بذور الفتنة العرقية الخبيثة بين العنصر العربي والأمازيغي، وبالتالي تحطيم الجسور التي تربط الوجدان الأمازيغي بالمحيط الحضاري الإسلامي بكل أبعاده اللغوية والدينية والفكرية.

ومن جهة ثانية، الإعاقة اللغوية والفكرية عند الإنسان العربي خدمت الأنظمة الرسمية المستبدة التي اختارت أن تكون ذيولا تابعة لمشاريع المستعمر في المنطقة بعد أن حلت ساعة الحقيقة وتبين لهم أن البقاء على الأرض لتحقيق تلك المشاريع وأهدافها لم يعد ممكنا بسبب قوة نظام المناعة الذاتي في وجدان شعوب المنطقة.

لقد أوكلت إلى هذه الأنظمة مهام تنفيذ تلك الخطط بوسائل وسياسات قامت في مجملها على تحييد عوامل الممانعة والضرب بقوة على أيدي الممانعين.

وما الأزمات السياسية الكبيرة التي عرفها العالم العربي في سياق المواجهات الدامية بين الأنظمة الرسمية بعد خروج المستعمر وبين خصومها من كتل الممانعة والمعارضة إلا انعكاس -في معظم الحالات- لهذه المعادلة وتفاصيلها وامتداداتها.

فالقيام بهذه المهام بالوكالة كان الضمانة الكبرى لاستمرار هذه الأنظمة وتمكنها من بسط سلطانها كل هذه العقود المتطاولة في زمن المنطقُ الضابط لإيقاع التغير فيه لا يسمح بهذا النمط لامتداد السلطان والأثَرة على خط زمني متصل لا نصب فيه ولا تعب.
__________________
أكاديمي مغربي

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان