إسرائيل وإستراتيجية تغيير الجياد

التحالفات الإسرائيلية
العملاق الأصفر
الفيل الهندي
أهداف آسيوية
قبل اختراع السكك الحديدية والمحركات بمختلف أنواعها, كانت العربات التي تجرها الجياد هي وسيلة الانتقال الرئيسية عبر المساحات الشاسعة من القفار والصحارى في القارة الجديدة أميركا الشمالية, ونظرا لطول المسافات ومشقة الرحلات, كانت الجياد تحتاج لفترات من الراحة، في محطات خاصة أقيمت على طرق السفر الطويلة، قبل أن تستأنف رحلاتها.
وفي محاولة لتوفير الوقت المخصص لراحة الجياد, ظهرت فكرة جديدة هي تغيير الجياد المنهكة والمرهقة بأخرى تنتظر في هذه المحطات، وهي على درجة عالية من اللياقة ومستعدة لجر العربات إلى محطة تالية يتم بعدها تغييرها أيضا, وهكذا حتى نهاية الرحلة ومحطة الوصول.
هذه الطريقة القديمة في السفر, التي تشبه سباق التتابع, حولتها إسرائيل إلى إستراتيجية تحكم علاقاتها مع العالم وخاصة الدول الكبرى التي تتمتع بالسطوة والنفوذ خلال فترة معينة حتى تفقد قوتها فتغير إسرائيل تحالفاتها لترتبط بجواد جديد أو دولة أخرى صعد نجمها وتزايدت قوتها وأصبحت هي الأقدر على دفع أو سحب العربة الإسرائيلية عبر مسافة أخرى أو فترة زمنية جديدة.
" مع تزايد المؤشرات على احتمال أن يصاب الجواد الأميركي العملاق بالوهن والضعف لم يتردد أصحاب العربة الإسرائيلية في السعي مبكرا لتجهيز الجياد البديلة التي ربما يحتاجونها في المراحل القادمة " |
ونظرة سريعة لسجل التحالفات الإسرائيلية منذ قيام الدولة العبرية تكفي لتوضيح هذه الإستراتيجية التي لعبت دورا شديد الأهمية في تحقيق الحلم الصهيوني حتى قبل إنشاء إسرائيل.
فعندما كانت بريطانيا العظمى هي الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس كان تركيز زعماء اليهود على لندن باعتبارها جواد المرحلة الذي بدأ رحلته مع العربة الإسرائيلية بوعد بلفور في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 1917 والذي أقر لأول مرة ما يسمى حق اليهود في إقامة دولة في فلسطين.
ولم يسترح الجواد البريطاني حتى إعلان قيام هذه الدولة في 15 مايو/أيار 1948. وقد انضم الجواد الفرنسي إلى رفيقه البريطاني في سحب العربة الإسرائيلية حتى جاءت حرب السويس عام 1956 لتكتشف إسرائيل إرهاق وإنهاك الجوادين البريطاني والفرنسي فبادرت للارتباط بالجواد الأميركي الجامح الذي سرعان ما أثبت تفوقه على كل الجياد السابقة وساعد إسرائيل في اجتياز أخطر وأهم مرحلة في تاريخها والتي حققت فيها انتصارا أسطوريا على العرب في حرب يونيو/حزيران 1967.
ومنذ ذلك الحين كانت الولايات المتحدة الأميركية, ولا تزال هي الدرع والسيف ورغيف العيش للدولة اليهودية. ولكن مع تزايد المؤشرات على احتمال أن يصاب الجواد الأميركي العملاق بالوهن والضعف ويفقد, مستقبلا موقع القوة الأعظم في العالم, لم يتردد أصحاب العربة الإسرائيلية في السعي مبكرا لتجهيز الجياد البديلة التي ربما يحتاجونها في المراحل القادمة والتي لا يعلم أحد إلى أين ستصل فيها هذه العربة.
وإذا كانت كل التوقعات تشير إلى أن القوة, أو القوى, الأكبر في عالم الغد ستكون ذات ملامح آسيوية فإن الطبيعي وفقا لإستراتيجية تغيير الجياد أن تنظر إسرائيل نحو آسيا بحثا عن تنين صيني أو فيل هندي أو حتى نمر ياباني أو كوري يكون أكثر قدرة من أي جواد على جر العربة الإسرائيلية عندما يصل الجواد الأميركي الحالي إلى حالة لا يفيد معه فيها سوى رصاصة الرحمة.
العملاق الأصفر
وربما يفسر ذلك سر الاهتمام الإسرائيلي البالغ بالقوى الناهضة في آسيا خلال السنوات الأخيرة وتطور علاقات إسرائيل معها بشكل غير مسبوق رغم أن معظمها إن لم تكن كلها كانت من أصدقاء العرب وحلفائهم التقليديين.
فقد بلغ حجم التعاون التجاري بين إسرائيل والصين في العام الماضي (2007) أكثر من خمسة مليارات دولار. ويقولون في إسرائيل إن هدفهم هو الوصول بهذا الرقم إلى عشرة مليارات دولار بحلول عام 2010.
ويميل الميزان التجاري بين البلدين لصالح إسرائيل التي تصدر للصين الكيماويات والعُدد والآلات الصغيرة والسلاح ونظم المعلومات. وقد قام رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت بزيارة لبكين في يناير/كانون الثاني 2007 التقى خلالها بقادة الصين للاتفاق على المزيد من إجراءات دعم العلاقات.
" الإسرائيليون بدؤوا الاهتمام بالصين في مرحلة مبكرة وحققوا نجاحا ملموسا في هذا الاتجاه عام 1979, وطوال معظم النصف الثاني من القرن العشرين ظلت الصين ترفض الاعتراف رسميا بإسرائيل ولكن في عام 1992، أقيمت علاقات دبلوماسية كاملة بين الجانبين " |
ورغم أن هذه الزيارة لم تحقق الكثير لإسرائيل على الصعيد السياسي فإنها بكل تأكيد كانت شديدة الأهمية في ضوء الوجود الصيني المتزايد بمنطقة الشرق الأوسط وتعاظم دور الصين بشكل مستمر على الساحة الدولية.
وبجانب ذلك، فلا يمكن التقليل من اهتمام بكين بالتعاون التجاري والعلمي والتكنولوجي مع إسرائيل التي لم تهدر الفرصة وأبدت كل الترحيب بكل المطالب الصينية في هذه الاتجاهات.
والحقيقة أن الإسرائيليين بدؤوا الاهتمام بالصين في مرحلة مبكرة وحققوا نجاحا ملموسا في هذا الاتجاه عام 1979 عندما تم ترتيب لقاء سري بين مسؤولين أمنيين صينيين ومجموعة من أصحاب ومسؤولي مصانع السلاح في إسرائيل. وأسفر هذا اللقاء عن إبرام عدة صفقات عسكرية بين الصين وإسرائيل.
وطوال معظم النصف الثاني من القرن العشرين، ظلت الصين ترفض الاعتراف رسميا بإسرائيل أو تبادل العلاقات الدبلوماسية معها احتراما للعلاقات الوطيدة بين بكين والعالم العربي.
ولكن في عام 1992، أقيمت علاقات دبلوماسية كاملة بين بكين وتل أبيب حيث لم تعد الصين تجد حرجا في الإقدام علي هذه الخطوة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانفراد الولايات المتحدة الأميركية بموقع القوة الأعظم في العالم، وأيضا بعد أن اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية ذاتها بإسرائيل واختفت تماما ردود الفعل العربية السلبية ضد الدول التي تقيم علاقات مع إسرائيل.
وجاءت زيارة الرئيس الصيني لإسرائيل عام 2000 لتكون بمثابة تتويج رسمي للجهود الإسرائيلية الرامية لتطبيع العلاقات مع العملاق الأصفر الذي يرشحه الجميع ليكون هو القوة الأعظم في العالم مستقبلا.
وقد عقد في إسرائيل، العام الماضي، مؤتمر حول الأمن القومي الإسرائيلي، وأكد المؤتمر أن الدور الصيني في الشرق الأوسط قد يصبح أكثر تأثيرا وفاعلية على كل المستويات السياسية والاقتصادية وربما العسكرية أيضا.
ويرجع ذلك -كما خلص إليه مؤتمر الأمن القومي الإسرائيلي الذي عقد في ضاحية هرتزليا قرب تل أبيب- إلى عدة حقائق أهمها استمرار حالة الضعف في مكانة الولايات المتحدة الأميركية كزعيمة للعالم وتراجع قدرتها كقوة عظمى بالإضافة إلى تدهور شعبيتها في الشرق الأوسط خاصة بعد غزو العراق.
والى جانب ذلك، يشير الخبراء إلى أن التفوق التكنولوجي والعسكري الأميركي على الصين لا يمكن اعتباره من الحقائق الدائمة أو الثوابت، بل إن الصين ربما تحقق تفوقا على أميركا في هذين المجالين خلال سنوات قليلة.
ويعول الإسرائيليون كثيرا على رغبة الصينيين في دعم الاستقرار بالشرق الأوسط لحماية مصادرهم من الطاقة، كعنصر يعمل لصالحهم فيما يتعلق بتطوير العلاقات الصينية الإسرائيلية حتى تصل في النهاية إلى مرحلة التعاون الإستراتيجي وربما التحالف أيضا.
" رغم استمرار رفض الشارع الهندي لأي تقارب مع إسرائيل، فإن وصول اليمين الهندوسي للسلطة في نيودلهي جعل تقبل الهند للوجود الإسرائيلي مسألة لا غبار عليها ولا خطر منها " |
نفس الشيء تفعله إسرائيل مع الهند حيث قفزت العلاقات بين البلدين إلى مستويات لم تكن متوقعة بعد زيارة أرييل شارون لنيودلهي عام 2003 ليصبح هو أول رئيس وزراء إسرائيلي يزور الهند التي تحمل الآن لقب ثاني أكبر شريك تجاري لإسرائيل في أسيا بعد هونغ كونغ.
وتضاعفت الاستثمارات الإسرائيلية في الهند لتصبح إسرائيل هي تاسع أكبر المستثمرين الأجانب المؤثرين في الاقتصاد الهندي. وبلغت قيمة صادرات إسرائيل للهند 1.3 مليار دولار عام 2006 وتضاعف حجم التبادل التجاري بين البلدين بوتيرة متسارعة، حيث تصدر الهند لإسرائيل القطن وخيوط الغزل والمنسوجات والمنتجات الزراعية والرخام والغرانيت. بينما تتركز صادرات إسرائيل للهند في المكونات الإلكترونية والألماس المصقول.
وقد أصبح "ستيت بانك أوف إنديا" الهندي هو أول بنك أجنبي يفتح فرعا له في سوق الألماس الإسرائيلي بتل أبيب. و يقول آرون كومار سفير الهند لدى إسرائيل إن الاستثمارات الإسرائيلية في بلاده تزيد قيمتها على مليار دولار وإن إسرائيل الآن هي ثاني أكبر مورد للمعدات العسكرية إلى الهند بعد روسيا. كما تم إطلاق آخر قمر صناعي إسرائيلي من الهند وباستخدام صاروخ هندي.
ولقد تميزت بدايات الاقتراب الإسرائيلي من الهند بالتحديد بقدر لا يستهان به من الدهاء والانتهازية السياسية. فمع انتهاء الحرب الباردة وسقوط الكتلة الاشتراكية، انهار دور حركه عدم الانحياز التي كانت تربط الهند بما يشبه علاقة التحالف مع دول عربية عديدة وخاصة مع مصر.
ورغم استمرار رفض الشارع الهندي لأي تقارب مع إسرائيل، فإن وصول اليمين الهندوسي للسلطة في نيودلهي جعل تقبل الهند للوجود الإسرائيلي مسألة لا غبار عليها ولا خطر منها.
ولكن الحرص على المصالح الاقتصادية مع الدول العربية جعل الهنود يحرصون على الطابع السري لعلاقتهم مع الدولة اليهودية، وبمرور الوقت تآكلت المواقف الهندية الكبرى لمساندة الحق العربي ورفض كل ما تمثله إسرائيل، وهي المواقف التي تجسدت في معارضة ألمهاتما غاندي لإقامة دولة إسرائيل ووصفه للصهيونية بأنها جريمة ضد الإنسانية.
ورغم أن جواهر لال نهرو خليفة غاندي كان من أشد المؤيدين للحقوق العربية، فإنه تعرض لضغوط رهيبة دفعته للاعتراف بإسرائيل عام 1950. وظلت العلاقات الهندية الإسرائيلية خلال عهد نهرو أشبه بالزواج العرفي.
" بمرور الوقت تنوعت مجالات التعاون بين إسرائيل والهند اقتصاديا وسياسيا وعسكريا وأمنيا وثقافيا, ووصلت الأمور في النهاية إلى درجة الحديث عن محور هندي إسرائيلي أميركي في جنوب آسيا " |
واستمر هذا الوضع خلال سنوات حكم ابنته أنديرا غاندي. وكان من أهم المؤشرات على حدوث تغيير في الموقف الهندي من إسرائيل معارضة نيودلهي لقرار الأمم المتحدة الذي يساوي بين الصهيونية والعنصرية عام 1991. واستغلت إسرائيل العداء بين الهند وباكستان لتطرح فكرة العدو الباكستاني المشترك للهنود والإسرائيليين.
وكالعادة كان التبادل التجاري والتعاون الأمني هو الجسر الذي عبرته إسرائيل لدعم علاقاتها مع الهند. وبمرور الوقت تنوعت مجالات التعاون بين البلدين اقتصاديا وسياسيا وعسكريا وأمنيا وثقافيا. ووصلت الأمور في النهاية إلى درجة الحديث عن محور هندي إسرائيلي أميركي في جنوب آسيا.
أهداف آسيوية
وشملت التحركات الإسرائيلية النشطة في آسيا اليابان أيضا حيث شهدت العلاقات بين تل أبيب وطوكيو نموا ملحوظا في السنوات الأخيرة، وتم تشغيل خط جوي مباشر بين العاصمتين وضاعفت الشركات اليابانية استثماراتها في إسرائيل.
وحتى الدول الإسلامية الكبرى في آسيا مثل إندونيسيا وباكستان, استطاعت إسرائيل بوسيلة أو بأخرى النفاذ إليها والتغلغل في أنشطتها الاقتصادية كما دعمت علاقاتها السياسية معها رغم كل القيود والمحاذير.
ومازال العالم يتذكر تصريحات الرئيس الإندونيسي الراحل عبد الرحمن واحد خلال زيارة شمعون بيريز لإندونيسيا في أغسطس/آب عام 2000 عندما قال "إن إسرائيل يمكن أن تدير القدس".. كما تبادلت إسرائيل وإندونيسيا زيارات البعثات الاقتصادية الرسمية، وبلغ حجم الاستثمارات الإسرائيلية غير المباشرة في إندونيسيا نحو 200 مليون دولار، ومن المتوقع زيادتها خلال فترة قصيرة بمعدلات ضخمة.
وبالنسبة لباكستان, فقد اتفقت تل أبيب مع إسلام آباد في عام 2005 على تطبيع العلاقات بينهما بصورة مبدئية خلال لقاء بين وزيري خارجيتيهما في ذلك الحين سلفان شالوم وخورشيد منصوري.
" هل يمكن أن ينظر العرب مرة واحدة لما هو أبعد من تحت أقدامهم ويدعموا علاقاتهم مع القوى الناهضة في العالم التي يمكن أن تساند قضاياهم، أم إنهم سيظلون كعادتهم يراهنون على الجياد الخاسرة؟! " |
أما كوريا الجنوبية فربما كانت هي أقرب الدول الآسيوية لإسرائيل بحكم علاقة التحالف التي تربط البلدين بالولايات المتحدة الأميركية. وهناك تطورات مستمرة في العلاقات الإسرائيلية الكورية على المستويين السياسي والاقتصادي وربما العسكري أيضا.
ولا شك أن استيعاب إسرائيل لقوة آسيا على الساحة العالمية مستقبلا هو الدافع الأكبر أو المحرك الأساسي للمحاولات الإسرائيلية المستميتة لتوطيد العلاقات مع عمالقة القارة الصفراء بهدف استخدامهم جيادا لعربة إسرائيل، إلى الحد الذي لم يتجاهل الإسرائيليون معه حتى دول آسيا الصغيرة مثل فيتنام وتايلند وحتى سلطنة بروناي المسلمة التي قام سلطانها حسن بلقية بزيارة إسرائيل أكثر من مرة.
والسؤال الآن.. هل يمكن أن ينظر العرب مرة واحدة لما هو أبعد من تحت أقدامهم ويدعموا علاقاتهم مع القوى الناهضة في العالم التي يمكن أن تساند قضاياهم، أم إنهم سيظلون كعادتهم يراهنون على الجياد الخاسرة أو يبتعدون من الأساس عن لعبة الرهان في عالم السياسة؟!.
ـــــــــــ
كاتب مصري
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.