لماذا غابت المعارضة عن قيادة الجماهير الغاضبة في مصر

– تنسيق ثماره معطوبة
– محطات تنسيق بين المعارضة
– أسباب الضعف والتشرذم
تشهد مصر هذه الأيام موجات احتجاج وغضب جماهيري غير مسبوقة في تاريخها، فلا يكاد يمر يوم إلا وتخرج مظاهرة، حتى أصبح مشهد المتظاهرين ولافتاتهم وشعاراتهم مألوفا في الشارع المصري وحدثا معتادا في وسائل الإعلام.
لكن اللافت للنظر في كل ذلك هو أن هذه الاحتجاجات الشعبية افتقدت قيادة رشيدة من قوى المعارضة، سواء المسموح لها قانونيا بالعمل مثل أحزاب الوفد والتجمع والناصري، أو تلك التي حجبت عنها الشرعية وحظر القانون عليها العمل السياسي في صورته العلنية مثل حركة الإخوان المسلمين.
فما الأسباب الحقيقية والبنيوية التي تقف وراء غياب الدور القيادي للأحزاب والقوى السياسية المصرية المعارضة التي بدت للجميع مؤخرا خارج المشهد الاحتجاجي المتصاعد في مصر؟
| " المساحات التي حازها الإسلاميون هي في جوهرها خصم من رصيد اليسار، ما أنشأ حالة من الاستقطاب الشديد بين التيارين الرئيسيين للمعارضة المصرية " |
تنسيق ثماره معطوبة
المعارضة المصرية بألوانها وأطيافها المختلفة تفتقد التنسيق فيما بينها، وتعاني أزمة ثقة عميقة لم تستطع رغم توافقها على العناوين العريضة للإصلاح السياسي أن تتغلب عليها، ولهذه الثقة المفقودة جذور بعيدة.
فمع بداية عهد الرئيس أنور السادات، أصبح اليسار المصري بشقيه الاشتراكي والقومي الممثل الأقوى والأوسع انتشارا للمعارضة المصرية.
وقد ساهمت في هذا الصعود عوامل عدة، من أهمها ما اعتبره البعض انقلابا من السادات على سياسات الحقبة الناصرية لا سيما الموقف من الانفتاح الاقتصادي، وتأثيره السلبي على الشرائح الفقيرة والضعيفة، وهى النسبة الغالبة في مجموع الشعب.
ومما لا شك فيه أن هذا الصعود اليساري مثل قلقا كبيرا للسادات الذي كان يفتقد التأييد الجماهيري، مقارنة بما كان يتمتع به سلفه الراحل جمال عبد الناصر. وفي هذا المناخ كان قرار السادات منح التيار الإسلامي الفرصة للتواجد والعمل.
والمهتمون بالشأن المصري العام يختلفون في أسباب ودوافع السادات في ذلك القرار، ففريق يرى فيه عدالة ومساواة بين كل التيارات السياسية، ورفعا لظلم وقع على التيار الإسلامي، بينما يرى فيه فريق آخر أداة ساداتية لمواجهة اليسار الصاعد ومحاولة لتقزيمه وتهميشه ووقف تصاعده.
ويرى أصحاب هذا الرأي في قيام السادات بالإفراج عن الإخوان المسلمين وتركهم يمارسون الدعوة والحركة والتجمع دون ملاحقات أمنية -في وقت قام فيه هو نفسه برفع شعار العلم والإيمان ولقب نفسه بالرئيس المؤمن- حزمة من الممارسات كرست لتحالف بين السادات والإسلاميين، كان هدفها الأساسي مواجهة اليسار المصري المعارض للانفتاح والساخر ليس من سياسات السادات فحسب بل من شخصه وهيئته كذلك.
وأيا ما كانت أسباب ودوافع قرارات السادات، فقد أصبح التيار الإسلامي مع نهاية السبعينات مهيمنا على معظم الجامعات المصرية والاتحادات الطلابية وآلاف المساجد، واكتسب شرائح واسعة من المجتمع المصري.
وبدا واضحا أن المساحات التي حازها الإسلاميون هي في جوهرها خصم من رصيد اليسار، مما أنشأ حالة من الاستقطاب الشديد بين التيارين الرئيسيين للمعارضة المصرية.
فظل الإسلاميون يعتبرون الدولة ونظام الحكم القائم أقرب إليهم من قوى اليسار التي يرون فيها عدوا للدين, كما أن قوى اليسار ظلت تعتبر الإسلاميين والدولة وجهين لعملة واحدة تعادي الحريات والفنون والثقافة، وتوظف الدين لأغراض سياسية, وتتبنى رؤية اقتصادية رأسمالية لا عدل فيها.
محطات تنسيق بين المعارضة
استمرت هذه الأجواء المشحونة ولم يتخلص كل فريق من الصورة الذهنية التي كونها في نفسه عن الطرف الآخر، وحينما بدأت محاولات التنسيق بين الأحزاب والقوى السياسية المعارضة في عهد الرئيس حسني مبارك ظهر أنها محاولات محدودة وضعيفة وقصيرة العمر، كما يتضح من السياق التالي:
1- التحالف بين الوفد والإخوان: في عام 1984 اتفق حزب الوفد مع الإخوان المسلمين على خوض الانتخابات البرلمانية بقائمة الوفد التي ستمنح الإخوان فرصة خوض الانتخابات التي كانت تجرى في ذلك الوقت بنظام القائمة الحزبية النسبية، وقد أسفرت النتائج عن فوز الوفد بحوالي 60 مقعدا حاز بها زعامة المعارضة، كما فاز الإخوان بثمانية مقاعد.
2- التحالف بين العمل والإخوان والأحرار: وفي عام 1987 تعالت أصوات في المعارضة تدعو إلى اتحاد الأحزاب والقوى السياسية في قائمة موحدة لخوض الانتخابات البرلمانية، لكن بعد اعتراض التجمع والوفد اقتصر التحالف على حزب العمل وحزب الأحرار وجماعة الإخوان المسلمين، وسمي وقتها بـ"التحالف الإسلامي" وفاز بستين مقعدا منها 36 للإخوان المسلمين.
3- دستور متفق عليه: ومع بداية التسعينات طالبت كل الأحزاب والقوى السياسية بتعديل الدستور، بل وقدمت دستورا مقترحا صاغته لجنة من السياسيين والقانونيين اختارت الدكتور محمد حلمي مراد الأمين العام لحزب العمل وقتئذ مقررا لها.
| " المناخ العام في مصر لا يسمح للأحزاب بالحركة في الشارع، ولا حتى على مستوى المؤتمرات والندوات في معظم الحالات، ما جعل أنشطة الأحزاب تنحصر داخل مقارها " |
ووقعت كل الأحزاب بما فيها الحزب الشيوعي المصري والإخوان المسلمون على الدستور المقترح، وقد مَثلت هذه الخطوة مستوى من التنسيق يصعب تحقيقه هذه الأيام، خاصة أن بعض المواد المنصوص عليها في ذلك الدستور المقترح تعد أحد أبرز محطات الخلاف بين أطياف المعارضة المصرية حاليا.
4- وثيقة الوفاق القومي: وفي عام 1994 دعت لجنة التنسيق بين النقابات المهنية كل أحزاب المعارضة وتياراتها السياسية ورموزها من الأفراد غير الحزبيين إلى حوار يستهدف توحيد جهود المعارضة، واستعدت كل هذه القوى للتوقيع على ما سمي "وثيقة الوفاق القومي" وهى وثيقة تضمنت صيغا توافقية لكل الملفات الشائكة والمختلف عليها بين القوى السياسية.
ولكن هذه المحاولات باءت بالفشل في اللحظات الأخيرة بسبب مواقف متطرفة من بعض رموز العلمانية وممثل جماعة الإخوان المسلمين.
أسباب الضعف والتشرذم
وكما هو واضح من استعراض أبرز محطات التنسيق بين أطياف المعارضة المصرية فإن القراءة الإجمالية لهذه المحاولات تؤشر إلى هشاشة ما تم وقصر عمره، وولادته بطرق مبتسرة ينقصها أكسجين الحياة اللازم لديمومتها والمطلوب لفعاليتها.
لكن الصورة، لكي تقرأ من كل زواياها المختلفة، فإنها لا تقتصر على ما في المعارضة من عوامل ضعف حالت بينها وبين قيادة الغضب الجماهيري المتصاعد يوما بعد يوم، لأن المناخ العام الذي تعمل فيه هذه المعارضة أسهم أيضا بدور أساسي فيما آلت إليه الأمور، وفي ما وقع بداخلها من صراعات ومعارك.
1- التضييق الحكومي: المناخ العام في مصر لا يسمح للأحزاب بالحركة في الشارع، ولا حتى على مستوى المؤتمرات والندوات في معظم الحالات، مما جعل أنشطة الأحزاب تنحصر داخل مقارها، وجعل صحيفة الحزب أهم من الحزب نفسه.
وقد استخدمت الحكومة حزمة من القوانين المكبلة للحريات لتعزل الأحزاب عن الشارع وعن الجماهير، كما أن قانون الأحزاب الحالي أعطى للجنة الأحزاب، صلاحيات مطلقة في قبول أو رفض أي حزب.
وتتكون هذه اللجنة من عدد من وزراء الحزب الوطني ويترأسها رئيس مجلس الشورى الذي يشغل الآن منصب الأمين العام للحزب الحاكم، وطوال السنوات الماضية رفضت هذه اللجنة عددا من الأحزاب الجادة التي تحاول كسر حالة الجمود السياسي في مصر.
2- الانقسامات الداخلية: شهد عدد كبير من الأحزاب المصرية انقسامات وصراعات داخلية على مستويات متفاوتة، وغالبا ما تكون هذه الصراعات حول منصب رئيس الحزب أو هيئته العليا.
وطوال العقدين الماضيين تابع المراقبون صراعات في أحزاب العمل والأحرار ومصر الفتاة والناصري والوفد والغد والجبهة.. إلخ.
ولا يوجد معيار واحد تتعامل به لجنة الأحزاب مع هذه الانقسامات، فهي تارة تنأى بنفسها عن الصراع الحزبي، مطالبة الأطراف المتنافسة بحل مشاكلها رضاء أو قضاء، وتارة تتدخل بطريقة سافرة لتنصر طرفا على طرف.
كما أن معظم هذه الأحزاب لم يُلحظ فيه تجدد على المستويات القيادية منذ سنوات طوال، إذ إن جل قياداتها فوق السبعين، مما أدى إلى إقامة حواجز عالية بينها وبين الجيل الجديد من الشباب.
| " رغم الاختلاف والحيرة بشأن إيجاد بديل للنظام المصري الحالي فمن المؤكد أن أحزاب المعارضة المصرية وتياراتها الحالية لن تكون البديل المنتظر " |
وقد نتج عن هذه الصراعات الحزبية تجميد بعض الأحزاب مثل حزب العمل وحزب مصر الفتاة, ودخول البعض في دوامة لا تنتهي من المعارك الداخلية، كحزب الأحرار على سبيل المثال الذي يتنازع على رئاسته سبعة من أعضائه كل يدعي أنه الرئيس الشرعي للحزب.
وخرجت أحزاب أخرى مثخنة بجراح تلك المعارك التي وصلت في بعض الأحيان إلى استخدام الرصاص الحي وإحراق المقر الرئيسي كما حدث في حزب الوفد.
3- إعلاء المصالح التنظيمية الضيقة: فكثير من أحزاب المعارضة جعل من مجرد البقاء هدفا في حد ذاته، فتحالف البعض مع السلطة لتحقيق مكاسب آنية ضيقة, بحجة أن البديل المطروح للنظام الحالي سيكون الأسوأ من وجهة نظره.
بعض قيادات هذه الأحزاب أعضاء معينون في مجلس الشورى من قبل رئيس الجمهورية رئيس الحزب الوطني الحاكم، ومن بين هؤلاء على سبيل المثال رئيس حزب التجمع رفعت السعيد ورئيس حزب الجيل ناجى الشهابي.
كما أن حالة الاستقطاب الحاد بين العلمانيين والإسلاميين جعلت كل طرف منهما يرى في الآخر عدوا لا شريكا، وخطرا يجب دفعه ولو بالتحالف مع السلطة.
فحزب التجمع وهو الوعاء الأكبر لليسار المصري ترفض قيادته الحالية أي حوار أو تنسيق مع الإخوان المسلمين باعتبارها "جماعة محظورة" والإخوان المسلمون من جانبهم بذلوا قصارى جهدهم لإسقاط كل مرشحي التجمع في الانتخابات البرلمانية الماضية، بمن فيهم خالد محي الدين مؤسس حزب التجمع وزعيمه التاريخي.
وفي بعض الحالات دعم الإخوان مرشحي الحزب الوطني في مواجهة حزب التجمع، كما أنهم وهم أكبر قوة سياسية في مصر يرفضون الاشتراك في أي تحرك للمعارضة إلا إذا كانوا هم الداعين إليه والمهيمنين عليه والمسيطرين فيه بالشعارات واللافتات.
لكل هذه الأسباب فقد الشارع ثقته بالمعارضة وأحزابها وتياراتها، وانفصلت المعارضة برضا منها أو رغما عنها عن الشارع والجماهير، وبدا الشارع المصري الغاضب والرافض للسياسات الحكومية كجسم بلا رأس، وكجنود بلا جنرالات، وسيطرت العشوائية على تحركاته، وتخوف الكثيرون من المصير المجهول، وفرض السؤال عن المستقبل نفسه، وبات الجميع يتساءلون: إذا كان النظام الحالي على وشك الرحيل فما البديل؟
ورغم الاختلاف والحيرة في الإجابة على هذا السؤال فمن المؤكد أن أحزاب المعارضة المصرية وتياراتها الحالية لن تكون البديل المنتظر.
__________________
كاتب مصري
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.