نقد السؤال المغلوط: مع العقلانية أم ضدها؟

نقد السؤال المغلوط.. مع العقلانية أم ضدها؟


هل العقلانية كفر وزندقة؟
ما معنى العقلانية؟
نحو تعريف بديل ومستوعب

يُعد التفكير في مسألة العقلانية مدخلا لاجتذاب إشكالات وقضايا عديدة يعيشها الفكر العربي المعاصر، إذ أن النقاش في شأنها ليس مجرد نقاش دلالي يمكن اختصار بواعثه في وجود اختلاف في الدلالة المفهومية للفظ، بل هو نقاش مثقل بالمواقف العقدية والسياسية.

ومن ثم فإن الحديث في شأن هذا المفهوم والطموح إلى إنجاز دلالة له مدخل لتأسيس الموقف من كثير من القضايا الأخرى المتعالقة به.

وبما أن المسألة لها مثل هذه التعالقات المتشابكة فإن التحليل النقدي للمفهوم لابد أن يستحضر وضعية سؤال العقلانية ليكون ذلك مدخلا لإبصار أهمية المفهوم من جهة، وإدراك المحددات المتحكمة في إنتاج دلالاته، وبلورة الموقف منه.

هل العقلانية كفر وزندقة؟
بالنظر إلى واقعنا الثقافي المعاصر نلاحظ أن الأطراف المذهبية المتخالفة تتجاذب جدلا سجاليا يتم فيه الخلوص في غالب الأحيان إلى أحكام حدية مبالغة: فالبعض يرى العقلانية كفرا ونقيضا للدين، حتى استحال اللفظ إلى نعت قدحي يكفي إطلاقه لنفي من ينعت به من دائرة الإسلام.

فالشيخ سفر الحوالي مثلا يتحدث عن العقلانية خالطا إياها بالفلسفة الوضعية والعلمانية والماسونية، مختتما باتهام من يتبناها بالعمالة للاستخبارات الأجنبية!

حيث يقول"العقلانيون مدرسة -في الأصل- ظهرت بتأثير الفلسفة اليونانية، وقد تبناها المعتزلة، والخوارج، والرافضة وكل المتكلمين؛ ثم ظهرت بشكل حديث في فكر الشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني ومن تتلمذ عليهما؛ وماتزال إلى اليوم متمثلة في المدرسة المسماة (المدرسة العصرية) أي التي تفسر الإسلام تفسيراً عصرياً يتناسب مع العلم ومع العصر الحديث بزعمهم".

"
وضعية سؤال العقلانية في واقعنا العربي تحتاج إلى تغيير ينقله من مطلب تحديد الموقف (مع العقلانية أو ضدها) إلى وضعية سؤال دلالي يتم فيه الوعي بمعنى منفتح للعقلانية وإدراك لتعدد أنماطها
"

ويضيف الحوالي "ومن المؤكد أن بعض من يدعون إلى هذه العلمانية الجديدة التي تسمى (العصرية أو العصرانية أو العقلانية أو الإنسانية كما ذكرنا أو التجديدية إلى آخر هذه الأسماء) من المؤكد أن بعضهم له علاقة وارتباط ما بالاستخبارات الدولية وبالماسونية دون أن نتهم أحداً بعينه، لكن نقول: هذا مؤكد، وهذا موجود، وسوف تثبته الأيام، وقد أثبتت الأيام عن السابقين ما أصبح واضحاً كالشمس في رابعة النهار" (نقلا عن محاضرة مفرغة في الموقع الإلكتروني للشيخ الحوالي).

وهذا المسلك في خلط المفاهيم يسقط فيه العديد من الكتاب ويتناسون في غمرة الانفعال –ولا أقول التفكير- أن تصورهم هذا يعطي انطباعا سيئا، حيث قد يوحي عند المتلقي بأن الإسلام مناقض أو مخالف لفعالية العقل والتفكير، مع أن هذا الدين في نص وحيه القرآني الكريم كله مناداة للعقل والفكر وتحفيز على الاستفهام والنظر، وذم لتعطيل وظيفة التعقيل.

والبعض الآخر يأخذ بالعقلانية وينادي بها بوصفها التوجه الفكري القادر على حل إشكالات تخلف الواقع والوعي، وتحقيق الاستنارة والنهوض، متخذا العقلانية مرجعية لنقد الحقائق الدينية متعصبا لمقولات هي أصلا محل خلاف حتى داخل سياق الفلسفة العقلانية ذاتها! بل أنتجت عنها مراجعات نقدية جذرية، بينت محدوديتها وسقوطها في وهم الإطلاق الوثوقي.

ولهؤلاء وأولئك أقول: ليس ثمة عقلانية واحدة بل عقلانيات متعددة مختلفة، ومن ثم يخطئ من يحسبها أو يعاملها بوصفها مذهبا متجانسا فيحكم عليها بحكم واحد جاهز، سواء كان هذا الحكم بالقبول أو الرفض.

ولذا أرى أن هذين الموقفين يحملان مقدارا غير قليل من التوهمات والاختلالات المنهجية والمعرفية، وذلك نابع في تقديري من سوء فهم لمدلول العقلانية من جهة وعدم إدراك لتعدد أنماطها من جهة ثانية، وما كان لسوء الفهم إلا أن ينتهي إلى سوء الحكم؛ فهنا تصح المقولة المنطقية القديمة "إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره".

ولذا يصبح التحديد الدلالي لمفهوم العقلانية، والوعي بتعدد أنماطها الإبستملوجية والمذهبية مقدمة تصورية لها أولوية منطقية على إنتاج الأحكام ! ومن ثم فوضعية سؤال العقلانية في واقعنا العربي تحتاج إلى تغيير ينقله من مطلب تحديد الموقف (مع العقلانية أو ضدها) إلى وضعية سؤال دلالي يتم فيه الوعي بمعنى منفتح للعقلانية وإدراك لتعدد أنماطها.

ما معنى العقلانية؟
إذا كان مفهوم العقلانية من المفاهيم المحورية في الفكر الفلسفي، فإنه أيضا أكثرها خضوعا للجدل والسجال والاختلاف بدءا من تحديد اصطلاحي للمدلول وانتهاء بتحديد معياري للموقف منها.

والاختلاف في تحديد الدلالة بلغ درجة تحويل المفهوم إلى دال لفظي ملتبس، ويكفي لإدراك ذلك استحضار التعاريف المعطاة في المعاجم والقواميس.

وقد لاحظت أنه حتى الموسوعات الفلسفية المتخصصة أسهمت أحيانا كثيرة –بحكم تمذهبها– في تعميق الالتباس! فإذا كان معجم الفلسفات الكبرى الذي ألفه نخبة من الباحثين الفرنسيين تحت إشراف لوسيان جيرفانون يعرف العقلانية بكونها "هي الفلسفة ذاتها"؛ فإن المعجم الفلسفي الماركسي -المؤلف تحت إشراف فرولوف- سيحددها بوصفها مجرد مذهب في نظرية المعرفة يتسم بالضيق والمحدودية، ولا ينسى أن يختتم بنغمة مؤدلجة قائلا "إن ضيق العقلانية قد تم تجاوزه بواسطة الماركسية"!

"
التوجه الفلسفي الحسي يعتقد بكون الحواس المصدر الأساس للمعرفة، بينما الفلسفات العقلانية تلتقي في نقد التوجه الفلسفي الحسي والتقليل من القيمة الإبستملوجية لوظيفة الحواس في تأسيس المعرفة
"

وفي القاموس الجديد للدراسات الفلسفية لسيلفان أورو وإيفون فايل يتم تحديد لفظ العقلانية بمعنيين "كل مذهب يشرط المعرفة بالعقل" والمعنى الثاني هو "كل مذهب يرى أن المعارف المقبولة هي فقط تلك التي تأتي من العقل".

وإذا كان هذا المعجم سواء في دلالته الأولى أو الثانية يحرص على تقديم العقلانية بوصفها "مذهبا" فإن جيل غاستون غرانجي يشير في مقالته "العقلانية" بموسوعة أونيفرساليس، إلى أن لفظ "العقلانية" بمعناه العام، لا يشير إلى مذهب، مثلما هو الحال بالنسبة لألفاظ "المثالية، الواقعية، التجريبية".

ولذا فالمسلك الذي يراه ممكنا في تحديدها هو "جعل العقلانية مخالفة للاعقلانية". وبناء على هذا الخيار المنهجي الذي سلكه غرانجي يمكن أن نقول إنه من ناحية التوصيف المنطقي فإن التعريف الذي يراه ممكنا إنجازه للعقلانية ليس حدا بل "تعريفا بالسلب".

ومعلوم في المراتب المنطقية للتعاريف أن التحديد بالسلب يحتل مرتبة هابطة في السلم المنهجي للتعريف. ولست أقول بإمكان التحديد الماهوي، بل إذ أشير إلى تفاضل المراتب المنطقية للتعاريف، فذلك لأنني أريد التنبيه إلى أن لجوء غرانجي إلى نمط التعريف بالسلب دلالة على تعذر واستعصاء التحديد المباشر للمفهوم.

ومما يجدر ذكره لتوكيد تعددية أنماط العقلانية أن غرانجي يذهب في تعريفه إلى جواز وصف مذاهب واتجاهات فلسفية جد متباينة بأنها كلها عقلانية، حيث يضم تحت هذا المسمى الأفلاطونيين والأرسطيين والأبيقوريين والرواقيين وحتى البيرونيين !! وهذا دليل عنده على اتساع المفهوم وعدم مذهبيته.

أما في المعجم الفلسفي العربي فنجد جميل صليبا يميز بين نمطين من العقلانية سماهما مطلقة ونسبية، ولتحديد البعد الإبستملوجي للعقلانية يقول "القول إن المعرفة تنشأ عن المبادئ العقلية القبلية والضرورية لا عن التجارب الحسية، لأن هذه التجارب لا تفيد علما كليا."

ويضيف صليبا "القول إن وجود العقل شرط في إمكان التجربة، فلا تكون التجربة ممكنة إلا إذا كان هناك مبادئ عقلية تنظم معطيات الحس. فإذا عددت هذه المثل وتلك المعاني والصور شرطا ضروريا وكافيا لحصول المعرفة كانت العقلانية مطلقة، وإذا عددتها شرطا ضروريا فقط كانت العقلانية نسبية."

ومن الملاحظ في هذا التعريف أن العقلانية تقابل التجريبية في حقل "نظرية المعرفة" وهذا التقابل هو ما تحرص الأبحاث الكلاسيكية على توكيده.

فالتوجه الفلسفي الحسي يعتقد بكون الحواس المصدر الأساس للمعرفة، بينما الفلسفات العقلانية بدءا من أفلاطون إلى ديكارت ولايبنتز ومالبرانش.. هي على الرغم من تبايناتها الكثيرة تلتقي في نقد التوجه الفلسفي الحسي، والتقليل من القيمة الإبستملوجية لوظيفة الحواس في تأسيس المعرفة.

نحو تعريف بديل ومستوعب
إن هذا التعقيد الذي يسم المفهوم، وهذا التباين الشديد الذي يشهده واقع السجال حول مسألة العقلانية، والخلاف الشديد في تحديد مدلولها يستلزم الاحتراس من إطلاق الأحكام الاختزالية الجاهزة، والحرص على بناء دلالة قادرة على استيعاب تعدد ألوان المفهوم واحتمال تعدد تياراته "المذهبية".

فلنحاول في سطورنا التالية معاودة النظر في سؤال العقلانية بقصد تحديد دلالتها على نحو يُمَكننا من الناحية الإجرائية من إنجاز مطلبين اثنين هما :
أولا: الإمساك بمعنى المفهوم من جهة.
ثانيا: استيعاب تعدده الفلسفي والمذهبي من جهة أخرى.

وفي هذا السياق أقول: يمكن أن نعرف العقلانية بكونها توجها معرفيا يعتقد بأولوية العقل؛ ثم تتفرع من بعد ذلك إلى توجهات فلسفية متباينة ومختلفة، يمكن أن نختزلها في توجهين رئيسين هما:

*اتجاه يعترف بوجود مصادر أخرى للمعرفة وإن أعطى للعقل مرتبة أولى.
*ومن هنا تصبح الأولوية بمعنى إبستمولوجي ينحصر في ترتيب مصادر المعرفة.

واتجاه ينكر أن يكون ثمة مرجعا أو مصدرا معرفيا غير العقل، فتصير الأولوية عنده أوحدية.

بمعنى أننا نختزل الاتجاهات العقلانية في اتجاهين رئيسين هما اتجاه الأولوية، واتجاه الأوحدية.

هذا من جهة دلالة العقلانية من حيث علاقتها بالعقل كأداة ومرجع معرفي. أما من حيث رؤيتها الأنطلوجية فيمكن أن أقول:

إن العقلانية موقف فلسفي يقوم على ما يمكن أن نسميه ثنائية "العقل العارف، والعقل المحايث". فالعقل المحايث هو العقل الكامن في الوجود، بمعنى أن الفرضية الأساس في الفلسفة العقلانية هي أن الوجود منتظم على نحو معقول.

"
العقلانية تلوينات معرفية وفلسفية عديدة, ومن ثم فالحكم عليها بحكم إجمالي عام هو انزلاق في مزلق التعميم المخل, ولذا فالقول إن العقلانية مخالفة للدين أو متفقة معه مجرد كلام عائم لا يساوي في معيار التحقيق العلمي أي قيمة معتبرة
"

ومعقولية الوجود هي الشرط الأساس للمكون الأول من الثنائية أي العقل العارف؛ فلا يكون العقل عارفا إلا لأن الموجود قابل للمعرفة، ولا يكون هذا كذلك إلا لأنه معقول.

فمعقولية الوجود فرضية أساس إذن في الفكر العقلاني كما في الفكر العلمي. نقول بهذا رغم نقدنا لبعض المواقف الفلسفية التي انزلقت إلى الزعم بتحديد نهائي لطبيعة معقولية الكون.

فمثل هذا الزعم سقوط واضح في الوثوقية. وقد بينت الأبحاث الفيزيائية المعاصرة، خاصة في الحقل الكوانطي، عن زيف ما حدده العقل العلمي الكلاسيكي من قوانين ومحددات لمعقولية الوجود، وأكد أنه مجرد توهم ناتج عن تعميم مخل.

وعود إلى تمييزنا الأول لدلالة العقلانية بين اتجاه الأولوية واتجاه الأوحدية، لنسجل بناء على هذا التمييز الملحوظة التالية:

من الصعب اعتبار العقلانية مذهبا متجانسا وموحدا في المبدأ والتفاصيل والحيثيات المعرفية. ومن ثم فالذين ينساقون إلى إنجاز حكم تعميمي واحد هم مخطئون، وخطأهم كامن في التصور ابتداء، ومنه انتقل إلى الحكم.

فالعقلانية تلوينات معرفية وفلسفية عديدة. ومن ثم فالحكم عليها بحكم إجمالي عام هو انزلاق في منزلق التعميم المخل. ولذا فالقول إن العقلانية مخالفة للدين أو متفقة معه مجرد كلام عائم لا يساوي في معيار التحقيق العلمي أي قيمة معتبرة.

فليست العقلانية متفقة ولا مختلفة إنما ثمة أنماط عقلانية متعددة ينبغي تقييم كل واحدة منها على حدة، ومعايرتها هي بحد ذاتها.

أما هذه الأحكام النزقة التي يصدرها بعض الفقهاء على المناهج والمفاهيم الفلسفية والعلمية فهي تقديري تحمل الكثير من الجهل بالموضوع الذي تتسرع إلى الحكم عليه قبل درسه وبحثه بإمعان؛ وهم بذلك يسيئون إلى ديننا وإلى فكرنا الإسلامي، من حيث يظنون أنهم يحسنون!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.