هو مسلسل الثور الأبيض

هو مسلسل الثور الأبيض



عرض إسرائيل الانسحاب من الجولان مقابل توقيع اتفاقية سلام مع سوريا لم يكن بالأمر غير المتوقع كما ذهب البعض, بل هو المتوقع الآن أكثر من أي شيء آخر.

ولهذا, وقبل ستة أيام فقط من تقديم إسرائيل هذا العرض لسوريا حدثت الرئيس الأسد -في اجتماعه بالمشاركين في مؤتمر تجديد الفكر القومي- بهذا الموضوع لكوني اعتبرته الأكثر إلحاحا من أمور عديدة أخرى تجري الآن وسوريا طرف فيها.

ومما قلته أن إسرائيل تؤثر أن تفاوض العرب وهم في حالة ضعف, إلا أن المرجح الآن أن تسعى للتفاوض مع سوريا رغم أن الأخيرة في موقع قوة بعد النصر السياسي والعسكري البين لمحور الممانعة, بل ولا يستبعد أن تعيد إسرائيل كامل الجولان وحتى حقوق المياه وغيرها.

"
عرض إسرائيل الانسحاب من الجولان مقابل توقيع اتفاقية سلام مع سوريا لم يكن بالأمر غير المتوقع كما ذهب البعض, بل هو المتوقع الآن أكثر من أي شيء آخر
"

وسؤالي للرئيس الأسد كان عن موقف سوريا مما توقعت أن تطلبه إسرائيل في المقابل واستعداد سوريا للقبول به أو رفضه, أو على الأقل إدارته بما لا يحقق غايات إسرائيل المبطنة من هذا العرض.

وأكتفي هنا, لأطمئن القارئ الذي لديه مخاوف مماثلة لما كان لدي, بأن أقول إن إجابة الرئيس الأسد كانت مطمئنة ودلت على حصافة ودراية واستعداد لما هو آت, لأنتقل في مقالتي هذه إلى تفاصيل ما يجعل عرض إسرائيل ذاك أمراً متوقعاً جدا لا يخرج عن منطق السير التاريخي للأحداث وما هو متوقع من نهج إسرائيل وأميركا (التي أرفض مقولة إن الأمر جرى دون علمها وبعكس إرادتها) في التصرف في ضوء أحداث كهذه.

والقصة هي قصة "الثور الأبيض" التي جرت مجرى الأمثال, وهي قصة توجز, في تكرار لا يكلّ, مجريات الصراع الصهيوني مع الأمة العربية جمعاء.

فتاريخ سير الصراع مع إسرائيل -الذي حددت هي في الأغلب مكان وتوقيت معاركه (وهو السبب الرئيس إن لم يكن الوحيد لكلتا النتيجتين: انتصارها في أغلبها وانتصارنا في القليل منها)- هو معارك مع "الثور الأبيض".

في البداية كان الثور الأبيض هو حركة التحرير العربية التي كانت مشتعلة منذ ما قبل الحرب العالمية الثانية. ولكن الحلفاء في الحرب قاموا باختراق حركة التحرير تلك ولعبوا على ذات الداء الذي ما زال يودي بنا أنظمة وأقطارا وأمة, وهو نزعة السيطرة بدلاً من الوحدة وتغليب مقاعد الحكم على مقومات التحرر والسيادة, مما سهل تحويلنا لأقطار مقتطعة لأنظمة متصارعة متنابزة. وبذات الهدف وظفت علينا حتى الجامعة العربية في مراحل ومفاصل بعينها.

ومن بعد تشتيت واختراق حركة التحرر العربية, أصبح الثور الأبيض هو الشعب الفلسطيني, لجعل فلسطين فعلاً "أرضا بلا شعب". وهي عبارة قصدت ترويج مزاعم بأن المنطقة يقطنها سكان قليلو العدد لا هوية سياسية لهم، ويمكن بالتالي أن ينقلوا خيامهم إلى أي جزء آخر من محيطهم العربي الشاسع.

ويجب أن يستوقفنا هنا أن الغرب الاستعماري تعمد حينها أن يسمي كامل المنطقة العربية "Arabia" أي "بلاد العرب", في حين هو يخطط لتقسيمنا إلى دويلات، ويصر على وجود اختلافات جذرية بين سكان تلك الكيانات تحول دون انصهارهم في بوتقة وحدوية, بل ويبحث عن فروق تأتت من التعددية العرقية والطائفية ضمن الدويلة الواحدة ليختلق كيانات أصغر فأصغر.

"
بعد تشتيت واختراق حركة التحرر العربية, أصبح الثور الأبيض هو الشعب الفلسطيني, لجعل فلسطين فعلاً "أرضا بلا شعب", وهي عبارة قصدت ترويج مزاعم بأن المنطقة يقطنها سكان قليلو العدد يمكن نقلهم إلى أي جزء آخر
"

وللقضاء على هذا "الثور الأبيض" الفلسطيني الذي يلي حركة التحرر القومية العربية على قائمة الصهاينة, جرت حملات إبادة وتشريد الشعب الفلسطيني في كافة أصقاع الدنيا ومحاولة إلغاء هويته بتدمير أو الاستيلاء على بنيته الحضارية التحتية وزعم يهوديتها. وآخر ما استهدفت به الهوية الفلسطينية هو مخططات قسمة الشعب الفلسطيني الواحد إلى "داخل" و"خارج "!!.

وبعد حرب الـ48 التي أقامت الكيان الصهيوني بالقوة, وفور قيام ثورة الضباط الأحرار في مصر عام 1952 -التي بدأت بذورها في فلسطين وفي الفالوجة تحديدا- أصبح النظام الناصري هو "الثور الأبيض".

ومن هنا كل الحروب والمؤامرات السياسية والعسكرية والاستخباراتية ضد مصر. وحتى لو ثبت أن وفاة عبد الناصر كانت طبيعية فهي لا تنفي حقيقة مخططات التخلص منه تمهيداً لاختراق قيادة مصر بعدها وقبل حرب أكتوبر/تشرين (وهو ما تكشفه الوثائق والمؤرخون الثقات), مما حال دون أن تفاوض مصر من موقع قوة بعد نجاح جيشها في تحقيق نصر مشترك مع سوريا في حرب عام 1973.

فكانت معاهدة كامب ديفد التي أنهت دور مصر القيادي القومي, ولم تحرر سيناء كما توضح الخرائط والشروط المرفقة وكما يتبدى من أزمة مصر الآن على حدودها مع غزة.

يضاف لهذا "التطبيع" الذي هو مطلب إسرائيل الأول والأهم من عقدها ما يسمى اتفاقات سلام, لكونه يتيح لها أذرعاَ عديدة مرئية وغير مرئية تتغلغل بها في الشأن السياسي والاقتصادي وحتى الأمني للدول التي تطبع معها.

وأثناء إتمام اتفاقيات "السلام" تلك برز العراق "ثورا أبيض" جديدا لحظة إنهائه الحرب مع إيران. والقول إن أميركا قادت جيوش ثلاثين دولة لتحرير الكويت غير منطقي لكونه يجعل أميركا مجرد جيش مرتزقة يخدم أهدافا من يؤجرونه, وهو عكس لمنظومة الأدوار الدولية أكثر من ساذج.. المطلوب حقيقة كان ذبح وأكل الثور الأبيض.

ولهذا لم يكف "تحرير" الكويت, وكان لابد من الحصار والقصف والتدمير "لإعادة العراق إلى ما قبل عصر الصناعة" (حسب تصريح الساسة الأميركان) ثم حرب الاحتلال الأميركي/البريطاني التي هدفت لإبادة الشعب العراقي وإلغاء هويته وتدمير حضارته ومحاولات تقسيم شعبه إلى شعوب: أي ذات ما جرى للفلسطينيين, ولكن بوحشية أكبر وفي فترة أقصر بكثير, لكون إسرائيل وأميركا كانتا قد دجنتا غالبية العالم العربي وألحقتاه بمعسكرها بأوهام "السلام" و"الأمن"!.

هنا تحولت سوريا -وحدها التي بقيت ممن ذهبوا إلى مدريد خارج هذه المنظومة وساعدت على إبقاء لبنان- إلى "الثور الأبيض" الجديد.

وأصبحت البند التالي على قائمة الاحتلال والإبادة والتقسيم وطمس الهوية والتدمير عوداً بها هي أيضاً إلى ما قبل عصر الصناعة, لولا توالي فشل الاحتلال في تثبيت قدميه في العراق بسبب المقاومة التي اشتعلت منذ اليوم الأول.

وبين ثنايا هذا ظهرت إيران قوة تنافس أميركا على النفوذ في العراق, بحيث سادت مقولة إن أميركا احتلت العراق لتفتحه لإيران!! ولم تنفع محاولة "احتواء" النفوذ الإيراني في العراق بعد أن أسقط وأعدم من احتواه لأكثر من عقدين. بل وقويت إيران بما يكفي لتعلن ما معناه أنها دخلت النادي النووي.

"
إيران أصبحت هي الثور الأبيض بدل سوريا, ولكن في الطريق إلى حليفتها السياسية سوريا, لكون العالم العربي بنفطه وكامل مزايا جغرافيته هو الهدف الأول الموحد للمخططات الإسرائيلية/الأميركية 
"

وفي الوقت نفسه, وثقت إيران علاقاتها بسوريا, وثيقة الصلة بدورها بالمقاومة اللبنانية والفلسطينية معاً. أي أن تنامي قوة هذا المحور أعاد إٍسرائيل إلى المربع الأول لكونه بات يهددها في الداخل الذي ظنت أنه لم يعد فلسطينياً, بل أصبح بأكمله إسرائيليا بانتظار آخر ترتيبات عزل من سيبقى من فلسطينيي "الداخل" في كنتونات ما وراء "الجدار", وفي الوقت نفسه إلحاقهم سياسيا واقتصادياً بإسرائيل ضمن المخطط الذي أعلنه المنظر والمؤرخ الأميركي اليهودي ساتلوف تحت مسمى "البينلوكس الثلاثي", الذي يضم الأردن أيضاً باعتباره وطنا بديلا يغلف بمسمى الفدرالية أو الكونفدرالية.

وليس هذا فقط ما هدده محور الممانعة الذي بدأ يقوى إستراتيجياً, بل هدد أيضا هيمنة أميركا على المنطقة, وبالذات الخليج الغني بالنفط الذي لأجله احتلت أميركا العراق. وهكذا أصبحت إيران هي الثور الأبيض بدل سوريا, ولكن في الطريق إلى حليفتها السياسية سوريا, لكون العالم العربي بنفطه وكامل مزايا جغرافيته هو الهدف الأول الموحد للمخططات الإسرائيلية/الأميركية.

إسرائيل ستعطي الجولان وحقوق المياه وغيرها لسوريا, ولكنها ستطلب مقابلها أموراً عدة أهمها أولاً: ما تسميه "أمنا متبادلا" وهو الالتزام بعدم الاشتراك في/ أو السماح لأي جهة باستعمال الحدود أو الأراضي السورية للإضرار بأمن إسرائيل, والالتزام بعدم التحريض على إسرائيل.. والأخير لا يعني فقط وقف دعم الفلسطينيين للحصول على حقوقهم, بل وسيصل لإنكار سوريا لتاريخها الوطني والقومي وإدانته وصولاً لتغيير مناهجها بما يحقق مسخ الذات المطلوب.

وهذا, إضافة لكونه مطلوباً بحد ذاته لتكريس حق ودور إسرائيل في الأرض العربية وهيمنتها على المنطقة, سيعمل من فوره على كسر طوق الممانعة وكسر شوكة المقاومة في لبنان وفلسطين, مما يجعلهما أكباشاً في المسلخ الإسرائيلي.. وسيعمل على عزل إيران ومنع أي علاقات مستقبلية لها مع العالم العربي, مما لن يحرم العرب من مزايا تلك العلاقات على المستوى المدني فحسب, بل سيحرمها من حليف إستراتيجي عسكري يعيد توازن القوى في مواجهة التغول الصهيو/أميركي على هذا الجزء من العالم.

ولكن الأسوأ من هذا أن عزل إيران سيكون على الأرجح التمهيد اللازم للقيام بحملة عسكرية كبرى ضدها على شاكلة ما جرى للعراق (لكون الخوف من استثمار حزب الله وحماس للاشتباك يكون قد زال), مما يحتم كماً من الدمار يفوق الآثار السلبية لاستعمال أسلحة محظورة في دولة جوار (وهو للأسف ما قزم العرب احتلال العراق إليه وإن لم ينجُ من آثاره المدمرة على البيئة وعلى أمن واستقرار دول المنطقة)، لتتحول دول الجوار والخليج العربي كله إلى الساحة الحقيقية للمعركة.. وإيران لن تلام على ذلك ما دامت تلك الدول فتحت أراضيها وأجواءها ومياهها الإقليمية للقوات المعتدية.

وثانياً, إسرائيل ستطلب "التطبيع" الذي هو وسيلتها لاختراق سوريا ليس فقط سياسياً واقتصادياً, بل وأمنياً. وهنا يجب أن نستذكر أحداثاً من مثل محاولة اغتيال خالد مشعل وسط عمان (وهو ما تطوع نتناياهو لتأكيد أن إسرائيل ستكرره كلما واءم ذلك حاجاتها الأمنية في مؤتمر صحفي مع وفد أردني زائر برئاسة الأمير الحسن ولي العهد حينها، لا أقل) والقبض على جواسيس إسرائيليين ومصري وظفته إسرائيل في القاهرة, وأيضاً القبض على أكثر من جاسوس يعمل لصالح إسرائيل في التجسس على الأسرار العسكرية لحليفتها العسكرية السياسية أميركا, لا أقل!.

وبعد الانتهاء من إيران, ستعود سوريا لتصبح "الثور الأبيض", لأسباب عدة في مقدمتها تاريخها وثقافتها العروبية التي لا تزول بقرار حكومي ولو قبل بإصداره النظام السوري (وهو ما نجزم بأنه لن يحدث، على الأقل لأن هذا هو المقوم الرئيس لقيام وبقاء النظام السوري داخلياً ولدعمه عربياً), وأيضا لمكانتها ومقدراتها العديدة الأخرى.

"
الخوض في مباحثات علنية بين سوريا وإسرائيل سيجعل كامل الشعب السوري -موالاة ومعارضة- يتوحد ويصطف خلف قيادته, مما سينتج مزيداً من الثقة بمتانة الجبهة الداخلية مما يشجع على المسارعة في الإصلاحات الداخلية
"

وفي النتيجة, يستحيل أن يضحي الشعب والنظام السوري بكل هذا وهو يعرف ما ينتظره بعده من تجارب إخوته العرب وفي مقدمتهم العراق الذي هو النصف الآخر "لسوراقيا".

بل على العكس من هذا, فإن الخوض في مباحثات "علنية" (السرية في المقابل تزرع الشك فوراً في النظام) مع إسرائيل سيجعل كامل الشعب السوري, موالاة ومعارضة, يتوحد ويصطف خلف قيادته, مما سينتج مزيداً من الثقة بمتانة الجبهة الداخلية مما يشجع على المسارعة في الإصلاحات الداخلية, والأخيرة بدورها ستزيد من قوة تلك الجبهة كما ستعزز الدعم الشعبي العربي لسوريا.

لهذا, فإن قبول العرض الإسرائيلي وإطلاق المباحثات العلنية من مصلحة سوريا.. ولا يهم إن لم تسفر عن تحرير الجولان سلما, فاستعادة البعض لا تبرر خسارة الكل, خاصة مع التنامي المتسارع لإمكانية تحرير الجزء المحتل بالقوة.

وما أنجزته أطراف محور الممانعة من تحرير أو انتصارات أخرى عسكرية وسياسية نوعية في جنوب لبنان والآن في غزة (رغم التضحيات التي جرب مثلها في حرب يوليو/تموز 2006 وثبت أنها لم تكن مجانية), دليل على تغير رئيس في مجرى المواجهات القادمة مع إسرائيل.. وفي سوريا مثل شعبي يقول "اللي في بيت أهله على مهله".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.