السلفية والإخوان.. التوسع والانكماش

السلفية والإخوان.. التوسع و الانكماش



فاتح كريكار

كل تيار فكري لا ينضبط بمجموعة من الضوابط الأصولية والحركية هو حرث في البحر. وكل حركة فكرية أو سياسية لا تنظِّر رؤيتها لا تستطيع حماية مسارها، لأن اختراقها سيصبح سهلا لا محالة. ولا توازن ولا استقلالية عند الاختراق.

"
من الغريب أن يغفل أصحاب الدعوة الربانية وزعماء العمل الإسلامي عن قانون التدافع الرباني، والأغرب أن يتخلوا عن الجهاد الذي أكسب الحركة الإسلامية في فلسطين شعبية لن يحصل عليها غيرهم بميزانية الدول
"

تعود السلفية منهجا للتلقي، ونمطا للتدين السليم إلى زمن الصحابة. ودعوتها للالتزام بالكتاب والسنة في مواجهة التعصب المذهبي قديمة كذلك قدم المذاهب الفقهية خصوصا بعد أئمتها الكرام، وهي موصولة من مكحول والأوزاعي مرورا بابن تيمية وتلامذته وبالشوكاني والصنعاني وصديق حسن خان وغيرهم إلى الشيخ الألباني والشيخ بديع الدين السندي والشيخ مقبل الوادعي.

أما السلفية كحركة تغيير اجتماعي هيأت أرضية صالحة للتغير السياسي فهي حديثة الاتجاه نسبيا مقارنة بخطها التاريخي، كدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية أو السيد أحمد الشهيد في شبه القارة الهندية وغيرهما.

أما ظهور السلفية دعوة فكرية ورؤية سياسية ومنهج تغير وحركة تستهدف تحكيم الشرع من جديد، فتاريخها لا يتجاوز عقودا، إذ سبقها الإخوان المسلمون في مصر وغيرها بأشواط في الفكر والممارسة، والنظرية والتطبيق.

والتساؤل اليوم عن تنظير التيار السلفي غير الجهادي أولا ورؤيته لواقع المجتمع الحديث، دون التيار السلفي الجهادي الذي لا يزال يشبه الحارس الواقف في عالم الفكر والتغير السياسي.

هل التيار السلفي لا يؤمن بالتنظير أصلا أم يؤمن ولكنه يجهل أهميته، أم يثمنه لكنه لا يجد منظرين له، أم وجده فعلا ولكن قوة الخصم حجَّمهم وحجبهم عن الأمة؟

الجواب مهما يكن لا يخفي إشكاليات في التنشئة الاجتماعية للتيار السلفي بصورتها البطيئة منذ الولادة، أشير أنا هنا إلى نقطة سلبية واحدة لدراسة تفاديها وإلى نقطة إيجابية للتعلق بها وتعميقها شرعا في الأمة.

اختلافات التنشئة وتشتت الجهد الباني:
وكان ذلك نتاجا طبيعيا للغبش الذي كان على رؤية أجنحة التيار السلفي، وما أكثرها وما أصعبها انقيادا.

– رفضت السلفية العلمية منذ النقاش الأول كل ألوان التنشئة الجماعية السياسية واعتبرتها بدعة العصر، ونصحت بتجنبها مرجعيات سلفية كانت عالمة بالفقه الموروث ضحلة في الفكر والسياسة وفهم الصراع الحضاري.

– ثم ظهرت بعد الثورة الإيرانية رؤية سلفية أخرى تشبه العمل الجماعي المنظم، وإن لم تكن مؤمنة في ذاتها كثيرا بالعمل الجماعي لكنها رأت سنة مؤكدة تبرر وجوده في محاربة التشيع والصوفية. فبدؤوا معركتهم بآليات اختلافات العصور المنصرمة، ولم يدم الأمر طويلا حتى أصيبوا بخيبة أمل في إيقاف الزحف الإيراني.

– ثم ظهر تيار سلفي آخر، رسمي مسيس يضرب يمنة ويسرة في معركة دونكيشوتية ضد كل الجماعات الإسلامية من أقصى التبليغ إلى أقصى الإخواني والجهادي، تيار أصبح جزءا من مخابرات حكوماتهم أو حليفاتها الغربية ضد كل عمل يزرع أمل استئناف الحياة الإسلامية من جديد.

وسرعان ما تحول هذا التيار إلى جراثيم في الجسد السني المشلول، مقلدا فيروسات الإيدز حركيا، حيث بدأ بهجوم غير رحيم على كل ما يمت إلى العمل السياسي الإسلامي المنظم.

– ثم ظهر تيار سلفي آخر سياسي نظم نفسه في برامج انتخابية ليشارك الآخرين بالقدر المسموح له به لتوازنات القوى في البرلمان.

اقتنع أتباع التيار أنهم لا يعيشون في كهوف معزولة ولا يتحركون في وهاد قاحلة، رأوا أنفسهم وسط مجتمع لأفراده حدود، تنتهي بحدود غيرهم وهم من أقصى الكفر والإشراك، فشرعوا المسير.

أخطؤوا وتعلموا، نظموا واقتحموا، وفي البداية كان الحضور على استحياء في السودان وباكستان وخجولا في الكويت، لكن لم يمض عقد ونصف العقد حتى شكل ثقلا في الكويت، وها هو اليوم بعد ثلاثة عقود يشكل أكثر من خمسي البرلمان الكويتي، في وقت تراجع فيه الحضور الإخواني الأقدم إلى النصف.

– وظهر في البلاد الآمنة نسبيا تيار سلفي آخر أنشأ مراكز البحث لتقييم حالة الأمة عموما، ولرصد وتقديم ما ينير الدرب للعام دون أن يكتب لخاصة السلفية، مقتنعا بأن النهوض بعموم الأمة حكاما ومحكومين، رغم تباين الرؤى.

– هذا كله في جانب وتيار سلفي جهادي قائم منذ عقدين رغم العدا يصول ويجول.

"
بروز التيار السلفي في الساحة السياسية والجهادية وانفراده بالريادة في بعض البلدان من مبشرات الخير، وتقدمه إماما لاستنهاض الأمة من جديد يحمله مسؤولية أكبر في التأصيل الشرعي للمواقف
"

فمن يكتب نظرية استرشاد أصولي تجميعي للتيار يا ترى، والكل يتكلم باسمه ويرفض الفروع الأخرى ابتداء؟ هذا المنطلق الهائم الذي تجده عند التيار السلفي لا تجده في الإخواني، لأنك ترى عند الإخوان ما يشبه مدارس فرعية في مدرسة الإخوان.

فالشيخ يوسف القرضاوي وعلي جريشة وكمال الهلباوي من مصر ليسوا كالشيخ أبو غدة وسعيد حوى والبيانوني (في سوريا) أو فيصل مولوي وفتحي يكن (من لبنان) أو محمد أحمد الراشد (من العراق) أو صادق عبد الماجد (السودان) والغنوشي في تونس وغيرهم.

ترى الجميع هنا يكمل كل منهم ما لدى الآخر، في الوقت الذي ترى فيه كل جزء متشرذم من التيار السلفي تقريبا يرفض الأجزاء الأخرى من التيار.

والسبب واضح، وهو أن الإخوان انطلقوا من أرضية فكرية واحدة، نشأت عليها جماعة سياسية واحدة لها رؤية ومنهج، ودعوة تربية منهجية طويلة النفس.

عندما أنشأ الإمام البنا رحمه الله الإخوان المسلمين في 1928 ظل حتى اغتياله عام 1949 منظرهم الوحيد. واستطاع بكتاباته القليلة أن يرسخ نظرية عمل -بغض النظر عن قبولنا لها أو رفضنا إياها- مازالت هي الإطار العام للعمل الإخواني في كل مكان.

فلم تتشتت الرؤية الإخوانية ابتداء. إذ أرشد الإمام البنا الفكر والفقه معا، والسلوك والحركة معا، وصهر الكل في بوتقة تنشئة جماعية آصرتها الولاء الكامل للجماعة باعتبارها تمثل الإسلام واقعا حيا نابضا بالحركة والحياة.

فالأصول العشرون التي كتبها الإمام البنا كراسة صغيرة مثل كتاباته الأخرى، لكنها تتضمن الرؤية والأرضية التي تقوم عليها الجماعة في كل مكان.

وإن ما كتبه سيد قطب في رأيي المتواضع هو تأصيل لعمل الإمام البنا وهو في غاية الأهمية للفترة الناصرية، لكن قيادة الإخوان منذ سبعينيات القرن الماضي رفضته معتبرة أنه دخيل على الخط العام للجماعة.

لذلك قامت عشرات من قادة الجماعة من أمثال الدكتور علي عبد الحميد محمود وجمعة أمين عبد العزيز وعبد الله يوسف الحسن بقولبة نظرية الإمام البنا تأصيلا وتفصيلا حماية لها مما كتبه سيد قطب وبديلا عنه.

فالإخواني إذن له رؤيته الواضحة -أيدناها أو عارضناها- في الموروث الفلسفي عن الكون والحياة والإنسان، وفهم مفرداتها. وكذلك عن العقيدة والعبادة والشريعة ومفردات كل منها كذلك. ثم عن مصادر التلقي وآليات الفهم وكيفيته، وكذلك عن الإيمان وحقيقته، والكفر وحكمه، والموقف الجماعي من أهلهما.

أهمية الثوابت وحمايتها من آثار الغزو في توظيف الطاقات:
عندما واجه الإخوان في مصر حملات الاستئصال الناصري الحقود في الستينيات صبر قادة الإخوان صبر الرجال الربانيين ولم يتزعزعوا في الدفاع عن ثوابت الأمة، دعوة وأمة وحاكمية، فازدادت أنصارهم رغم المحن، وازدادوا هم ثباتا كذلك رغم الإحن، لأن من طبيعة هذه الدعوة أنها تنمو كما ونوعا في الصراع، لأن الصراع يوظف مكنونات الرجال.

لذا كان ملازما لدعوة الأنبياء المسالمة: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين).

"
نجاح التيار السلفي في الكويت في الحصول على ثقة مجتمعه نجاح نوعي داخليا وخارجيا وتغيير مؤثر سيكون لذويه صدى أبعد من حدوده الجغرافية، إلى شرائح الأمة في كل مكان.
"

نرى الإخوان المسلمين في مصر ولحد الآن يتربي أتباعهم على آهات السجون، وما زال التنظيم متماسكا وفي تقدم ملحوظ لا منافس له، بينما الإخوان الذين تخلوا عن ثوابت الأمة ومنها الإصرار على حاكمية الشرع تراهم في تراجع في سوريا والأردن، كما ترى تراجعهم في تونس والجزائر، وكذا الأمر في السودان والمغرب. وأخيرا في الكويت.

ورأت الأمة الإخوان المسلمين في الجهاد الأفغاني على الحياد، يوم كانت كتائب السلفية تترعرع في ساحات الوغى، وقد كان مبرر المرشد العام محمد حامد أبو النصر رحمه الله أن حكومتنا (ويقصد حكومة حسني مبارك) لم تسمح لنا بذلك.

ثم رأت الأمة الإخوان في العراق لم يظهروا إلا في مشاريع الاحتلال، رغم أمر المراقب العام للإخوان الدكتور عبد الكريم زيدان وفتاوى العلماء وفي مقدمتهم رئيس رابطة علماء العراق الشيخ عبد الكريم المدرس رحمه الله بفرضية الجهاد وكان عمره المبارك 103 سنوات.

ثم رأت الأمة عجز الإخوان في الأردن ومصر عن إغاثة إخوانهم في التنظيم (وهم إخواننا في العقيدة كذلك) في فلسطين وقد رأى الجميع تكالب الأمم عليهم ظلما وعدوانا، فرأت الأمة أن الإخوان تخلوا في كل مكان عن ثوابت الأمة، وشعرت بعجز التنظيم الإخواني المتماسك في إغاثة ملهوف. فمتى الوصول إلى ظل الشريعة الوارف؟

من الغريب أن يغفل أصحاب الدعوة الربانية وزعماء العمل الإسلامي عن قانون التدافع الرباني، والأغرب أن يتخلوا عن الجهاد الذي أكسب الحركة الإسلامية في فلسطين شعبية لن يحصل عليها غيرهم بميزانية الدول.

وبالمقابل نرى التيار السلفي البارز خلال الأعوام الثلاثين الأخيرة يزاحم الإخوان في الساحتين السياسية والجهادية. مع ما نرى من هجمة عالمية شرسة مجتمعة من قوى الشر الدولي ومركزة بكل طاقاتها على التيار، لكنها تعجز أمامه عن أن تخرج من المنطقة الخضراء، إدارتها تستغيث برؤساء عشائر متمردة عن القيم العربية الأصيلة لنجدتها.

إن بروز التيار السلفي في الساحة السياسة والجهادية وانفراده بالريادة في بعض البلدان من مبشرات الخير، وتقدمه إماما لاستنهاض الأمة من جديد يحمِّله مسؤولية أكبر في التأصيل الشرعي للمواقف.

كما يؤمل فيه بعد الله تعالى أن يحمي الثوابت ويجمع الطاقات المبعثرة وعليها صيانة حرمات المسلمين.

إن نجاح التيار السلفي في الكويت في الحصول على ثقة مجتمعه نجاح نوعي داخليا وخارجيا وتغيير مؤثر سيكون لذويه صدى أبعد من حدوده الجغرافية، إلى شرائح الأمة في كل مكان. فإن أريد له النجاح خارج ساحته وهو المتوقع فلا بد من مزيد من الانفتاح الحركي للحصول على مزيد من الطاقات.
______________________________
مؤسس جماعة أنصار الإسلام في كردستان العراق

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان