الجيش الأميركي يكتوي بنار "الحرب الطويلة"

تصميم لصفحة المعرفة الجيش الأميركي يكتوي بنار "الحرب الطويلة"


– خسائر بليغة
– مخاوف مبررة
– ضرورة سحب القوات

يبدو أن الجيش الأميركي منهك، وأن رقعة انتشاره تزيد على طاقة تحمله, فهو يقاتل في حروب متعددة في العراق وأفغانستان, كما أنه يشارك في كل الصراعات المسلحة الكبيرة عبر العالم ضمن ما يعرف بـ"الحرب الطويلة" أو "الحرب الشاملة على الإرهاب".


"
لا تقل الآثار السيكولوجية العميقة التي خلفتها الحرب على كثير من الضباط والجنود أهمية عن الخسائر الأخرى, لأن واحدا من كل أربعة جنود أميركيين من بين الذين خدموا في العراق لثلاث دورات أو أربع يعاني من مشاكل عقلية ونفسية
"

خسائر بليغة
لكن من بين كل تلك الصراعات تبرز حرب العراق، إذ هي التي سببت أكثر الخسائر للجيش الأميركي, فقد قتل منه حتى الآن حوالي 4000 جندي وأصيب 30 ألفا آخرون بجراح بليغة, وكلف غزو العراق واحتلاله الأميركيين, حتى هذه اللحظة, أكثر من نصف تريليون دولار دون أن تبدو في الأفق أي نهاية لهذا الصراع, فالفاتورة الأسبوعية ثلاثة مليارات والعد مستمر.

ولا تقل الآثار السيكولوجية العميقة التي خلفتها الحرب على كثير من الضباط والجنود أهمية عن الخسائر الأخرى, فحسب استطلاع حديث للرأي يعاني واحد من كل أربعة جنود أميركيين من بين الذين خدموا في العراق لثلاث دورات أو أربع من مشاكل عقلية ونفسية.

ويقول الخبراء الطبيون إن معالجة هذه الأمراض العقلية والنفسية ستستمر سنوات كثيرة وستكلف مليارات الدولارات, ويعبرون عن حسرتهم بسبب ما يعانيه النظام الصحي من نقص في الكفاءات تجعله عاجزا عن توفير الرعاية على المدى الطويل لعدد كبير من الجنود الجرحى الذين يعانون مشاكل عقلية ونفسية.

وقد بدأنا بالفعل نسمع عن بعض التصرفات الناجمة عن الآثار النفسية والعقلية للحرب على العراق من قبيل تزايد نسبة الانتحار بين المقاتلين القدامى في العراق وعدد من قضايا الإساءات العائلية المنذرة بالخطر.

فلم يحدث في السابق أن عانى مثل هذا العدد الكبير من المقاتلين الأميركيين القدامى وعائلاتهم من الانتهاكات العائلية الخطيرة.

والسبب في ذلك أن كثيرا من الجنود الأميركيين قد خدموا لثلاث دورات أو أربع في العراق ومددت فترة انتشارهم من سنة إلى 15 شهرا, لا يفصل فيها بين الدورة والأخرى سوى إقامة عام واحد بين ذويهم.

ولا شك إذن أن العديد من الضباط والجنود يحسون بالإجهاد والألم بسبب دورات الخدمة الطويلة على خطوط الجبهة بعيدا عن الأهل, فهم متعبون ومنهكون ومستنزفون.

هناك سيل من التقارير الصحفية تصف بالتفصيل معاناة المقاتلين القدامى في العراق, فبعضهم يلجأ إلى الانتحار والبعض الآخر يؤذي أحباءه خاصة زوجاتهم.

فالجنود والضباط يحكون تجاربهم المروعة إبان خدمتهم في العراق, وكوابيسهم لا تنتهي حتى بعد عودتهم من الخدمة, فبعضهم يقولون إن الحسرة تتملكهم عندما يجدون بعد رجوعهم إلى الولايات المتحدة أن منازلهم قد دمرت وعلاقاتهم الزوجية وصداقاتهم قد تمزقت, ناهيك عن تدهور أوضاعهم المالية, وهكذا يجدون حياتهم كلها قد تبعثرت.

ولا تتوقف الخسائر على التكاليف البشرية, إذ يبدو أن الحرب على العراق استنزفت معنويات الجيش الأميركي وعرضته لعيوب بنيوية مهمة.

فالصراع في العراق هو في الواقع أحد أكثر الحروب إثارة للجدل والخلاف في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية الحديث.


"
لم تكن الأماني والغطرسة الفكرية التي تعمي المسؤولين المدنيين لتحجب الحقيقة عن مقاتلي الجيش العارفين بما يترتب على الحرب
"

مخاوف مبررة
ومن المهم التنبيه إلى أن كبار قادة القوات المسلحة الأميركية عارضوا في البداية غزو العراق، وأعربوا عن خشيتهم من عواقبه المحتملة, وهم على عكس المسؤولين المدنيين وصناع السياسة في وزارة الدفاع الأميركية والبيت الأبيض المعبئين أيديولوجيا, كانوا يدركون جيدا ما تحتاجه الحرب من تضحيات بالدم والمال.

ولم تكن الأماني والغطرسة الفكرية التي تعمي المسؤولين المدنيين لتحجب الحقيقة عن مقاتلي الجيش العارفين بما يترتب على الحرب.

ومما يدعو إلى السخرية أن يكون الموقف غير المعلن للجيش الأميركي مناقضا لتلك الصورة النمطية التي تظهر المقاتلين الأميركيين، رجالا ونساء، بوصفهم مجرد دمويين ينزعون إلى القتال إلى ما لا نهاية.

والواقع بعيد كل البعد عن ذلك, لأن الجيش الأميركي قدم حكما على غزو العراق هادئا وعقلانيا وجيدا مقارنة مع الحكم الذي أصدره الطاقم السياسي المتهور.

وبالطبع فإن الجيش الأميركي تابع للزعامة المدنية ولا يملك أي خيار سوى تنفيذ الأوامر غير الحكيمة لمحافظي بوش الجدد, لذلك تم تكميم أفواه بعض كبار جنرالات الجيش لأنهم تحدوا السيناريوهات "المثالية" التي روج لها مستشارو الرئيس الأميركي جورج بوش, غير أنه مع شرارة الحرب الأولى تبين أن مخاوف كبار القادة العسكريين كانت مبررة.


ضرورة سحب القوات
ورغم أن الجيش الأميركي استطاع إسقاط نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين بسرعة فائقة، فإنه وجد نفسه غائصا في الرمال العراقية المتحولة.

فالسنوات الخمس التي مرت على الصراع كانت مكلفة لهذا الجيش بشريا وماديا, والتدمير السريع الذي لحق بالمعدات والأجهزة, وضياع أرواح آلاف الرجال والنساء صاحبه نقص في التجنيد يهدد بإصابة الجيش الأميركي بعجز مروع في عدد الجنود.

"
قيام عدد من الجنود الأميركيين بانتهاكات لحقوق الإنسان وتعذيب السجناء العراقيين لوث سمعة الجيش الأميركي كمؤسسة يزيد عمرها على عمر الاتحاد الأميركي، والجنرالات الأميركيون يدركون بصورة كاملة آثار ذلك على مكانة ووضعه
"

ومع أن عدد القوات الجاهزة للخدمة تمت زيادته بـ65 ألف جندي من أصل 547 ألفا جهزت منذ بداية الحرب، فإن الجيش الأميركي الآن يجد نفسه منتشرا في رقعة أكبر من طاقته, فضلا عن كونه منهكا.

ويشكك القادة العسكريون الأميركيون في قدرة الجيش على القتال في حرب جديدة كبيرة, ويقولون إنه من المتوقع أن تتولى القوات الجوية والبحرية الأميركية خوض أي حرب جديدة تدخلها الولايات المتحدة, لأن الجنود منهكون ويحتاجون إلى الراحة بصورة بالغة, حسب جنرال سابق يدعو لانسحاب تدريجي من العراق.

وأهم من ذلك كله الإجهاد المعنوي، وانخفاض المعنويات الذي يعاني منه الجيش الأميركي بسبب اتهامه بانتهاكات حقوق الإنسان وقضايا تعذيب السجناء العراقيين الذي تناقلته وسائل الإعلام على نطاق واسع.

وقيام عدد من الجنود الأميركيين بانتهاكات لحقوق الإنسان وتعذيب السجناء العراقيين لوث سمعة الجيش الأميركي كمؤسسة يزيد عمرها على عمر الاتحاد الأميركي, خاصة أن الجيش الأميركي تم إنشاؤه قبل أن تتحد الولايات.

ويدرك الجنرالات الأميركيون بصورة كاملة أهمية الآثار الموهنة لحرب العراق على مكانة ووضع الجيش, بل إن أحد الجنرالات الأميركيين وصل به الغضب من المسؤولين السياسيين في وزارة الدفاع حد استخدام كلمات السب والشتم, متهما إياهم بتمزيق الجيش.

وأثناء محاضراتي في الكليات العسكرية الأميركية, قابلت ضباطا صغارا وآخرين كبارا عبروا لي عن آراء منتقدة للغزو الأميركي للعراق والاحتلال الذي نجم عنه.

ولم يتردد هؤلاء في الحديث عن الحرب وعواقبها, بل أكدوا أنها كانت خطأ, موضحين في الوقت نفسه احترامهم لقرار قائدهم الأعلى.

وأكثر ما شد انتباهي وأنا أتحدث مع هؤلاء العسكريين هو إدراكهم لضرورة سحب الولايات المتحدة جنودها من العراق وتأكيدهم على أنه كلما تم ذلك بصورة أسرع كان ذلك أفضل.

وآخر ما يبعث على الأمل هو أن الرئيس الأميركي المقبل سيلقى تأييدا مهما بين الضباط العسكريين إذا ما قرر الانسحاب من العراق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.