واشنطن وبكين.. بين الإستراتيجية والتكتيك

واشنطن وبكين بين الإستراتيجية والتكتيك



عزت شحرور

تطلع للمستقبل وتمترس بالماضي
التناقض أساس التطور والتعاون أساس الاستقرار
مصالح مشتركة وخلافات متحركة

وكأن قدر الملف الصيني أن يبقى دائماً في أيدي صقور الإدارة الأميركية. فبعد زوليك وبولتون وقبلهما أرميتاج أنهى جون نيغروبونتي في بكين الجولة الخامسة من "الحوار الإستراتيجي" بين الصين والولايات المتحدة.

بكين لا ترى ضيراً في ذلك وهي التي تعتقد نظرية "اقترب من صديقك كثيراً واقترب من عدوك أكثر"، ويبدو أنها نجحت ولو جزئيا في حسم الجدل الذي دار طويلا داخل الإدارة الأميركية بين معسكرين يرفع أحدهما لواء المواجهة مع الصين باعتبارها عدوًّا إستراتيجيًا ويطالب الآخر باحتوائها والتعاون معها باعتبارها شريكًا إستراتيجيا.

الجدل لم ينته لصالح أي من الفريقين بل إلى تسوية بينهما لا تعتبر الصين عدوا ولا شريكا بل "منافسًا إستراتيجيا" يمكن التعاون معه في بعض القضايا ويمكن الاختلاف أو التصادم معه في قضايا أخرى.

تطلع للمستقبل وتمترس بالماضي
هكذا تبدوالعلاقات بين واشنطن وبكين، التي توصف بأنها من أكثر العلاقات الدولية تشابكا وتعقيدًا، ويبدو أن الزعيم الصيني الراحل ماو تسي تونغ كان محقًّا عندما قال ذات مرة: "إن الولايات المتحدة ليست البلد القادر على مساعدة الصين لتطوير اقتصادها. بل هي البلد الوحيد القادر على فعل ذلك".

وكذلك كان الأمر بالنسبة لواشنطن فقد أقر هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي الأسبق بذلك قائلا: "إن العلاقات الأميركية مع الصين لم تكن بسبب حاجتنا إلى تعميق الخلاف والشرخ بين الصين والاتحاد السوفياتي السابق، ولكن فرضتها حاجة الولايات المتحدة الاقتصادية لسوق الصين العظيم باعتباره أكبر سوق موحّد في العالم".

كان ذلك عندما كانت الإمبريالية الأميركية "نمر من ورق" بالنسبة للصينيين وعندما كانت الصين تشكل الخطر الأحمر أو الأصفر القادم الذي يهدد الأميركيين، وعندما كانت السياسة الخارجية للبلدين تبنى على أسس عقدية وأيديولوجية.

"
الولايات المتحدة أدركت خطورة المارد الاقتصادي الصيني الصاعد فحاولت إجهاضه، وعندما لم تفلح سعت إلى احتوائه لتعود وتقر بصعوبة ذلك, وتسعى إلى تدجينه والتعاون معه والاستفادة من الفرص التي يوفرها 
"

لكن اليوم وبعد أن جاء "عصر الاقتصاد ياغبي" وأصبح الاقتصاد هو المحرك الرئيسي للدبلوماسية الصينية, وعندما أصبح الاقتصاد الصيني أحد المحركات الأساسية في الاقتصاد العالمي. ومع الطفرة الاقتصادية غير المسبوقة في الصين خلال السنوات الأخيرة أدركت الولايات المتحدة الأميركية خطورة هذا المارد الاقتصادي الصاعد فحاولت إجهاضه.

وعندما لم تفلح سعت إلى احتوائه لتعود وتقر بصعوبة ذلك وتسعى إلى تدجينه والتعاون معه والاستفادة من الفرص التي يوفرها سواء على الصعيد الاقتصادي أو في مجمل المشهد الدولي الراهن.

فتنامي الاقتصاد الصيني وتشعباته وتشابك مصالحه مع العديد من القوى أدى إلى تنامي نفوذه على مساحات واسعة من "رقعة الشطرنج الكبرى".

وقد جاء ذلك في ظل ركود وتباطؤ اقتصادي واضح شهده الاقتصاد الدولي وفي ظل تورط أميركي متزايد في الكثير من بؤر التوتر الإقليمية والدولية.

حيث أصبحت واشنطن بحاجة إلى قوى دولية تقف معها أو تغض الطرف عن ممارساتها بدلا من قوى تناصبها العداء وشكلت الصين بحجمها وثقلها وباعتبارها أحد الأعضاء الدائمين الخمسة في مجلس الأمن نموذجا جيدا لتلك القوى.

لكن مع هذا فإن انعدام الثقة والخوف من المستقبل وما قد يخبئه كل طرف لنده بقيت السمات المميزة للعلاقات بين الجانبين وظلت المصالح الاقتصادية والسياسية المتشابكة والمعقدة تجعل كلا منهما كأنه شر لا بد منه بالنسبة للآخر.. تباعد وتنافس لا ينحدران إلى درجة التنافر وتقارب وتعاون لا يرقيان إلى درجة الصداقة.

وهذا ما يفسر فشل الجانبين حتى الآن وبعد خمس جولات من الحوار في الاتفاق على عنوان موحّد له, ففي الوقت الذي تصرّ فيه بكين على تسميته بالحوار الإستراتيجي فإن واشنطن تأبى إلا أن تطلق عليه اسم الحوار الرفيع المستوى باعتبار أن الولايات المتحدة لا تدخل في حوارات إستراتيجية إلا مع القوى الحليفة والصديقة وتلك شروط لا تنطبق على الصين حتى الآن.

الرئيس الصيني السابق جيانغ زي مين كان قد اعتبر أن محافظته على علاقات مستقرة مع الولايات المتحدة طوال فترة حكمه من أهم إنجازاته على الصعيد الدولي رغم ما اعترى تلك الفترة من توترات مباشرة في أعقاب قصف السفارة الصينية في بلغراد في مايو/أيار عام 1999 وحادثة تصادم الطائرتين الصينية والأميركية في أبريل/نيسان 2001.

وقبله كان الزعيم الصيني الراحل دينغ شياو بينغ قد حدد قاعدة من أربعة وعشرين مقطعا صينيا للتعامل مع الولايات المتحدة لا تزال تشكل أساس السلوك الصيني تجاه واشنطن، ومن تلك القاعدة: "الترقب الهادئ، الوقوف بثبات، المعالجة المتزنة، التربص للفرص المناسبة، البراعة في البلادة، والابتعاد عن المناطحة".

التناقض أساس التطور والتعاون أساس الاستقرار
أثبتت الوقائع منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول أن بكين شكلت بالفعل شريكاً إستراتيجيا موثوقاً به للولايات المتحدة في حربها على ما يسمى بالإرهاب بل ووافقت على افتتاح فرع لمكتب التحقيقات الفدرالي في العاصمة الصينية.

ولم تكن الصين عقبة دولية أمام الغزو الأميركي لكل من أفغانستان والعراق رغم معارضتها اللفظية لذلك قبيل الحرب وتعاملها مع نتائجها بعد ذلك.

"
أثبتت الوقائع منذ أحداث 11 سبتمبر أن بكين شكلت بالفعل شريكاً إستراتيجيا موثوقاً به للولايات المتحدة في كثير من القضايا, ومن جانبها لم تسع واشنطن كعادتها إلى استفزاز الصين في بعض القضايا الحساسة
"

كل ذلك شكل أرضية مناسبة للرئيس الصيني خو جين تاو خلال زيارته الولايات المتحدة في يناير/كانون الثاني 2004 لطرح تلك الآلية للحوار بينهما والتي عقدت جولتها الأولى في فاتح أغسطس/آب  2005 في بكين.

ومنذ ذلك الحين عقدت أربع جولات نجحت في جسر الهوة بين الجانبين في العديد من القضايا الخلافية سواء على صعيد العلاقات الثنائية أو على صعيد القضايا الإقليمية والدولية.

فقد أبدت الصين مرونة كبيرة تجاه سعر صرف عملتها مقابل الدولار واتخذت سلسلة إجراءات اقتصادية للحد من سياسة الإغراق وحماية الملكية الفكرية وأبدت شفافية أكثر في الإعلان عن موازنتها العسكرية وشهد سجلها في مجال حقوق الإنسان والحريات الدينية تحسناً ملحوظاً وتلك قضايا كانت جميعها مثار جدل وخلاف بين الجانبين.

وعلى صعيد القضايا الإقليمية والدولية بذلت بكين جهوداً دؤوبة في محاولة حل أزمة البرنامج النووي لكوريا الشمالية من خلال استضافتها لصيغة المحادثات السداسية وتبذل أيضاً جهوداً مماثلة بشأن الملف النووي الإيراني.

وعززت كذلك من مشاركتها في قوات حفظ السلام الدولية ونجحت في إقناع الحكومة السودانية بقبول مبدأ نشر قوات حفظ سلام دولية بدارفور.

وتعهدت الصين في مذكرة تفاهم وقعتها مع الولايات المتحدة في نوفمبر/تشرين الثاني 2000 بأنها لن تقوم بمساعدة أية دولة على تطوير صواريخ يمكن تزويدها برؤوس نووية.

ومن جانبها لم تسع واشنطن كعادتها إلى استفزاز الصين في بعض القضايا الحساسة، فرغم إقرار الكونغرس الأميركي بيع صفقة ضخمة من الأسلحة لتايوان لم تسارع الإدارة الأميركية إلى تنفيذ تلك الصفقة المغرية بل واصلت ضغوطها على الرئيس التايواني تشن شوي بيان لتخفيف حدة التوتر مع بكين.

وعلى الرغم من أن بكين كانت تقدر أن اللقاء الذي جمع بين الرئيس الأميركي جورج بوش والزعيم الروحي للتيبت الدالاي لاما الذي تعتبره الصين منشقا سياسيا كان بهدف إرضاء بعض جماعات الضغط في الكونغرس الأميركي وعلى الرغم من حرص الرئيس بوش على أن يكون اللقاء بعيدا عن عيون وسائل الإعلام للتخفيف من وطأة تداعياته فإن الرد الصيني كان سريعا وحاسما بمنع حاملة الطائرات الأميركية كيتي هوك من الرسوّ في موانئ هونغ كونغ ومنع جنودها من إحياء أعياد الشكر مع ذويهم الذين وفدوا إلى الميناء الصيني لاستقبالهم.

مصالح مشتركة وخلافات متحركة
وبالعودة إلى الجولة الخامسة للحوار بين البلدين التي اختتمت مؤخرا وعقدت لأول مرة خارج العاصمة الصينية في مدينة غوي يانغ جنوب الصين وحضرها لأول مرة مندوب عسكري صيني نجد أن العناوين الثلاثة الكبيرة التي تصدرتها كانت تايوان وكوريا الشمالية وإيران.

فهناك التطورات الحالية والمستقبلية في تايوان في أعقاب الفوز الكاسح الذي حققه حزب الكومنتانغ المعارض في الانتخابات البرلمانية, والتوتر المتوقع الذي قد ينجم عن منح واشنطن تأشيرة ترانزيت للرئيس التايواني تشن شوي بيان للتوقف للتزود بالوقود في ألاسكا في طريقه إلى غواتيمالا.

كما أن هذه التطورات الحالية والمستقبلية تأتي في ظل التداعيات المحتملة لنتائج الانتخابات الرئاسية التايوانية المزمعة في مارس/آذار القادم التي ستترافق مع استفتاء حول انضمام تايوان إلى الأمم المتحدة، وهو الأمر الذي تتابعه بكين بقلق واهتمام رغم الطمأنة التي أطلقها نيغروبونتي بأن واشنطن تؤيد سياسة "صين واحدة "وتعارض استقلال تايوان أو انضمامها إلى الأمم المتحدة .

أما بالنسبة لملف كوريا الشمالية فإن الحوار يأتي في ظل تعثر المحادثات السداسية التي تستضيفها بكين وفي ظل التغيرات التي حدثت في كوريا الجنوبية في أعقاب فوز الرئيس الجديد لي ميون باك في الانتخابات الرئاسية وما حملته من آثار على العلاقات بين الكوريتين سيكون لها بالتأكيد تداعيات على المحادثات السداسية برمتها.

"
ما من شك في أن العلاقات الصينية الأميركية قد نجحت خلال السنوات القليلة الماضية في المحافظة على حالة من الاستقرار النسبي، إلا أنه لا يوجد لدى المراقبين أدنى شك في هشاشة هذا الاستقرار وفي أنه سيبقى مرشحا لانهيار أو انفجار قادم
"

وأخيراً وعلى صعيد الملف الإيراني فإن الحوار ترافق مع زيارة أخرى يقوم بها مسؤول الملف النووي الإيراني سعيد جليلي لبكين وتسبق الاجتماع المزمع للدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن وألمانيا في برلين الأسبوع القادم ومساعي واشنطن لتشديد العقوبات على طهران التي تواجه برفض صيني وروسي.

وقد حددت بكين موقفها بوضوح فأعلنت أنها لا تفضل صدور قرار جديد من مجلس الأمن لتشديد العقوبات على طهران وأن الصين تفضل مواصلة الحوار والتفاوض في إطار القرارات الحالية مع مطالبة الأطراف المعنية بإبداء درجات أعلى من المرونة.

ويتوقع وفق مصادر صينية مطلعة أن تقترح الصين توسيع آلية الحوار الحالية الجارية بين الدول الخمس الأعضاء في مجلس الأمن وألمانيا والتي تسمى "خمسة زائد واحد" لتفتح الباب لانضمام إيران في حوار مباشر وتصبح خمسة زائد اثنين.

ما من شك في أن العلاقات الصينية الأميركية قد نجحت خلال السنوات القليلة الماضية في المحافظة على حالة من الاستقرار النسبي، إلا أنه لا يوجد لدى المراقبين أدنى شك في هشاشة هذا الاستقرار وفي أنه سيبقى مرشحا لانهيار أو انفجار قادم قد يأتي من أصغر الشرر.
ــــــــــــ
مراسل الجزيرة في بكين

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.